الفلسفة بهذا المعنى علاج للنفس، علاج لأمراض العصر، ومقاومة أشكال الزيف، وسبل انتشال الإنسان من الوعي السطحي. فن للعيش وأسلوب حياة يمكن التدرب عليها بواسطة مجموعة من الرياضات الروحية. ممارسة علاجية تقوي النفس، وتعزز من الروابط الداخلية في الإنسان، وتجعلنا نجابه الحياة بأمل. تقوي النفس...
بدأت الفلسفة بالدهشة من الوجود والطبيعة وانطلق التفلسف كذلك من الذات على خطى سقراط في دعوة الفيلسوف إلى التفلسف لإزالة الغموض واللبس عن الأشياء الغامضة، والجهل الذي يلف الإنسان من جراء النسيان والانغماس في الملذات الحسية أو هكذا نفهم خطوات سقراط وفعله في بناء منطق للفلسفة يروم بالأساس العناية بالإنسان، وليس الاهتمام بالطبيعة. فلسفته إنسانية قوامها الفضيلة، وبناء الإنسان في بعده الفكري والأخلاقي.
عناية الفيلسوف بالتعريفات والدقة في فحص الآراء تعتبر أكثر القضايا الفلسفية التي تجابه الفيلسوف في التفلسف والفهم الصحيح للحياة. الفلسفة بهذا المعنى علاج للنفس، علاج لأمراض العصر، ومقاومة أشكال الزيف، وسبل انتشال الإنسان من الوعي السطحي. ويمكن القول أن المذاهب التي جاءت بعد أرسطو انبثقت من أفكار الحكيم سقراط، منها الرواقية والأبيقورية والكلبية، ذلك ما يشير إليه الفيلسوف الفرنسي "بيير هادو" في كتابه "الفلسفة طريقة حياة " اعتباره أن الفلسفة فن للعيش وأسلوب حياة يمكن التدرب عليها بواسطة مجموعة من الرياضات الروحية. ممارسة علاجية تقوي النفس، وتعزز من الروابط الداخلية في الإنسان، وتجعلنا نجابه الحياة بأمل.
إنها العلاج الأمثل للانفعالات والأهواء المنفلتة، إنها رغبة أكيدة في الفعل وعقلنة الأفعال ضد الرغبات اللامشروية والميولات الهدامة، نوع من المتعة الفكرية كما قال أرسطو، متعة التأمل والتبصر في أهداف الوجود وإيقاع الحياة، تدريب روحي يرمي إلى تغيير نظرة الإنسان للحياة والوجود، فلا جدوى من الفلسفة إذا لم تعمل على تحريرنا من القلق والاضطراب، عمل الأبيقورية في شخص "أبيقور" من خلال رسائله أن اللذة بداية الحياة السعيدة ونهايتها، لذة التفكير والتأمل، لذة العيش من خلال الفلسفة وبالتفلسف، لذة لا تساويها اللذة العابرة أو الماجنة، لكن الغاية من اللذة أن تشعر النفس بالسكينة والجسد بالارتياح والمتعة، هنا يتجلى الجزم على قيمة الحياة الطيبة، الغاية من الأخلاق الفعل، علينا امتلاك الأفكار الصحيحة والمفيدة، أن نكون سعداء يجب أن نتميز بالصدق والنزاهة والاستقامة، أن نخلق البهجة والسرور في نفوسنا، وفي علاقتنا بالآخر، ما يسميه "ميشيل فوكو" الإنهمام بالذات، لا يعني التقوقع على ذات متفردة ومكتفية بذاتها، بل كذلك العلاقات مع الآخر، في عالم مشترك تتشابك فيه خيوط من العلاقات يطبعها التراتبية والسلطوية.
الخروج من الأنا الواحدية الضيقة إلى رحاب الفكر الكوني، وعلى الإنسان أن يعيش تجارب في حياته، تجربة الألم والقلق، تجربة المعاناة والحرمان، والتعلم والتدرب لكي يتذوق طعم الحياة السعيدة. لذة العيش في الحاضر دون أن يحاصرنا الماضي بآلامه وانتكاساته، ولا نترقب دائما ما يؤول إليه المستقبل.
تدبر النفس العلاقة بين الحاضر والماضي، والجسد يحيا في الحاضر، عقلنا يقيس الأشياء والحقائق، بالعقل نرتقي ونتجنب الألم، ونسعى أن نجعل من العقل يدبر أمورنا. الحياة الفاضلة كما يرغب فيها الرواقي هي الحياة العاقلة، حياة الفضيلة، وهي حياة السعادة. الفلسفة تدريب على الموت، ومن تعلم كيف يموت لا يمكن أن يصير عبدا أو مستعبدا، حكمة "سينيكا" وتأملات "ماركوس أوريليوس"، النفس لوحدها خالدة، وتعرف بالتمام طريق الخلود، ممارسة الفضيلة أولى الخطوات نحو المعرفة الصحيحة.
