لولا هذا السؤال، وبلاغته وحكمته ما عرف هذا الكتاب، وما اكتسب كل هذه المعرفة، وهذه الشهرة المتقادمة والعابرة بين الأزمنة، فالكتاب عرف بهذا السؤال، وبقي ومازال يعرف به، ولو كان له عنوان آخر لما عرف هذا الكتاب، ولكانت شهرته بالتأكيد أقل حظوة. من نمط الكتب...
بقلم: زكي الميلاد
-1-
سؤال النهضة.. الأهمية والقيمة
لعل أبلغ سؤال طرح في ساحة عصر النهضة في المجال العربي الحديث، هو سؤال شكيب أرسلان (1286-1366هـ/ 1869-1946م)، لماذا تأخَّر المسلمون ولماذا تقدَّم غيرهم؟ الذي اختاره عنواناً لكتابه الوجيز، الصادر سنة 1930م، وبفضل هذا السؤال اكتسب هذا الكتاب شهرة واسعة، بقي محتفظاً بها على طول الخط.
ولولا هذا السؤال، وبلاغته وحكمته ما عرف هذا الكتاب، وما اكتسب كل هذه المعرفة، وهذه الشهرة المتقادمة والعابرة بين الأزمنة، فالكتاب عرف بهذا السؤال، وبقي ومازال يعرف به، ولو كان له عنوان آخر لما عرف هذا الكتاب، ولكانت شهرته بالتأكيد أقل حظوة.
ومن هذه الجهة، فإن هذا الكتاب يعد من نمط الكتب التي عرفت بعنوانها، وبلاغة سؤالها، ليس هذا فحسب، بل إن عنوان الكتاب وسؤاله، بات أكثر شهرة وتداولاً من الكتاب نفسه نصًّا وموضوعاً، فهناك الكثيرون في المجال العربي الذين يعرفون عنوان الكتاب، ويتعاملون معه في مجالهم التداولي جدلاً ونقاشاً، لكنهم لم يطالعوا الكتاب، ولم يتعرَّفوا إلى محتوياته ومواضيعه، وطبيعة إشكاليته الفكرية والبنيوية.
وتتكشَّف هذه الملاحظة عند معرفة أن مستويات العودة إلى الكتاب والاقتباس منه، وتداول نصوصه، هي أقل بكثير مقارنة بالعودة إلى عنوانه، والتوقُّف عند سؤاله، وبشكل لا يكاد يقارن، ومن هذه الجهة يتفوق عنوان الكتاب وسؤاله، على الكتاب نفسه نصَّا وموضوعاً.
وأمام هذا السؤال، طبيعته وماهيته، بلاغته وحكمته، وقبل البحث في الإجابات الناظرة إليه، هناك ثلاث ملاحظات يمكن التوقف عندها، وهي:
أولاً: مع هذا السؤال أصبح لخطاب النهضة العربي والإسلامي سؤال، عرف بسؤال النهضة، وتحدَّد بهذه الصفة من ناحية المعنى، وبهذه المنزلة من ناحية الاعتبار، وجاء هذا السؤال ولبَّى حاجة حقيقية، هي حاجة البحث عن سؤال النهضة، لكونه يقع في طريق البحث عمَّا هو سؤال النهضة!
السؤال الذي كان لا بد أن يطرح، ومآله أن يطرح في يوم من الأيام، وفي زمن من الأزمنة، وذلك لأن كل خطاب نهضوي بحاجة إلى سؤال نهضوي، ينبثق منه، ويعبر عنه، وعن طبيعة إشكاليته، ويختزل مطلبه ومطالبه، ويشع بفلسفته وحكمته.
ولو لم يطرح هذا السؤال، ويتبوأ منزلته بصفته سؤال النهضة، وسؤال الخطاب النهضوي، لكنا في حالة تساؤل من الأمس إلى اليوم، عن سؤال يحمل هذه الصفة، وتكون له مثل هذه المنزلة.
والذي أكسب هذا السؤال هذه الصفة، وهذه المنزلة، ليست البلاغة والبيان التي عرف بهما، وعُدَّتا من ملامحه البيانية والأسلوبية، وإنما لكون أن هذا السؤال انبثق من داخل الخطاب النهضوي، من قلبه وصميمه، من ساحته وحركته، ولم يأتِ من خارجه، أو من هامشه، كما أنه لم يأتِ من فراغ أو من ترف وخيال، ولم يأتِ كذلك من جدل وسجال، ولا من تأملات ذهنية غارقة في التنظير أو التجريد، وإنما جاء من رجل له اسمه ووزنه وأثره في حركة النهضة والإصلاح، أمضى حياته في هذا الطريق، وعلى هذا الدرب، وعرف بهذا الهم النهضوي والإصلاحي الذي بقي معه ولم يفارقه، وكان أشبه الرجال بالسيد جمال الدين الأفغاني (1254-1314هـ/ 1838-1897م)، في حركته وهجرته وتعدّد أماكن إقامته، وفي الدفاع المستميت عن قضايا الأمة، وهكذا في الروح التي كانت تسري بداخله.
واللافت في هذا السؤال، أنه ما إن عرف حتى أخذ طريقه إلى المجال التداولي، بصفته معبراً عن سؤال النهضة، وكل من تعرَّف إليه أعطاه هذه الصفة، وقد وجد فيه هؤلاء سؤالاً له بلاغته وحكمته من هذه الجهة، ومن شدة بلاغته وحكمته بقي محتفظاً بهذه الصفة، ولم يتزحزح عن مكانته، ولم ينازعه أي سؤال آخر على هذه المكانة، وأصبح سؤالاً يؤرَّخ له في تاريخ تطور الفكر الإسلامي الحديث، وتاريخ تطور أدب النهضة في المجال العربي والإسلامي الحديث، وينتسب إلى مطلع ثلاثينات القرن العشرين.
وهناك الكثيرون في المجال العربي المعاصر، الذين نظروا لهذا السؤال من جهة علاقته بخطاب النهضة، ومعبراً عن سؤالها وإشكاليتها، فحين توقَّف مالك بن نبي (1323-1392هـ/ 1905-1973م)، أمام هذا السؤال، قال عنه: «هذا هو السؤال الذي يتردد في كل مناسبة إسلامية»، في إشارة منه على جدية هذا السؤال، وكثافة حضوره.
والسياق الذي جعل ابن نبي يتذكر سؤال أرسلان، تحدد بقوله: «انتهت أو تبخَّرت مع الحرب العالمية أفكار أو دعوة جمال الدين الأفغاني للجامعة الإسلامية، انتهت مع سقوط الخلافة العثمانية نهائيًّا، وعاش تلك الأيام السوداء، ضمير مسلم آخر، تمثَّلت فيه المأساة الإسلامية، وهو شكيب أرسلان، فنشر كتابه المعنون بسؤال: لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟ هذا هو السؤال»[1].
