نهاية التاريخ هو بالذات تحديد النهاية الحتمية في النموذج الذي تتجسد فيه الحرية والدولة الديمقراطية العقلانية، من أوروبا إلى أمريكا إذن، هي ارض المستقبل، فها هنا سوف يتكشف في العصور القادمة عنصر هام من عناصر تاريخ العالم، وربما كان كذلك على شكل نزاع بين أمريكا...
إن التاريخ الإنساني عبارة عن وقائع وأحداث وقعت في زمن الماضي. مستمرة وسلسلة متطورة أفضت إلى الوعي. ومعرفة القوانين المتحكمة في تحديد الأنماط الإنتاجية ونمو وتطور المجتمعات، والتغير الذي اصاب البناء العام للمجتمعات. حتمية القوانين تندرج ضمن الفعل البشري، وفاعلية الإنسان الذي يمتلك الوعي الطبقي، والناس هم الذين يصنعون تاريخهم، والوجود الاجتماعي نتاج للوعي الطبقي.
والمرحلة الإنتاجية التي أنتجت أوضاعا وفكرا من هيمنة طبقة ما. فالنهاية في الماركسية تعني الوصول إلى المجتمع الشيوعي الذي ينهي الاغتراب والاستلاب والملكية الخاصة. فالقراءة المادية للتاريخ والواقع الاجتماعي ينهي الايديولوجيا الليبرالية وينعي الرأسمالية كنهاية حتمية، هذه القراءة الاستقرائية للتاريخ بأدوات الجدلية المادية عند ماركس تعكس فكرة واحدة، أن العالم يتغير والإنسان صانع هذا التغير، ومؤسس للفكر الجديد الذي سيعمل على استلهام القوى العمالية في العالم ودول خاضت التجربة الاشتراكية، قراءات معكوسة عن فلسفة هيجل التاريخية الذي اعتبر التقدم والحضارة تحول بين كيانات وحضارات مختلفة، من الشرق إلى الغرب، عندما يشرح مسار الوعي والحرية، ويعود في قراءة الحضارات السابقة دون الوقوف مثلا على أسباب انهيار روما. فهناك غاية تحكم العالم، ومكر التاريخ يعتبر الإنسان مجرد أداة ووسيلة في تحديد مهمة التاريخ وغاياته، العناية الإلهية والعقل الكلي رغم حنكة الأبطال وقوة نواياهم وانفعالاتهم. والإرادة التي تعني حاجة الإنسان للتغيير دون القدرة في تحديد الزمان لذلك.
يدرك هيجل أن تاريخ العالم يتجه من الشرق إلى الغرب، لان أوروبا هي نهاية التاريخ على نحو مطلق، كما آسيا هي بدايته، فتاريخ العالم له شرق (حكمة الشرق هنا هي في ذاتها حد نسبي)، إذ على الرغم من الأرض تشكل كرة، فان ما أنجزه التاريخ لا يشكل دائرة حولها(1)، التاريخ سلسلة تبدأ من حالة الكمون إلى الحرية التامة، والعقل جوهر، والقوة اللامتناهية المحركة للواقع، وتاريخ العالم ليس سوى مسار الروح لكي تصل إلى الوعي بذاتها، وتحقق تلك الوحدة بين الذاتي والموضوعي وتذويب التناقضات. إن الفكرة الوحيدة التي تجلبها الفلسفة وهي تتأمل التاريخ هي الفكرة البسيطة عن العقل: أن العقل يسيطر على العالم وان تاريخ العالم بالتالي، يتمثل بوصفه مسارا عقليا(2)، هذا التعين والتحقق للعقل يبدأ من الفكرة التي تشبه البذرة عند هيجل، يعني أنها داخلية ومنغلقة على ذاتها، تنمو بالانفتاح والتطور، وتتعين في العالم الموضوعي وتنتهي بالحرية. فالشرق لم يعرف، ولا يزال حتى اليوم لا يعرف سوى أن شخصا واحدا هو الحر، أما العالم اليوناني والروماني، فقد عرف أن البعض أحرار، على حين أن العالم الجرماني، عرف أن الكل أحرار، ومن ثم فان الشكل السياسي الأول الذي نلاحظه في التاريخ هو نظام الحكم الاستبدادي، والثاني هو الحكم الديمقراطي، والثالث هو نظام الحكم الملكي(3)، هذه الأصناف من الحرية المناسبة للمجتمعات، تعني أن الحضارة تحولت من الشرق إلى الغرب واكتملت عند الجرمان، وتحققت في الدولة باعتبارها الروح الموضوعي، وحدة الإرادة الكلية مع إرادة الفرد المؤسس الحقيقي للدولة.