ليست الفلسفة بناء متماسك للمفاهيم وعالم الحقائق المجردة، الفلسفة فن للعيش وأسلوب حياة يخترقنا، ويجعلنا نعيش في الحاضر بعيدا عن ما يكدر صفاء النفس، الحياة الفلسفية علاجية وإحداث تحول عميق في أسلوب الحياة، ونظرة الإنسان لذاته وللعالم. مشكلة الإنسان في الحياة، إنه يطمع في الأشياء الصعبة، المشكلة تتعلق بالنفور من التعلم والتدرب، ذلك يحتاج كما قال "كييركجارد" إلى معلم أو مرشد من طينة سقراط، يقودنا المعلم نحو الحكمة والحقيقة، يرشدنا من خلال السؤال نحو الإقرار بقصورنا المعرفي، يعلمنا من فنون الحياة ما يجعل بصرنا منفتحا نحو آفاق أرحب. الحقيقة ذاتية موجودة في داخلنا، قابلة للتأمل والتعلم بالحوار والمناقشة، هناك أشياء ينبغي القيام بها كالتجرد من الانفعالات، والقلق، تذكر الأشياء الحسنة، التحكم في النفس والغضب، الحب وإنجاز الواجبات، والقدرة على التعلم والإنصات. يقظة الذهن باستمرار، وتوتر دائم للروح والإقبال المستمر على التجديد والأخذ بالأسباب، والابتعاد عن القلق، وعدم الارتماء في المستحيل.
كانت الفلسفة الإغريقية فنا للعيش وعلاجا ضد الانفعالات والأهواء المنفلتة من سلطة العقل حتى يتمكن الإنسان من العيش في تناغم مع ذاته والحياة، العيش وفق الطبيعة، يعني العيش وفق الفضيلة، حاجتنا للحكمة والاعتدال ذلك أساس العيش بانسجام دون السقوط في هواجس المستقبل وأوجاع الماضي، وصايا الرواقية والأبيقورية أن نحيا بالتفلسف، لا نعيش على الخوف والترقب، لما سيأتي، لا نعيش في أحضان الماضي، ذلك القلق الذي يساورنا دائما من الموت يجعل حياتنا جحيما. لن تموت إلا وحدك، ولن يسع أحد أن يموت مكانك، الموت يمنحك المسافة اللازمة لرؤية الحقيقة. اترك النفس تمارس الفضيلة، سوف تتيقن أن النفس خالدة، وممارسة الفضيلة هي الخطوة الأساسية نحو المعرفة والحقيقة.
غرابة الفيلسوف في دنيا الناس تجعل منه متفردا بأسلوبه في اختيار نمط العيش، وأسلوب الحياة، فن العيش بالتأمل والأمل، فكرة استحضار الموت في صميم تجربة الحياة، الفلسفة بهذا المعنى ليست سوى تدريب للموت، وخير مثال سقراط، الذي واجه القضاة بشجاعة، لم يهرب من السجن، فضل الموت لأنه يعرف أن الموت انفصال النفس عن الجسد. لا يرى سقراط في الموت ما يخيف، لكنه يرى من العبث أن يبقى الإنسان أسير جهله، والحياة التي يعيشها الناس لا ترقى إلى مستوى الفضيلة، بل يجب تدريب الإنسان على قول الحقيقة والعيش طبقا للعقل ونداء الضمير. لذة الفكر، لذة التأمل. إنها الحياة الفاضلة بدون نقص. اللذة النافعة المفعمة بالحكمة تروي ظمأ الروح، والعقل المستنير يكسبنا راحة وسكينة من خلال فهمنا لأنفسنا والعالم.
التدريبات الروحية على الطريقة السقراطية والمدارس الفلسفية الأخرى من أجل شفاء الروح، من أجل العيش، وتكريس أسلوب في الحياة العملية، اللذة الذهنية واللذة الحسية البدنية ترياق للنفس والبدن، ترياق في تقويم النفس حتى يكتسب الإنسان مناعة ضد القلق والاضطراب الناتجين عن الحرمان والحاجة، هموم الذات نتاج لغياب روح التفلسف في الحياة، التدريبات الروحية بمثابة القدرة على المحادثة مع الذات، القدرة على الإنصات، وفهم الأشياء بالطريقة التي تبتغيها النفس، وينعم فيها الجسد بالارتياح والمتعة. لذلك نصحنا "أبيقور" أن نميز بين الرغبات الطبيعية والضرورية والرغبات الهدامة أو الماجنة والتافهة، هناك دعوة لارتقاء الإنسان بذاته نحو الفهم الصحيح للحياة، يجب تمحيص الضمير والارتقاء بالنفس.