ومن جهته اعتبر الدكتور محمد عابد الجابري (1354-1431هـ/1936-2010م)، أن سؤال أرسلان لخص إشكالية النهضة كما عاشها في وعي العرب والمسلمين في أواخر القرن الماضي، وأوائل القرن العشرين[2].
وتطابقاً مع هذا الموقف، اعتبر الدكتور هشام جعيط أن أرسلان هو الذي صاغ إشكالية الإصلاح السياسي والحضاري في تعبيرها الأدق[3]. وذهب الدكتور رضوان السيد إلى أن سؤال أرسلان يلخّص الإشكالية التي شغلت سائر النهضويين والإصلاحيين[4]. وأعطى الشيخ راشد الغنوشي هذا السؤال، تارة وصف سؤال النهضة الحارق، وتارة سؤال النهضة المؤرق[5].
ولعل الوحيد الذي فارق هذا الموقف، وخرج عن سياقه هو سيد قطب (1324-1386هـ/ 1906-1966م)، الذي رأى أن سؤال أرسلان من أصله كان خاطئاً، وحسب نظره أن المسلمين تخلَّفوا لأنهم تركوا الإسلام، وأما غيرهم فلم يتقدَّموا، بل هم في جاهلية جهلاء، لأن الإسلام هو الحضارة[6].
هذا الرأي لسيد قطب، سبق وأن ناقشه وحاججه واعترض عليه مالك بن نبي، وفي الإجمال هو رأي يتسم بالعمومية والاختزال والتبسيط، كما يتسم باللاتاريخية واللاسننية نسبة لقانون السنن التاريخية.
ثانياً: أسهم سؤال أرسلان في صياغة نسق من التساؤلات المهمة التي حاولت محاكاته ومجاراته والتشبُّه به، واستعمال بنيته الأسلوبية، وصيغته التساؤلية، وطريقته في الموازنة والمقارنة والمقاربة ما بين الحضارتين والثقافتين الإسلامية والغربية.
وفي هذا النطاق، يمكن الإشارة إلى أربعة تساؤلات، هي التي وقفت عليها، وليست بالتأكيد هي التساؤلات الحصرية، ولا هي أيضاً نهاية هذه التساؤلات، وهذه التساؤلات الأربعة بحسب تعاقبها الزمني هي:
التساؤل الأول: أشار إليه المفكر الفرنسي روجيه غارودي (1913-2012م)، وذكر هذا السؤال مالك بن نبي في حادثة حوار حصلت بينهما في الجزائر العاصمة سنة 1948م، وأشار ابن نبي لهذه الحادثة في كتابه (شروط النهضة)، من دون أن يُسمي غارودي باسمه، وقال عنه أحد الغربيين، وأفصح عن اسمه في محاضرة ألقاها في الملتقى السنوي للفكر الإسلامي المنعقد في مدينة قسنطينة الجزائرية سنة 1970م.
في هذا الحوار تساءل غارودي، أمام ابن نبي وفي حضور آخرين، لماذا الحضارة الأوروبية استمرت والحضارة الإسلامية انقطعت؟
وإذا كان هذا التساؤل لم يتولد مباشرة من رحم سؤال أرسلان، إلَّا أنه يتَّصل به من جهة وحدة النسق، وأشار إليه ابن نبي عند حديثه عن سؤال أرسلان، في دلالة منه على ما بينهما من اشتراك واتصال.
الأمر الذي يعني أن هذا التساؤل، إذا لم يكن متصلاً ابتداء بسؤال أرسلان من جهة غارودي، فإنه اتصل به لاحقاً من جهة ابن نبي.
وعند الإجابة عن هذا التساؤل، بدا لابن نبي أنه يُعبِّر عن ثقب وعن فجوة في ثقافة الغرب، لأن الحضارات كلها لها حظها وعمرها لأداء وظيفتها ورسالتها في العالم، فالحضارة الإسلامية أدَّت رسالتها في مدى من الزمن كافٍ لأداء رسالتها، كما أن الحضارة الرومانية التي سبقتها أدَّت رسالتها في مدى كافٍ، مستشهداً على ذلك بقوله تعالى: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ}[7].
التساؤل الثاني: أشار إليه الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي في كتابه (منهج الحضارة الإنسانية في القرآن)، الصادر سنة 1982م، وتحدَّد عنده بصيغة: لماذا تحجرت الحضارة الإسلامية وازدهرت الحضارة الغربية؟ وجاء عنواناً لفصل في القسم الأخير من كتابه.
ومن البدء، وبدون مقدمات، وفي أول سطر اعتبر الدكتور البوطي أن هذا السؤال الذي طرحه، هو سؤال سطحي جدًّا، وحين يتمم كلامه يقول: «ولكن عامة الناس يكثرون من طرحه، كلما دعت المناسبة، ويبنون عليه مشكلة في غاية الصعوبة والتعقيد، فيما يتوهمون! والمؤسف أن الإجابة على هذا السؤال، تأتي في غالب الأحيان أكثر سطحية من السؤال نفسه»[8].
ومع أن الدكتور البوطي لم يأتِ على ذكر أرسلان، إلَّا أن السؤال الذي طرحه يتصل بسؤال هذا الأخير، ويحمل صبغته وصيغته البيانية والأسلوبية.
التساؤل الثالث: أشار إليه الدكتور هشام جعيط في كتابه (أزمة الثقافة الإسلامية) الصادر سنة 2000م، وتحدد عنده بصيغة: لماذا تمدن الآخرون وتأخرنا نحن؟ والأقرب أن هذا السؤال بهذه الصيغة جاء من دون قصد، لأن الدكتور جعيط كان بصدد الإشارة إلى سؤال أرسلان كما تحدد في عنوان كتابه، والتبس عليه الأمر على ما يبدو، وحسب قوله: «كان شكيب أرسلان هو الذي صاغ إشكالية الإصلاح السياسي والحضاري في تعبيرها الأدق، حين تساءل: لماذا تمدن الآخرون وتأخرنا نحن؟»[9].
ومن دون قصد، أضاف الدكتور جعيط سؤالاً جديداً يتسق وسؤال أرسلان، ويتصل به، ويحوم حوله، سؤالاً بإمكانه أن يكون في دائرة الضوء والاهتمام.