نهاية التاريخ هو بالذات تحديد النهاية الحتمية في النموذج الذي تتجسد فيه الحرية والدولة الديمقراطية العقلانية، من أوروبا إلى أمريكا إذن، هي ارض المستقبل، فها هنا سوف يتكشف في العصور القادمة عنصر هام من عناصر تاريخ العالم، وربما كان كذلك على شكل نزاع بين أمريكا الشمالية وأمريكا الجنوبية، إنها بلاد الأحلام لكل أولئك الذين ملوا وضجروا من مخزن الأسلحة التاريخي في أوروبا القديمة(4)، هذا العالم الجديد نتاج للثقافة الرأسمالية، والفلسفة الليبرالية التي تفرد في تفصيلها الفرنسي الكسيس دوتوكفيل في كتاب "الديمقراطية في أمريكا"، القائمة على المؤسسات والمساواة وقوة المجتمع المدني، والقوانين الوضعية، والطبيعة الجغرافية، وخصائص النظام السياسي، ومسألة الحرية الفردية، ودور اللامركزية في التدبير والتسيير، ومبدأ السيادة للشعب.
روح الرأسمالية والعقلانية آتية من القيم البروتستانتية حسب عالم الاجتماع ماكس فيبر التي حملها المهاجرون الأوائل من أوروبا إلى أمريكا، وترسخت بفضل التربية والتعليم، والهامش الواسع للحرية الفردية والجماعية، وفي الطرف المقابل كانت بعض الدول تعيش القبضة الحديدية، والسلطة المطلقة الأحادية من الفرد الواحد أو جماعات مهيمنة.
كان الاتحاد السوفياتي نقيضا للغرب والفلسفة الليبرالية. انقسم العالم من خلال حرب باردة في الايديولوجيا. ونتج عن ذلك صراعات مريرة وحروبا بالوكالة، فكل نظام يرسم معالمه ويطرح البديل في التقدم وقيادة العالم نحو الرخاء والتنمية الشاملة لما في الرأسمالية والشيوعية من محاسن تحرر الإنسان من الحتميات، وتسد الحاجات والرغبات. ونيل الاعتراف من الدولة المانحة للحقوق والحريات أو الدولة التي تحرره من نفوذ البورجوازية، وحالة الاغتراب والاستلاب للطبقة العمالية نحو إلغاء الملكية الخاصة.
هذا التضاد انتهى لانهيار المعسكر الاشتراكي وتحول الشعوب إلى اقتصاد السوق، وتصاعد نزعة التحرر والأغلال المكبلة للحريات الفردية والجماعية تحت ذريعة التأميم وقوة الدولة المهيمنة، وتقوية مناعة الاقتصاد القومي. فانهيار جدار برلين كان الحد الفاصل بين الأمس واليوم، للقول أن العالم بدأ يتغير، والتاريخ ينتهي ولا يوجد في الأفق قوى يمكنها إنتاج النموذج النهائي الذي يعني، أن نهاية التاريخ تعني زوال الأنظمة المضادة، وإحلال النظام البديل والأخير الذي يعني الرفاهية والحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية. فالفطرة السليمة توضح أن للديمقراطية الليبرالية مزايا كثيرة على منافستيها الكبيرين، وهما الفاشية والشيوعية، في حين يصرح الغربي بالقول: أن ولاؤنا لقيمنا وتقاليدنا الموروثة التزامنا الأكيد بالديمقراطية(5)، الليبرالية منتهى الإبداع ونهاية الأنظمة المعادية والقوميات الفاشية، والعالم مطالب أن يختار بين الخير والشر، حيث لا يوجد اعدل نظام وفلسفة أقوى من الليبرالية بقواعدها وقيمها السياسية والاجتماعية، لا بد من التحاق الدول الأخرى بالقطار، ودخول المحطات من خلال إصلاحات جوهرية، وتبني القيم الليبرالية في كل المجالات الحيوية للقضاء على الأنماط التقليدية، ووضع الدول إزاء التجربة الأمريكية في قوة القوانين وحيوية المجتمع المدني، والتنافس الشريف في الميدان السياسي والاقتصادي، تسعى كافة المجتمعات الليبرالية الحقيقية من حيث المبدأ لاستئصال الأسباب الحقيقية لعدم المساواة، كذلك فان دينامية الاقتصاديات الرأسمالية تميل إلى الإطاحة بالكثير من العوائق التقليدية والثقافية في سبيل المساواة بفضل التغير الدائب في طلبها للأيدي العاملة(6).