في محاورة "المأدبة" يصف "ألقبيادس" المحاورة والمناقشة مع سقراط بالمفيدة، بحيث قادته إلى اكتشاف الطريقة الصحيحة في العيش من خلال المحاورات، أسئلة سقراط وطريقته التوليدية في الحوار، غالبا ما ينتهي الحوار السقراطي إلى إقرار الخصم بقصوره المعرفي، غالبا ما ينتهي الحوار كذلك بدون أجوبة قطعية ونهائية، لكن في غمار السؤال يثير سقراط البلبلة في ذهن المحاور، يدفعه للمزيد من النقاش لإخراج ما بذاته من معرفة، هذا النوع من الحوار والنقاش يضفي عليه "بيير هادو" طابعا روحيا يتعلق بالتدريب الروحي الذي يغير من طبيعة الأشياء وعلاقتنا بالعالم لأن الغاية من الحوار التكوين لا التلقين، حوار سقراط مفعم بالسؤال، والغاية من السؤال الفحص والتفنيد، وتجديد الرؤية للحياة والذات معا، كل واحد منا يرغب في نحت تمثاله الخاص، إضفاء نوع من البهاء والسعادة عندما نواجه الحياة، ونختار ما يناسبها من أساليب في فن العيش، نكف عن جلد دواتنا أو ترقب الأشياء التي لا زالت بعيدة المنال أو مرهونة بالمستقبل.
السعادة هي العودة لما هو جوهري، لما ينير طريقنا. الأبيقورية وتكريس السلام الداخلي، توفير السلامة للنفس والعقل، والسلامة للجسد من كل اعتلال واضطراب، تحرير الجنس البشري من الأوهام والضياع، استهداف الروح في وهجها يعني اختيار كل ما هو سليم في نمط العيش المناسب، اختيار الوجود الأصيل الذي يجعلنا لا نشعر بالملل والرتابة، نحس أننا نمتلك أنفسنا ونقيم في الوجود.
شيئان يجب أن ننفصل عنهما كما قال "سينيكا" الخوف من المستقبل، وذكريات الماضي الأليمة، هذا لا يعنيك، وذاك لم يعرض لك بعد، وبالتالي نحتاج إلى تحول في طريقة عيشنا، ونغير في أسلوب حياتنا، التفكير وفقا للحق والعدالة، وفقا للفعل وتقبل الأشياء، وأفضل ما يجب اكتسابه الحكمة بأنواعها، العملية والنظرية، لأن طريقة عيشنا تقودنا نحو السلام الداخلي، هناك عودة للفلسفة الإغريقية خصوصا الرواقية والأبيقورية لاستلهام أفكار تتعلق بالفلسفة ذاتها كنمط أو فن للعيش، تبلورت مع الإغريق بعدما أصبحت الفلسفة الآن خطاب عقلاني، وبناء مفاهيمي ونظري، يعنى بالمعرفة والمنطق والحق والطبيعة، هناك هوة عميقة بين الفلسفة والخطاب السائد عن الفلسفة، التفلسف يجب أن يكون متوحدا مع الحياة، التدريبات الروحية كما يراها "بيير هادو" يجب أن تبدأ بالتأمل، والوعي المتجدد للحياة، وتمحيص المرء لضميره، والحاضر كفيل أن يجعلنا سعداء من خلال الانتباه والاستيعاب لما ينبغي أن يكون، إنها اللحظة التي تجعلنا نعيش ونحن نترقب قيمة الحياة في العيش بتناغم مع الذات والآخر.