التساؤل الرابع: أشار إليه الباحث السوري هاشم صالح في كتابه (من الحداثة إلى العولمة) الصادر سنة 2010م، وتحدَّد عنده بصيغة: لماذا تقدَّمت أوروبا وتأخر غيرها؟ وجاء اختيار السؤال بهذه الصيغة متعمداً من صالح، الذي كان ملتفتاً إلى سؤال أرسلان، ومتذكراً له، وأنه -حسب قوله- عكس السؤال لكي يصل إلى النتيجة نفسها[10].
هذه التساؤلات الأربعة، عند النظر فيها بمنطق التحليل الدلالي، نجد أن الكلمات المفتاحية من الناحية البيانية والدلالية، قد تغيَّرت من سؤال إلى آخر، ففي تساؤل روجيه غارودي: لماذا الحضارة الأوروبية استمرت والحضارة الإسلامية انقطعت؟ تحدَّدت الكلمات الدلالية في تفسير هذه القضية في كلمتي (الاستمرار والانقطاع)، وفي تساؤل الدكتور البوطي: لماذا تحجرت الحضارة الإسلامية وازدهرت الحضارة الغربية؟ تحدَّدت الكلمات الدلالية في كلمتي (التحجر والازدهار)، وفي تساؤل الدكتور جعيط: لماذا تمدن الآخرون وتأخرنا نحن؟ تحدَّدت الكلمات الدلالية في كلمتي (التمدُّن والتأخُّر)، وفي تساؤل هاشم صالح: لماذا تقدمت أوروبا وتأخر غيرها؟ تحددت الكلمات الدلالية في كلمتي (التقدم والتأخر).
هذه الكلمات المركبة ثنائيًّا، مع أن كل مركب منها له جانبه الدلالي والتفسيري، إلَّا أن الأكثر دقة وضبطاً هو المركب المتكون من ثنائية (التقدم والتأخر)، فليس من الدقة والضبط تفسير ما حصل بين الحضارتين والثقافتين الإسلامية والأوروبية، على أساس مركب الاستمرار والانقطاع، وذلك لأن الاستمرار له علاقة بالتقدم، والانقطاع له علاقة بالتأخر، وهكذا الحال مع مركب الازدهار والتحجر، فالازدهار له علاقة بالتقدم، والتحجر له علاقة بالتأخر.
هذا التغليب أو الترجيح لمركب التقدم والتأخر، يضع سؤالي أرسلان وهاشم صالح في إطار الموازنة، باعتبار أن كل واحد منهما استند إلى ثنائية التقدم والتأخر، مع اختلاف بينهما في التقديم، فأرسلان يقدم التأخر على التقدم، وصالح يقدم التقدم على التأخر، فأي السؤالين أكثر دقة وضبطاً؟
في إطار الموازنة بين هذين السؤالين، يمكن القول: إن سؤال أرسلان هو السؤال الذي نطرحه نحن على أنفسنا، لماذا تأخرنا نحن! أما سؤال صالح هو السؤال الذي يطرحه الأوروبيون على أنفسهم، لماذا تقدموا هم، وعلى هذا الأساس يكون سؤال أرسلان هو أكثر دقة وضبطاً.
ثالثاً: يعد سؤال أرسلان بحسب المقاييس المنهجية والعلمية، من الأسئلة الناجحة في المجال العربي الحديث والمعاصر، ويصلح من هذه الجهة أن يكون نموذجاً للسؤال الناجح، ويحق أن يضرب به المثل على ذلك، فلو أردنا البحث والكشف عن الأسئلة التي عرف عنها النجاح والتفوق في المجال العربي الحديث والمعاصر، لكان هذا السؤال في المقدمة.
ومن المقاييس الدالة على نجاح هذا السؤال وتفوقه، قدرته على الثبات والبقاء، وتخطي عقبة توالي الأيام، وتقادم الزمن، وتعاقب الأجيال، وتغير الأحوال، فهذا السؤال الذي ينتسب إلى سنة 1930م، وبعد كل هذه السنين الطويلة بكل تحولاتها وتغيراتها المتسارعة والمتعاظمة التي غيرت صورة العالم، مازال سؤالاً حيًّا وحاضراً ومؤثراً، بل ومتفوقاً على غيره من الأسئلة الأخرى إن وجدت، ويجري التعامل معه كما لو أنه سؤال اليوم وليس سؤال الأمس، وبوصفه سؤالاً حديثاً ومعاصراً وأكثر حداثة ومعاصرة من بعض الأسئلة الأخرى التي طرحت وتطرح في وقتنا الراهن.
ولا شك أن السؤال الذي يمتلك كل هذه القدرة على الثبات والبقاء، لا بد أن يكون سؤالاً ناجحاً ومتفوقاً.
ومن المقاييس الدالة أيضاً على نجاح هذا السؤال، قدرته على توليد الأسئلة، ومنها تلك الأسئلة المشار إليها سابقاً. فالسؤال الذي يولد أسئلة يصبح سؤالاً حيًّا بهذه القدرة على التوليد، التي هي من سمات وعلامات العنصر الحي، كما ويصبح سؤالاً متجدداً بهذه الأسئلة المتولدة التي تحمل أثراً من جيناته، وقبساً من روحه، تجعل كل سؤال من هذه الأسئلة يذكر به، وينبه عليه.
ومن المقاييس الدالة كذلك على نجاح هذا السؤال، كونه سؤالاً لم يُستنفَذ أو يُستهلك، ولم يصبح سؤالاً بالياً وعتيقاً وقديماً، ويكفي للدلالة على ذلك اعتبار البعض الذين توقفوا عند هذا السؤال، وتأملوا النظر فيه، وجدوا أنه سؤال لم يُجَب عليه إلى اليوم.
وفي هذا النطاق يمكن الإشارة إلى قولين، ينتسبان لفترتين متعاقبتين، يفصل بينهما أربعة عقود من الزمن، القول الأول أشار إليه مالك بن نبي سنة 1970م، إذ اعتبر أن السنين لم تجب عن سؤال أرسلان إلى اليوم، مع أنه يتردد في كل مناسبة إسلامية[11].
القول الثاني أشار إليه هاشم صالح سنة 2010م، إذ اعتبر أن المثقفين العرب لم يجيبوا عن سؤال أرسلان حتى هذه اللحظة[12].
يضاف إلى ذلك ما أشرنا إليه سابقاً، من أولئك الذين نظروا لهذا السؤال بوصفه حاملاً ومعبراً عن إشكالية النهضة في المجال العربي الحديث، الأمر الذي يعني أن هذا السؤال وثيق الصلة بقضية هي من أعظم قضايا الأمة، وهي قضية النهضة.