دينامية المجتمع الليبرالي في الحرية الفردية والجماعية، وتعدد الأديان وحركية المجتمع المدني والمساواة، نتاج للسيرورة في بنية الفكر الغربي، والثورات اللاحقة والإصلاح الديني، ووضع تشريعات وقوانين وضعية لصيانة الحق والدفاع عن المكتسبات في مجال حقوق الإنسان، وحرية التعبير والمنافسة الاقتصادية.
فالحضارة والثقافة كلاهما يشير إلى مجمل أسلوب الحياة لدى شعب ما أو هي امتثال لروح الشعب كما قال هيجل، هذا الشعب الذي وضع القيم المناسبة التي لملمت الصراعات والانقسامات في المجتمع الواحد عند معايير مقبولة وذات مصداقية في التدبير والتسيير، لا يوجد مجتمع خالد كما يقول روسو، إذا كانت اسبرطة وروما قد اندثرتا، فما هي الدولة التي يمكن أن تأمل في أن تدوم للأبد، وحتى أكثر المجتمعات نجاحا فإنها تتعرض في نقطة ما لانحلال وتآكل في الداخل(7)، ومشكلة الأنظمة الليبرالية الحرة أنها تواجه مشاكل جديدة في جوهرها قيمية تتعلق بالمجتمع المتعدد، والثقافة السائدة المهددة من قبل قوميات وتيارات راديكالية. فالأيديولوجيا الليبرالية أفضل نظام ممكن للتقدم والرخاء، والتقاليد والهوية هي ما يمنح المؤسسات مصداقية للعمل وللفعل الأخلاقي، والإحساس العام بالعدل والمساواة.
إن حرية التفكير والجدل الحر، هما من القيم الليبرالية الجوهرية التي لا تحتاج حتى إلى تبرير إضافي، وعلى الرغم من ذلك فمن الممكن تبريرها براجماتيا في صيغة الدور الذي يلعبانه في البحث عن الحقيقة(8)، هذه التقاليد الموروثة من الحضارتين اليونانية والرومانية، ومن الثورات الجديدة في عالم السياسة والفكر أفضت نحو بناء مجتمعات قوية. فقد كان السوسيولوجي ماكس فيبر واضحا في الربط بين القيم البروتستانتية وروح تطور الرأسمالية، حيث إن القيم مرتبطة بالأهداف والغايات، قيم عقلانية نتاج للسلطة الشرعية الديمقراطية، ونتاج للحرية والقواعد الجديدة في ممارسة السلطة السياسية، وما يثير الدهشة أن هذه الأمة الديمقراطية الأشد وضوحا في حدودها السياسية، ونظامها الدستوري واجهت مشكلة في تحديد هويتها الوطنية، تشبه في بعض جوانبها المشكلة التي واجهتها ألمانيا الإمبراطورية، فقد تمثلت المشكلة السياسية الأساسية للولايات المتحدة بعد اتحاد ولاياتها في كيفية إدماج أفراد الجماهير ذات الأصول المختلفة، ممن بدوا سيلا تستحيل السيطرة عليه تقريبا، ولم يكونوا أمريكيي المولد، وإنما صاروا أمريكيين بالهجرة، فكان يجب حينئذ صناعة الفرد الأمريكي(9). فالسؤال الذي يطرح الآن بصدد هوية الشعب الأمريكي: هل شعب واحد أم شعوب متعددة؟ بالطبع هناك تنوع في تشكيلات هذا المجتمع لكن تذويب الهويات في هوية حقيقية أساسها مكامن القوة والصلابة في الفلسفة الليبرالية التي تنظر للشخص بوصفه قيمة، ذو قدرة ومهارات سياسية واجتماعية في الامتثال للقيم والمعايير السائدة، التي تنم عن قوة الرأسمالية وعن حداثة الغرب الليبرالية بعيدة المنال على العديد من مجتمعات العالم.