التدريب على الحكمة يشترط أن يكون الإنسان متأملا للذاتي والكوني معا، تعلم الموت، يموت الواحد منا، ولا يعرف طعم السلام. نحن نولد مرة واحدة كما قال أبيقور. الفلسفة تفكير في الموت حسب "هايدغر"، التفلسف ينبثق من الوجود الإنساني، الإنسان كائن زماني، وجوده ينبثق من ذاته، ومن العلاقة بالآخر والعالم، الوجود الحقيقي في مقابل الوجود المزيف، تعلم القراءة يمكن أن يكون رياضة روحية، الانهمام بالذات وشجاعة قول الحقيقة، والكشف عن الخطاب، وأشكال السلطة، صعود الفكر من الذاتية الفردية المنفعلة إلى الكوني والشمولي، تنال النفس السعادة في الصعود نحو الأعلى، هناك جدل صاعد وآخر نازل، من المحسوس نحو المطلق والمثال، عالم الكمال والخلود والحقائق السرمدية، فالتدريبات الروحية طبقا لماركوس اوريليوس يتم نيلها بناء على ثلاث أساليب كما يشير لذلك "بيير هادو" من خلال التأملات. أن نحكم بموضوعية وطبقا للعقل، أن نرضى بالقضاء الذي فرضه العقل الكوني، أن نعمل وفقا للعقل الذي يمتلكه جميع البشر على السواء، وهناك ثلاث مجالات وما يناسبها من فضائل كالرغبة التي يناسبها الاعتدال، والنزوع الذي يناسبه العدل، والتصديق الذي تناسبه الحقيقة، تأملات ومحادثات، وتعاليم الرواقية مهمة في رسم عالم ممكن للعيش السعيد في كنف الحكمة والعقل، رسائل الأبيقورية كذلك مهمة في ممكنات السعادة والحياة الفاضلة. منبع هذه الفلسفة هي تعاليم سقراط وفن النقاش، في أدبيات المناقشة والحوار تتولد الحقيقة، وتنعكس المعرفة على الفرد لإعادة تصويب الأفكار نحو الحياة، أدوات مهمة في التفلسف والرقي، وتعلم الفضيلة، والتمييز بين الأشياء الممكنة والمستحيلة، في قدرة الإنسان، وما ليس في قدرتنا على تحصيله.
تدريبات روحية للفلسفة في الفكر المعاصر خصوصا مع الفلاسفة أمثال نيتشه وشوبنهاور وبرغسون، طريقة في العيش بمثابة سلوك واقعي، رياضات في التدريب على الحوار والتواصل، تدريب على فن العيش، والنظر للحياة كإرادة مفعمة بالحياة والعطاء دون الزيادة في الرغبات حتى لا يصاب الإنسان بالشقاء والملل، بمعنى أن يكون هناك توافق بين الإرادة والرغبة، لأن سبب شقائنا حسب شوبنهاور يكمن في غياب التوافق بين ما نريد وما نرغب، وبالتالي أصبح الإنسان ضحية للمتعة والرغبة، البحث عن الطريقة الصحيحة للعيش جعلت الفيلسوف نيتشه يوجه مطرقة النقد للفلسفة الحديثة برمتها لأنها جردت الفرد من طاقته وقدرته عل بناء ذاته وفق ما يبتغيه بعيدا عن صلابة المفاهيم والمثالية المفرطة، جوهر الفلسفة روح البساطة، التفلسف فعل بسيط للغاية، ونحن في حاجة إلى طبيب، والفيلسوف طبيب الحضارة، يشخص أمراضها، ويمنح الإنسانية الترياق أو الوصفة الممكنة للخروج من متاهة الفكر المطلق أو نبحث عن نماذج من التفكير الفلسفي الذي يجعل من الإنسان سيد نفسه، وسيد وعيه، عندما يصير الوعي منفتحا على الآخر والكوني، عندما يتمكن وعينا من بناء طريقة مفيدة للعيش، أن يسلك العقل في ذلك ممكنات العيش بسعادة وسكينة.
الفلسفة كما في تعريف الرواقية ليست تعليم نظرية مجردة، وهي أبعد ما تكون عن عملية تفسير وتأويل للنصوص الفلسفية لأن الفلسفة محددة بهدف مقصود، وهي فن العيش وأسلوب حياة، يشمل هذا الفن الوجود بكليته، وهي علاج للغضب والانفعالات والقلق، هدوء للروح وسكينة من كل ما ينتاب الذات من توتر. كل المدارس اليونانية تشربت من حكمة سقراط، أن التدريبات الروحية هي بالفعل مهمة الفلسفة الأساسية، وهي الخطوة المركزية لكي تحقق التقدم الروحي نحو الحكمة والتبصر للذات والعالم، عملا بالقولة المأثورة لأفلاطون: "المعرفة تذكر والجهل نسيان"، لا بد للنفس أن تتحرر من الخوف وحالة الاغتراب، الطريق هنا يبدأ من الذات، والقطع مع التفكير المنغمس في اليومي نحو تفكير أرحب، يولي قيمة للبحث والتحري، والقراءة والاستماع. التوجه نحو متعة الوجود، العيش في الحاضر، الكف عن الخوف من الموت والمصير، مهمة الفلسفة تعليم البشر السعي إلى الأشياء التي يمكننا امتلاكها ولنا القدرة على اكتسابها. كانت الفلسفة في المرحلة الهلنستية بعد أرسطو تقدم نفسها كعلاج لشقاء الجنس البشري.
اضف تعليق