-2-
سؤال النهضة.. البداية والرؤية
في التقديم الذي كتبه الشيخ محمد رشيد رضا (1282-1354هـ/ 1865-1935م)، لكتاب أرسلان، شرح فيه من أين بدأت فكرة السؤال، ومتى حصلت الإجابة عنه، وكيف تطورت هذه الإجابة، وتحولت من إجابة عن سؤال إلى كتاب ظلت طباعته تتوالى بدون توقف، وبقي في دائرة الاهتمام والتذكر، بوصفه كتاباً ينتسب إلى عصر النهضة والإصلاح.
عن هذه الخلفيات وصورتها يقول رشيد رضا: كتب له تلميذه الشيخ محمد بسيوني عمران، إمام مهراجا جزيرة سمبس بورنيو التابعة لجزيرة جاوة الإندونيسية، كتب له رسالة يقترح فيها على أمير البيان شكيب أرسلان، أن يكتب للمنار مقالة بقلمه حول أسباب ضعف المسلمين في ذلك العصر، وأسباب قوة الإفرنج واليابان وعزتهم بالملك والسيادة والقوة والثروة، وقد أرّخت هذه الرسالة بتاريخ 21 ربيع الآخر 1348هـ.
وأوضح رشيد رضا أن الشيخ عمران أخبره في رسالة أخرى، أنه قرأ له ما كتبه في المنار وفي تفسيره، من بيان الأسباب في الأمرين المذكورين، وأنه قرأ في هذا الشأن أيضاً، ما كتبه الشيخ محمد عبده (1266-1323هـ/ 1849-1905م)، من مقالات حول (الإسلام والنصرانية مع العلم والمدينة)، وتقصَّد بطلبه هذه المرة أرسلان في الإجابة عن سؤاله، لكونه صاحب قلم مؤثر، ولديه معارف واسعة، وآراء ناضجة، والغاية من ذلك تجديد التأثير في أنفس المسلمين، بما يناسب حالهم آنذاك، وتنبيه غافلهم، وتعليم جاهلهم، وكبت خاملهم، وتنشيط عاملهم.
وما إن استلم رشيد رضا رسالة عمران، حتى أرسلها إلى أرسلان، واقترح عليه كتابة شيء عن ذلك في المنار، وهو الذي ينصحه دائماً -حسب قوله- بالتخفيف من أعباء الكتابة لكثرة ما يكتب لصحف الشرق والغرب، والأصدقاء وغيرهم.
وبعد استلام الرسالة، أرجأ أرسلان الإجابة عنها لكثرة شواغله، إلى أن عاد من رحلة لإسبانيا، الرحلة التي قال عنها رشيد رضا: إن مشاهد حضارة العرب في الأندلس والمغرب الأقصى، قد أثرت في نفس أرسلان، وشاهد أيضاً تأثير محاولة فرنسا تنصير البربر في المغرب، تمهيداً لتنصير عرب إفريقيا، كما فعلت إسبانيا بسلفهم في الأندلس، فكتب أرسلان جوابه منفعلاً بهذه المؤثرات، فكان حسب وصف رشيد رضا، آية من آيات بلاغته، وحجة من حجج حكمته، واعتبرها أنفع ما تفجّر من ينبوع غيرته، وانبجس من معين خبرته[13].
وبعد ما يقارب سنة على رسالة عمران، كتب أرسلان جواباً مطولاً، نشر في ثلاث حلقات متتالية في مجلة المنار، المجلد 31، رجب 1349هـ، ديسمبر 1930م، ومن ثم جمعت هذه الحلقات في كتاب طبعته المنار ثلاث مرات، الطبعة الثالثة منه الصادر سنة 1358هـ/ 1940م، احتوت على تعليقات جديدة لأرسلان أشار إليها في الهامش.
في هذه الإجابة، اعتبر أرسلان أن الضعف والانحطاط اللذين عليهما المسلمون شيء عام لهم في المشارق والمغارب، لكنه متفاوت في دركاته، فمنه ما هو شديد العمق، ومنه ما هو قريب الغور، ومنه ما هو عظيم الخطر، ومنه ما هو أقل خطراً، وبالإجمال يرى أرسلان أن حالة المسلمين آنذاك لا ترضي، لا من جهة الدين، ولا من جهة الدنيا، ولا من جهة المادة ولا من جهة المعنى.
مع ذلك كان أرسلان يرى أن في «العالم الإسلامي حركة شديدة، ومخاضاً عظيماً شاملاً للأمور المادية والمعنوية، ويقظة جديرة بالإعجاب، قد انتبه لها الأوروبيون، وقدروها قدرها، ومنهم من هو متوجس خيفة مغبتها، لا يخفى هذا الخوف من تضاعيف كتاباتهم، إلَّا أن هذه الحركة إلى الأمام لم تصل بالمسلمين حتى اليوم إلى درجة يساوون بها أمة من الأمم الأوروبية أو الأمريكية أو اليابان»[14].
وقبل البحث عن الأسباب التي أوجبت التقهقر في العالم الإسلامي، توقف أرسلان عند أسباب ارتقاء المسلمين في الماضي، التي أرجعها كلها إلى عامل الإسلام، وحسب قوله: «إن أسباب الارتقاء كانت عائدة في مجملها إلى الديانة الإسلامية، التي كانت ظهرت جديداً في الجزيرة العربية، فدان بها قبائل العرب، وتحولوا بهدايتها من الفرقة إلى الوحدة، ومن الجاهلية إلى المدنية، ومن القسوة إلى الرحمة، ومن عبادة الأصنام إلى عبادة الواحد الأحد، وتبدلوا بأرواحهم الأولى أرواحاً جديدة، صيرتهم إلى ما صاروا إليه من عز ومنعة، ومجد وعرفان وثروة، وفتحوا نصف كرة الأرض في نصف قرن»[15].
وعلى ضوء ذلك، تساءل أرسلان عن السبب الذي به نهض المسلمون وفتحوا، وسادوا وشادوا، وبلغوا من المجد والرقي ما بلغوا، أهو باقٍ في العرب، وهل هم قد تأخروا رغم وجوده، وتأخر معهم سائر المسلمين! أم قد ارتفع هذا السبب من بينهم ولم يبقَ من الإيمان إلَّا اسمه، ومن الإسلام إلَّا رسمه، ومن القرآن إلَّا الترنم به، دون عمل بأوامره ونواهيه، إلى غير ذلك، مما كان في صدر الملة وعظمة الشريعة.
وبعد الفحص، وجد أرسلان أن السبب الذي به استقام هذا الأمر، قد أصبح مفقوداً بلا نزاع عنده، وإن كان بقي منه شيء فهو حسب وصفه كباقي الوشم في ظاهر اليد.