إن بعض دول شرق آسيا استطاعت تحقيق هذه النقلة بنجاح في الجيلين الماضيين، لكن غالبية الدول النامية في الفترة نفسها إما بقيت تراوح مكانها، أو نكصت وارتدت فعليا إلى مرحلة سابقة(10)، وثبات الغرب على نماذجه وتقنياته في إنتاج المعرفة والقواعد الممكنة في تدبير المجتمعات أمر في غاية الأهمية لاستمرارية القيم والتقاليد، التي تجدرت بفعل متانة وجدارة هذه القيم في تقدم الغرب، القيم العقلانية والديمقراطية الليبرالية، وثقافة العصر الجديد الذي ينتهي بسقوط الأنظمة الفاشية، وضد المشروع الماركسي الذي يهتم بالحاجة والرغبة في الإشباع والسيطرة على الطبيعة، وإلغاء تقسيم العمل في شيوعية المجتمع، وضد الفلسفة السوداوية التي جاءت مع نيتشه والصورة القاتمة عن الحضارة الغربية والمسيحية، وكل القيم العقلانية التي رفعت من مكانة الغرب وتفوقه التقني والعلمي، من الصعب على من يؤمن منا بالديمقراطية الليبرالية أن يقطع بعيدا في الطريق الذي انتهجه، فهو عدو صريح للديمقراطية وللعقلانية التي تقوم عليها(11).
ومن يتأمل في مزايا الليبرالية اليوم يدرك أنها فلسفة شاملة في السياسة والمجتمع، أفضل نظام ممكن للتقليل من العداوة، وإتاحة الفرص أكثر للنجاح، وتمتيع الإنسان بكامل الحرية، وتقليص الحروب والصراعات عبر توسيع شبكة العلاقات الدولية، وإقامة بدائل في التعاون المنصف بين الكيانات المختلفة على أساس المصلحة المتبادلة، وإذا كان الأمر كذلك لماذا الحروب وصراع الحضارات؟ الأمور لا تعكس الأيديولوجية الواحدة في عالم أحادي القطبية. تقود الولايات المتحدة العالم بمفردها بعد انتهاء الحرب الباردة، في ظل النظام العالمي الجديد "أحادي القطبية"، وهذه القيادة للعالم كان لا بد لها من دستور تحكم العالم من خلاله، وكان المشرعون له هم المحافظون الجدد، وكان هذا الدستور بمنزلة التنظير السياسي لعالم ما بعد الحرب الباردة، والذي يشرع القوانين لمستقبل الكون القادم(12)، هذا التشريع يمنح الصدارة للغرب في نزعته المركزية الجديدة التي تعني نهاية التاريخ في النموذج الليبرالي الديمقراطي، نهاية التطور الاجتماعي والثقافي والسياسي، والشكل الأخير للحكومات التي تلحق بالركب عبر الدخول في اقتصاد السوق، وتبني النموذج الفعلي في الرقي.
فالغرب هو الحضارة الوحيدة التي لها مصالح أساسية في كل حضارة أو منطقة أخرى، ولها القدرة على التأثير على سياسة وأمن واقتصاد كل حضارة أو منطقة أخرى، المجتمعات التي تنتمي إلى حضارات أخرى محتاجة دائما إلى مساعدة غربية لتحقيق أهدافها وحماية مصالحها(13)، هنا تنتهي الأيديولوجية المعادية، ويتجلى المجتمع ما بعد الصناعي في مكانة القطاع الصناعي من إنتاج السلع إلى اقتصاد الخدمات، وظهور طبقة الاقتصاديين والتقنيين، وأصحاب المهارات حسب دانييل بيل في كتاب "نهاية الايديولوجيا "، فقد كان العالم منقسما على ذاته، ويعيش الاستقطاب السياسي والتبعية، وأضحى العالم بعد الحرب الباردة يتجه نحو تحرير التجارة العالمية، وتصفية مخلفات الماضي للانتقال الديمقراطي في العديد من دول العالم الثالث، فكانت الثورات الناعمة والانتقال السلس للسلطة، وأصبحت الديمقراطية الليبرالية مطمح الشعوب التواقة نحو الحرية والتحرر.
انه عصر العولمة والتكنولوجيا والقرية الكونية، فليست العولمة كما فهمها الكثير من المثقفين ذوي الميولات اليسارية والمحافظة تنهي السيطرة والهيمنة والاكتساح، والقضاء على الخصوصية الثقافية والحضارية في تعميم النموذج الغربي، بل كذلك تعميم الأسواق وتنويع سياسة التبادل للقيم الثقافية والاقتصادية، وسياسة احتواء البلدان الاستبدادية بالضغط والعقوبات، والمطالبة بالتسريع للإصلاحات، والانتقال الديمقراطية، وتحقيق العدالة الانتقالية في الصفح، وجبر الضرر من ماضي الانتهاكات، والميز العنصري كما في جنوب إفريقيا.