وبتفصيل أكثر، اعتبر أرسلان أن من أعظم أسباب تأخر المسلمين، الجهل والعلم الناقص الذي هو أشد خطراً من الجهل البسيط، وفساد الأخلاق بفقد الفضائل التي حث عليها القرآن، والعزائم التي حمل عليها سلف هذه الأمة.
ومن أعظم أسباب تأخر المسلمين أيضاً، الجبن والهلع، بعد أن كانوا أشهر الأمم في الشجاعة واحتقار الموت، ومن الأسباب كذلك اليأس والقنوط الذي وقر في نفوس البعض، وظنوا أن الإفرنج هم الأعلون، وأن لا سبيل لمغالبتهم بوجه من الوجوه، يضاف إلى ذلك عامل الجمود على القديم، فكما أن آفة الإسلام هي الفئة التي تريد أن تلغي كل شيء قديم، من دون نظر فيما هو ضار منه أو نافع، فإن آفة الإسلام كذلك هي الفئة الجامدة التي لا تريد أن تغير شيئاً، ولا ترضى بإدخال أقل تعديل على أصول التعليم الإسلامي، ظنًّا منهم بأن الاقتداء بالكفار كفر، وأن نظام التعليم الحديث من وضع الكفار[16].
وحين اقترب أرسلان من العصر الأخير، اعتبر أن من أعظم أسباب انحطاط المسلمين في ذلك العصر، فقدهم كل ثقة بأنفسهم، وهذا المرض هو من أشد الأمراض الاجتماعية، وأخبث الآفات الروحية، لا يتسلط هذا الداء على إنسان إلَّا أودى به، ولا على أمة إلَّا ساقها إلى الفناء، فكيف يصلح المجتمع الإسلامي ومعظم أهله يعتقدون أنهم لا يصلحون لشيء، وأنهم إن اجتهدوا أو قعدوا فهم لا يقدرون أن يضارعوا الأوروبيين في شيء، وكيف يمكنهم أن يناهضوا الأوروبيين في معترك، وهم موقنون أن الطائلة الأخيرة ستكون للأوروبيين لا محالة!
وهكذا أصبح المسلمون في الأعصر الأخيرة، حسب قول أرسلان: «يعتقدون أنه ما من صراع بين المسلم والأوروبي إلَّا سينتهي بمصرع المسلم، ولو طال كفاحه. وقر ذلك في نفوسهم، وتخمر في رؤوسهم، لا سيما هذه الطبقة التي تزعم أنها الطبقة المفكرة العاقلة، المولعة بالحقائق، الصادفة عن الخيالات بزعمها، فإنها صارت تقرر هذه القاعدة المشؤومة في كل ناد، وتجعل التشاؤم المستمر والنعاب الدائم من دلائل العقل وسعة الإدراك، وتحسب اليأس من صلاح حال المسلمين من مقتضيات العلم والحكمة»[17].
وذمًّا لموقف هذه الفئة، يقول أرسلان: «ولم تقتصر هذه الفئة على القول بأن حالة المسلمين الحاضرة، هي متردية متدنية لا تقاس بحالة الإفرنج في قليل ولا كثير، بل زعمت أن التعب في مجاراة المسلمين للإفرنج في علم، أو صناعة، أو كسب، أو تجارة، أو زراعة، أو حرب، أو سلم، أو أي منحى من مناحي العمران، هو ضرب من المحال، وشغل بالعبث لا يليق بالعاقل إتيانه، وكأن المسلمين من طينة والإفرنج من طينة أخرى، فعلو الإفرنج على المسلمين أمر لا بد منه، وكأنه كتب في اللوح المحفوظ، وجف به القلم، ولم يبق أمام المسلمين إلَّا أن يعلموا كونهم طبقة منحطة عن طبقة الإفرنج، ويعملوا بمقتضى هذه العقيدة»[18].
ويذكر أرسلان أنه وقعت له مجادلات كثيرة، مع أصحاب هذا الرأي، الذين أعطاهم وصف المتفلسفين بالفارغ، واعتبرهم من صغار النفوس، ولم يكن يدخل في عقولهم المنطق، ولا يعظهم التاريخ، ولا ينفع، في إقناعهم علم الطبيعة ولا التشريح، ولا يحيك بهم استنتاج ولا قياس، وذلك لما غلب عليهم من آفة الذل.
وخلاصة ما ينتهي إليه أرسلان يقرره بقوله: «إن الواجب على المسلمين لينهضوا ويتقدموا ويعرجوا في مصاعد المجد، ويترقوا كما ترقى غيرهم من الأمم، هو الجهاد بالمال والنفس، الذي أمر به الله في قرآنه مراراً عديدة، وهو ما يسمونه اليوم بالتضحية».
ويُخطِّئ أرسلان من ظن أنه سيجيبه بأن «مفتاح الرقي هو قراءة نظريات آينشتاين في النسبية مثلاً، أو درس أشعة رونتجن، أو ميكروبات باستور، أو التعويل في اللاسلكي على التموجات الصغيرة أكثر من الكبيرة، أو درس اختراعات أديسون»[19].
والحقيقة عند أرسلان، أن هذه الأمور إنما هي فروع لا أصول، وأنها نتائج لا مقدمات، وأن التضحية أو الجهاد بالمال والنفس هو العلم الأعلى، الذي يهتف بالعلوم كلها. فإذا تعلمت الأمة هذا العلم، وعملت به، دانت لها سائر العلوم والمعارف، ودنت منها جميع القطوف والمجاني...
والمسلمون يمكنهم إذا أرادوا بعث العزائم، وعملوا بما حرضهم عليه كتابهم، أن يبلغوا مبالغ الأوروبيين والأمريكيين واليابانيين من العلم والارتقاء، وأن يبقوا على إسلامهم، كما بقي أولئك على أديانهم، بل هم أولى بذلك وأحرى، فإن أولئك رجال ونحن رجال، وإنما الذي يعوزنا الأعمال، وإنما الذي يضرنا هو التشاؤم والاستخذاء وانقطاع الآمال، فلننفض غبار اليأس، ولنتقدم إلى الأمام، ولنعلم أننا بالغون كل أمنية بالعمل والدأب والإقدام، وتحقيق شروط الإيمان التي في القرآن: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ}– العنكبوت: 69»[20].
هذه هي خلاصة رأي أرسلان، في الإجابة عن سؤال: لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟
وقد لقت هذه الرسالة من أرسلان في وقتها رواجاً واهتماماً، وكسبت ترحيباً وتقديراً، وتركت أثراً وتأثيراً ممتداً في العديد من البيئات العربية والإسلامية، كشفت عنه الرسائل المتبادلة بين أرسلان ورشيد رضا، الرسائل التي جمعها أرسلان، وأصدرها في كتاب بعنوان (السيد رشيد رضا أو إخاء أربعين سنة)، الصادر في دمشق سنة 1937م.