لاشك أن العولمة تفتح أفقا جديدا أمام تواصل البشر، ربما هو الذي جعل فوكوياما يتحدث عن نهاية التاريخ، وانتصار النموذج الليبرالي، هناك حقا إمكانيات تتيحها تقنيات الاتصال من أسر التاريخ وعبادة الأصول، وأقبية الهويات ومعسكرات العقائد(14)، فالنهاية محكومة بالنموذج السائد في السياسة والاقتصاد والاتصال، وفن تسيير العالم، والتقليل من الصراعات والحروب من خلال سياسة الاعتراف المتبادل بين السيد الارستقراطي والعبد المطالب. ففي المجتمع ما بعد الصناعي لا مقياس إلا العمل والكفاءة، وقدرة المجتمع على صيانة ذاته من الهويات القاتلة والمدمرة، وإذا كانت الهوية الأمريكية يتم تعريفها بمجموعة من المبادئ العامة الخاصة بالحرية والديمقراطية، فانه من المفترض أن الترويج لهذه المبادئ في الدول الأخرى يجب أن يكون الهدف الأول للسياسة الخارجية الأمريكية(15)، هذا يعني انتصار فكرة الليبرالية، وقبول الكيانات الأخرى بكونية المفاهيم العقلانية التي كانت نتيجة للثورات السياسية كالثورة الانجليزية والثورة الفرنسية، لذلك يقف فوكوياما عند التراث الفلسفي الغربي مع جون لوك وتوماس هوبس، وتحليل حالة الطبيعة والسلطة المطلقة والمقيدة، والنظام الديمقراطي الذي يستند في قواعده الأساسية على الحرية والمساواة، والاعتراف بالحكومة المنتخبة خصوصا في الفلسفة السياسية عند جون لوك.
إن الدولة الليبرالية وليدة فكر هوبس ولوك، تدخل في صراع مطول مع شعبها ذاته، إنها تريد أن تمحو جميع الاختلافات إلى حدود التناسق الكلي، بين الثقافات التقليدية المتصارعة المكونة لشعبها، وتعلم هذا الأخير أنها هي الكفيلة بتقدير مصلحة على مدى بعيد(16))، إلا أن فوكوياما يعتبر تنظير هيجل عن الحق والدولة ومفهوم العقلانية والشرعية واقعا لا زال قائما في جعل الفلسفة اللبرالية ذات قيمة ومصداقية في قيادة العالم للنهاية الحتمية، أن لا بديل عن هذا النظام في العدالة الاجتماعية وحل النزاعات على قاعدة التوافق والمصلحة وتعميم الخيرات على الكل لان المجتمع الرأسمالي قائم على الإنتاج والاستهلاك أكثر، وبالتالي سد الحاجات والنقص والحرمان، يعني ببساطة أن الديمقراطية الليبرالية انتصرت أخيرا ويمكن نشرها وتعميمها، والسؤال الذي يطرح ذاته: ما هي الوسائل الممكنة والمشروعة في نشر وتعميم الديمقراطية الليبرالية؟
إزالة الفكر المضاد والأنظمة الاستبدادية وإتاحة المجال للفكرة حتى تتبلور في الثقافة والفكر.
إن الديمقراطية الليبرالية أفضل نظام ممكن في عدالة متوازنة وقيم تصون الكرامة، وتعلي من شان الفرد والجماعة دون المساس للخصوصية والثقافات، وتطبيق الديمقراطية يحتاج إلى ديمقراطيين، وإزالة الفاشية والتسلط يعني تقبل كل المعايير الموجودة في الليبرالية، يعني أن المجتمع مطالب أن ينسلخ عن جذوره وإلا يمكن أن تقتصر الليبرالية على الجانب السياسي دون الجانب الثقافي، وإذا عدنا إلى العالم اليوناني نجد نظام المدينة (الديمقراطية) كانت فتية بنيت على سلطة معممة ومشتركة، وثقافة منتشرة بين الكل، وحياة اجتماعية مليئة بالحيوية والإبداع، وشكلت ساحة "الأغورا" الفضاء العمومي الذي أضفى نوع من الوحدة والانسجام على المجتمع الأثيني.