ومن صور الاهتمام بهذه الرسالة، العناية بترجمتها إلى أكثر من لغة، ففي إندونيسيا ترجمها محمد بسيوني عمران إلى اللغة الملاوية، وطبعت هناك، وحين تنبهت إليها الحكومة الهولندية المستعمرة، قامت بمصادرتها، وتعقبت كل ما يتعلق بها.
وفي الهند ترجمها محمد أحمد شكور إلى اللغة الإنجليزية، وطبعت في لاهور سنة 1944م، بعنوان (تأخرنا وأسبابه)، وحين تعرف إليها محمد تقي الدين الهلالي عضو كلية ندوة العلماء بالهند، دعا إلى العناية والاهتمام بها، وطالب بتعميم نشرها بطريقة مصححة ومضبوطة ليستوفي في مطالعتها الخاصة والعامة، وأن يسهم الأغنياء في توزيع نسخها، ويدرسها المدرسون للطلبة في مدارسهم، ويتناولها الخطباء في خطبهم[21].
ومن شدة تأثير هذه الرسالة، قررت فرنسا المستعمرة منع دخولها إلى الجزائر، وحضرت على الناس قراءتها، وجعلت عقوبة لمن يطالعها.
-3-
سؤال النهضة.. والنقد العربي المعاصر
مع كل ما ناله كتاب أرسلان بعد صدوره من تقريظ وترحيب وتقدير، إلى جانب ذلك، ظهرت بعض الآراء والمواقف الناقدة له، وعند النظر في هذه الآراء والمواقف التي وقفت عليها، يمكن تصنيفها من ناحية العلاقة ما بين سؤال الكتاب ومادته، إلى ثلاثة أنساق، هي:
النسق الأول: الآراء والمواقف التي نظرت إلى الكتاب مادة ونصًّا، ولم تلتفت إلى سؤاله نظراً وتأملاً، بمعنى أنها فصلت ما بين مادة الكتاب وبين سؤاله، واتجهت إلى مادة الكتاب، بدون الاقتراب من سؤاله، فخرج هذا السؤال من دائرة النقاش والنقد.
وفي هذا النطاق، يمكن الإشارة إلى نمطين من الملاحظات، هما:
أولاً: ملاحظات رشيد رضا
جرت بين رشيد رضا وأرسلان مناقشات داخلية متبادلة، حول بعض القضايا والأفكار الواردة في إجابة أرسلان قبل طبعها في كتاب، أفصحت عنها الرسائل المتبادلة بينهما، التي جمعها أرسلان ونشرها لاحقاً في كتاب (السيد رشيد رضا أو إخاء أربعين سنة).
في هذه الرسائل المتعلقة بإجابة أرسلان، دوَّن رشيد رضا عدداً من الملاحظات التي قصد منها التنبيه والتصويب، ومن أبرز هذه الملاحظات:
1- اعتبر رشيد رضا أن أرسلان أظهر حالة من اللين في الرد على من ينكر أنه كان للإسلام حضارة، وأنه اكتفى بأن الإسلام قد أفاد الحضارة الشرقية وأيدها.. والواقع أن الحضارة الشرقية كانت عند ظهور الإسلام في طور الانحلال والزوال، وأن المسلمين لم يلبثوا بعد تمكَّن ملكهم أن أحيوا العلوم والفنون الميتة ونقَّحوها، وأوجدوا حضارة جديدة إسلامية.
2- وجد رشيد رضا أن أرسلان، بالغ في تبرئة الديانة النصرانية من التأثير في إضعاف مدنية اليونان والرومان، والقضاء عليهما، بمثل ما برأ به الديانة الإسلامية. وفي اعتقاد رشيد رضا أن ما في الأناجيل من المبالغة في التزهيد في الدنيا، وحرمان الأغنياء من دخول ملكوت السماوات، كان له تأثير عظيم في القضاء على تلك المدنية، وكذلك سيرة الأحبار من باباوات وبطاركة وفهمهم للدين.
3- أخذ رشيد رضا على أرسلان، إيجازه في مسألة هوية النهضة أهي دينية أم قومية؟ معتبراً هذه المسألة أولى بالإطالة، وطالبه بإعادة النظر في رأيه، لافتاً نظره لبعض النقاط هي:
أ- إن الكلام في نهضة المسلمين عن حجج القرآن أقوى مقنع لهم للقيام بها، وأعظم مؤثر في أنفسهم على اختلاف أقوامهم.
ب- إن إقناعهم بالنهضة من طريق الدين، لا ينافي قيام كل منهم بما يرقي أنفسهم وأوطانهم، وإن كان فيهم من لا يدين بدينهم ممن قد سبقوهم في النهضة الدنيوية.. فكان سبب تخلف المسلمين عنهم، جهلهم بأن دينهم يدعوهم إلى أن يكونوا السابقين لغيرهم.
ج- إنهم يربحون بالجمع بين النهضتين الدينية والدنيوية بهداية الإسلام، بقاء تعاطف شعوبهم وأقوامهم الكثيرة، وتوادهم وتعاونهم، وفي ذلك من القوة الروحية والاجتماعية والسياسية ما لا يخفى، وأعظم شعوبهم ربحاً من هذه الخطة الشعب العربي.
د- ما في الإسلام من الوقاية، من مفاسد الحضارة المادية وأخطار النزعات البلشفية وغيرها.
هـ- الفوائد الأخرى المذكورة، وهي صيانة الأمة من الإلحاد وإباحة المنكر والفساد[22].
ثانياً: ملاحظات فهمي جدعان
اعتبر الدكتور فهمي جدعان، أن شكيب أرسلان أحد الدعاة العمليين النشطين للجامعة الإسلامية، الذي كرس جل جهوده السياسية في الفترة ما بين الحربين، للقضايا العربية الخالصة، ولم يتخط نشاطه الإسلامي بالإجمال، دائرة الكتابات الصحفية النظرية، فهو رجل المسائل السياسية بالدرجة الأولى، في أبعادها العربية والشرقية والإسلامية، وكان من أولئك المثقفين الذين حاولوا أن يطبقوا مبادئهم النظرية عمليًّا بالكتابة والعطاء والجهاد، وظل يتردد ما بين الفكر السياسي والفكر الديني والفكر الأخلاقي.