عندها يثار النقاش والجدال عن قضايا الشأن العام بكل حرية، لا يوجد وعي ذاتي وموضوعي بدون حرية، ومن يطبق الديمقراطية فكرا وممارسة دليل على تمثلها ثقافة وتقليدا وتربية، والتاريخ الذي يكتمل في صورة معينة، مسار خطي ومتسلسل يفضي إلى نتائج نهائية، حيث تكتمل في أشكال معينة من الحياة الفردية والجماعية. تحولات في الفكر وثورات متنوعة، ومواقف من الفكر السياسي والاجتماعي من المرحلة الكلاسيكية، وضعت الديمقراطية الليبرالية وفق مسارها الصائب في قيادة العالم نحو الأمن والرخاء، أو على الأقل طرحت بديلا عن أنظمة أخرى كانت المنافس، وتراجعت بفعل أسباب متعددة، الشيوعية التي تعد الإنسان بنهاية الرأسمالية والملكية الخاصة، والأنظمة الفاشية التي تركب على الشعارات القومية الرنانة، والتي تجيش وتلهب النفوس، إلا أن الإشباع وسد الحاجات الأساسية تعمل وفقها الليبرالية، حيث الحرية الفردية والإنتاج والاستهلاك أكثر لإزالة كل أشكال الحرمان والنقص، والسيادة على الطبيعة.
فالدولة الليبرالية بالمقابل فهي دولة عقلانية لأنها توفق بين متطلبات الاعتراف المتنازعة على قاعدة الوحدة المتبادلة، التي يمكن قبولها أي على قاعدة هوية الفرد باعتباره كائنا إنسانيا، هذه الدولة ينبغي أن تكون شمولية أي أن تمنح الاعتراف لجميع المواطنين لأنهم كائنات إنسانية(17)، يعني تحقيق المواطنة الكاملة رغم الاختلاف العرقي والثقافي واللغوي، ويدمج الفرد في المجتمع الواحد، يتمتع بالمواطنة والحقوق، ويمتثل للقوانين والمعايير والقيم الموجودة في المجتمع، وعندما تمنحه الحقوق وتلقي عليه واجبات ومهام، يمارسها بكل حرية ويتطلع إلى تحسين وضعه الاجتماعي من خلال ما يوفره المجتمع من إمكانيات ووظائف للزيادة في الكفاءة والمؤهلات العملية، لذلك حاول الفيلسوف الامريكي جون راولز في كتاب "نظرية في العدالة "، وكتاب "الليبرالية السياسية " اقتفاء أثر العدالة ومفهومها عند اليونان مع أرسطو باعتبارها إنصافا، وأم الفضائل عند أفلاطون، عدالة فردية وعدالة اجتماعية، والعدالة في المذاهب النفعية عند دافيد هيوم وجون استيوارت مل وجرمي بنثام، ورواد الفكر التعاقدي.
هذه العدالة تندرج ضمن فكرة التعاون المنصف بين الناس الذين يشتركون في القيم، مثال لنظرية العقد الاجتماعي كصيغة توافقية تضمن الحقوق للشخص، وترفع من مكانة الإنسان وقيمته الاجتماعية والسياسية والقانونية بفضل النظام الديمقراطي وسيادة المؤسسات، والليبرالية السياسية تتأسس على منطق الإجماع المتداخل للثقافة الديمقراطية، والتقاليد الراسخة في المجتمع عن منفعة القواعد المشتركة، ومبدأ التعددية السياسية، والحرية في مشاركة الناس للقرار السياسي وبالتالي يقدم "راولز" نظرة شاملة عن منطق الليبرالية السياسية وفكرة العدالة، وعن مجموعة من القيم العملية التي تمنح دينامية للمجتمع الأمريكي المعاصر في حل التناقضات والمشاكل التي تعترض الحياة السياسية والاجتماعية.
يبقى التاريخ منفتحا على مستجدات غير محسوبة، غير قابل للاكتمال، هذا التاريخ الذي يكتمل عند فكرة معينة سرعان ما يتم تجاوزه إلى معرفة جديدة ونظام عالمي بديل ينتهي لإبراز حدود الليبرالية الديمقراطية في نسختها الغربية، ونسبية النماذج التي تعزز منطق التغير الذي يعني أن الإنسانية تجدد من معارفها وقواعدها في ممارسة السياسة وتدبير الحياة.
اضف تعليق