ووجد جدعان، أن أرسلان بعد أن شهد سقوط الدولة العثمانية، والذي كان واحداً من أنصارها العرب المخلصين، وبعد الحرب الإيطالية الليبية، وبعد وقوع الأقطار العربية تحت الاحتلال الفرنسي والبريطاني، بدا له أن الانحطاط الذي أصاب العرب المسلمون، يرجع في جوهره إلى علل أخلاقية.
وفي نطاق هذه العلل الأخلاقية، صنف جدعان كتاب (لماذا تأخر المسلمون...)، واعتبر أن أرسلان عدَّد فيه الرذائل الأخلاقية التي وجهت المسلمين نحو الهاوية، وبعد تتبع هذه الرذائل الأخلاقية، سجل جدعان بعض الملاحظات الناقدة، التي يمكن ضبطها وتحديدها في النقاط الآتية:
1- في نظر جدعان أن مختلف أسباب التأخر التي أشار إليها أرسلان، ليست عللاً حقيقية، بقدر ما هي أعراض للعلة الحقيقية.
2- من الواضح عند جدعان، أن أرسلان قد لمس في تحليلاته جانباً مما سبق أن أشار إليه من قبلُ عبدالرحمن الكواكبي (1265-1320هـ/ 1848-1902م)، في كتابه (أم القرى)، لكن أرسلان يبدو أكثر قرباً من الكواكبي، من جهة الإشارة إلى الوقائع الملموسة، والأمثلة المحسوسة، المستقاة من حياة الأقطار العربية والإسلامية.
3- يرى جدعان أن أرسلان على الرغم من منطلقاته الفكرية المثالية، التي لم تجد لها فرصة للتطبيق العملي، فظلت بعيدة عن كل أثر اجتماعي شامل، وباتت محصورة في مشروع فردي، وفي حدود الإشكالية القديمة للنهضة، كما تجلت في القرن التاسع عشر.
4- يضع جدعان تحليلات أرسلان في إطار ما يسميه التفكير العِلِّي الأحادي، الذي يقارب النهضة والتأخر على أساس علة التعلم والتربية والتعليم المدعومين بالأخلاق، وأن حدة هذا النمط من التعليل في نظر جدعان لم ينحسر إلَّا بعد الحرب العالمية الثانية، وذلك حين لاحظ بعض المفكرين أن التعليل الأحادي لا يكفي، وأنه ينبغي على العكس من ذلك بناء النهضة والتقدم على أساس تعدد العلل[23].
النسق الثاني: الآراء والمواقف التي نظرت إلى سؤال الكتاب وتوقفت عنده تأمُّلاً وتفكيراً، ولم تلتفت إلى الكتاب مادة ونصًّا، أي إنها عكست اتجاه النسق الأول الذي اعتنى بمادة الكتاب دون سؤاله، واتجه هذا النسق نحو السؤال فاصلاً له عن مادة الكتاب، التي خرجت من دائرة النقاش والنقد.
وفي هذا النطاق يمكن الإشارة إلى عدد من الآراء والمواقف، وبحسب تعاقبها الزمني هي:
أولاً: ملاحظات مالك بن نبي
في سنة 1970م ألقى مالك بن نبي محاضرة في ملتقى الفكر الإسلامي السنوي، المنعقد في مدينة قسنطينة شرق الجزائر، في هذه المحاضرة التي حملت عنوان (مشكلة الحضارة)، توقف ابن نبي عند سؤال أرسلان، وأوضح أنه ليس بصدد ذكر ما احتوى عليه كتاب أرسلان، وتوقف عند السؤال، لكون أن هذا السؤال في تقديره لم تجب السنين عنه إلى ذلك اليوم، ولكونه أيضاً سؤالاً يتردد في كل مناسبة إسلامية.
أمام هذا السؤال، وحسب منطق الأمور الطبيعية، وسير الحضارات في التاريخ، اعتبر ابن نبي أن سؤال أرسلان هو في غير محله من هذه الجهة، وتساءل: لماذا أوروبا بعد انتهاء الحضارة الرومانية، ومع سقوط روما في أواسط القرن الخامس الميلادي، دخلت في العصور الوسطى، عصور الهمجية والجهل والوحشية كما يقولون، هذا الذي حصل هو أمر طبيعي، ولا طريق لنا في نظر ابن نبي لجواب آخر، وهكذا يجري سير البشر في التاريخ.
وحين تساءل ثانية: لماذا خرجت الأمة الإسلامية من طور الحضارة؟ اعتبر ابن نبي أنه أمر طبيعي أيضاً، لأنها قامت بدورها خلال المدة الكافية لها وخرجت، ولهذا يرى ابن نبي أن ليست المشكلة في لماذا خرجنا من الحضارة؟ فهذا أمر طبيعي لأن الحضارة تدوم مدة معينة، وتمضي إلى غيرها، هذه سنة الله في كونه {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ}[24].
ثانياً: ملاحظات محمد عابد الجابري
عند حديثه عن إشكالية النهضة والتقدم، توقف الدكتور محمد عابد الجابري عند كلمة النهضة، ووجد أن هذه الكلمة في اللغات الأوروبية مرتبطة بالزمان، وتشير إلى معنى الميلاد الجديد، أما في اللغة العربية فهي مرتبطة بالمكان، وتشير إلى معنى القيام والارتفاع عن الأرض.
وأراد الجابري من هذه المفارقة، الكشف عن أن الزمان ليس عنصراً محدداً في خطاب النهضة العربي الحديث، وهذا ما ينطبق في نظره على ذلك السؤال الموصوف عنده بالشهير الذي لخص إشكالية النهضة، سؤال: لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟ فالصورة التي يرسمها هذا السؤال -حسب قول الجابري- في وعي العرب والمسلمين هي صورة مكانية، بمعنى كان العرب متقدمين فتأخروا، وكان غيرهم وبالتحديد أوروبا متأخراً فصار متقدماً.
وما يريد الجابري التأكيد عليه، يقرره بقوله: «إن غياب عنصر الزمان كمحدد لمعنى النهضة والتقدم، يجعل من الجائز، ومن الممكن الاتجاه إلى الماضي عند التفكير في أسبابهما وعواملهما، ومن هنا سيكون الجواب عن السؤال المذكور متجهاً إلى الماضي لا إلى المستقبل، تأخرنا لأننا تركنا سيرة أسلافنا، لأننا انحرفنا عن نهجهم القويم. وقد يأتي الجواب مضاعفاً لينص أيضاً على أن غيرنا تقدم لأنه سلك مسلك أسلافنا، ليس هذا وحسب، بل إن غياب الزمان كمحدد للنهضة والتقدم يجعل من الجائز ومن الممكن اتخاذ موقف معاكس تماماً، أعني إلغاء الماضي والنظر إلى التقدم من خلال الحاضر وحده، فالتقدم في هذه الحالة يعني الانصراف عن الماضي الذي لم يكن متقدماً، الماضي الأوروبي والماضي العربي سواء بسواء هنا، في هذه الحالة، يبدو التقدم لا كمرحلة تاريخية سبقتها مراحل، بل كلحظة راهنة، كفاعلية بشرية في الحاضر، وبالتالي فأسبابه وعوامله وأسسه كامنة في المعطيات الحاضرة وليس فيما مضى، وقد يربط المرء بين الماضي والحاضر، فيرى فيهما معاً ما قد يعتبره عوامل للتقدم وغير التقدم»[25].
ثالثاً: ملاحظات هشام جعيط
في كتابه (أزمة الثقافة الإسلامية) الصادر سنة 2000م، الذي يضم مجموعة من المقالات الفكرية، توقف الدكتور هشام جعيط أمام سؤال أرسلان في ثلاثة موارد، جاءت في ثلاثة مقالات، وعبرت عن ثلاثة مواقف متغايرة، هذه الموارد هي:
المورد الأول: عند حديثه عن العالم الإسلامي وصدمة الحداثة، اعتبر الدكتور جعيط أن مصلحي الإسلام كمحمد عبده أو شكيب أرسلان وغيرهما، لم يطرحا السؤال كما يجب، بل إن سؤال: لماذا تقدم غيرنا وتأخرنا؟ هو سؤال غير جائز.
المورد الثاني: أشار إليه الدكتور جعيط، عند حديثه عن تقدم اليابان وتعثر العرب، معتبراً أن المسلمين طرحوا في أوائل القرن العشرين مشكلة تقدم الغير وتأخرنا نحن، وكانوا يقصدون بالغير أوروبا، وهم ما زالوا كذلك إلى الآن، وغاب عنهم -حسب قول جعيط- أن هناك آخرين غير الغرب مماثلين لهم، مثل الصين واليابان والهند، يمتلكون حضارات قديمة ووعياً بالذات، كما غاب عنهم كنه التطور الأوروبي، فلم يفهموا منه شيئاً، وما هم بقادرين على ذلك.
المورد الثالث: أشار إليه الدكتور جعيط، عند حديثه عن فرص العالم العربي لبلوغ الديمقراطية، وافتتح المقال بقوله: كان شكيب أرسلان هو الذي صاغ إشكالية الإصلاح السياسي والحضاري في تعبيرها الأدق، حين تساءل: لماذا تمدن الآخرون وتأخرنا نحن؟ واعتبر أننا نواجه هنا رؤية نرجسية، بقدر ما نواجه تناقضياً سيرورة تحط من قيمة الذات، فضلاً عن مواجهة أو مقارنة مع أوروبا لا مبرر لكل منهما، ذلك لأن العالم بأسره في نظر جعيط، كان متأخراً عن أوروبا، على صعيد الإبداعات الحضارية، وليس النطاق العربي أو الإسلامي فقط[26].
رابعاً: ملاحظات هاشم صالح
أشار هاشم صالح إلى سؤال أرسلان وأعطاه صفة السؤال المشهور، وتعمد حسب قوله أن يعكس سؤاله: لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟ إلى سؤال: لماذا تقدمت أوروبا وتأخر غيرها؟ لكي يصل إلى النتيجة نفسها، معتقداً أن المثقفين العرب لم يجيبوا عن سؤال أرسلان حتى هذه اللحظة، بالرغم من كل محاولات تجديد الفكر العربي، ونقد التراث، ومراجعة الماضي.
وفي نظر صالح أنه لكي نجيب عن سؤال أرسلان، ينبغي أن نعرف سبب تقدم الغير وتأخر الذات في آن معاً، ونحن في كلتا الحالتين لم ننجح حتى الآن، على الرغم من بعض المحاولات الجادة والمخلصة حسب وصفه، وفي اعتقاده أن سبب الفشل لا يعود إلى عدم الجرأة في الذهاب إلى أعماق الأشياء، وإنما لعدم توافر الكفاءة العلمية والفلسفية للقيام بذلك، كما توافرت في أوروبا، وفي ساحة الفكر الأوروبي الحديث والمعاصر[27].
النسق الثالث: الآراء والمواقف التي نظرت إلى سؤال الكتاب ومادته معاً، وفي هذا النطاق جاءت ملاحظات الدكتور رضوان السيد التي أشار إليها في موردين، في المورد الأول توقف الدكتور السيد عند سؤال أرسلان، وفي المورد الثاني توقف عند مادة الكتاب، وهذان الموردان هما:
المورد الأول: أشار إليه الدكتور السيد في كتابه (سياسيات الإسلام المعاصر) الصادر سنة 1997م، واعتبر فيه أن سؤال أرسلان: لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم؟ يلخص الإشكالية التي شغلت سائر النهضويين والإصلاحيين، وهي إشكالية التقدم، التي سبق أن عالجها من قبل جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده والكواكبي، ويرى الدكتور السيد أن هذه الإشكالية تعكس وجهة نظر أولئك الإصلاحيين، والتي ترى أن «العلاقة المتفاوتة وغير العادلة بين الغرب والمسلمين أسبابها معرفية وإرادوية، فبالعلم والتنظيم يمكننا اللحاق بأوروبا، بل التفوق عليها للفضائل التي تتمتع بها ثقافتنا، ويتمتع بها اجتماعنا مما لا يملكه الغربيون. وقد أجاب النهضويون على هذا السؤال، إجابات متعددة تقدم فيها المعرفي على التنظيمي أو العكس؛ لكنها كانت دائماً تدور بين هذين الأمرين، مع إضافة مسألة ثالثة أحياناً من جانب المحافظين، من بينهم بالقول: إن من الأسباب المهمة للغلبة الغربية ترك المسلمين لمقتضيات ومتطلبات دينهم، ومن هذه المتطلبات أو من أهمها طبعاً المعرفة والتنظيم!»[28].
المورد الثاني: أشار إليه الدكتور السيد في كتابه (الصراع على الإسلام) الصادر سنة 2004م، الذي أظهر فيه تغيُّراً أو تجدُّدًا في موقفه، فبعد أن أعتبر في المورد الأول أن سؤال أرسلان، يلخص إشكالية التقدم عند سائر النهضويين والإصلاحيين، تغيَّر هذا الموقف بعض الشيء في هذا المورد، إذ اعتبر الدكتور السيد أن سؤال أرسلان، كان بالوسع اعتباره متابعة لسؤال النهضويين الأساسي، لولا الطابع المقارن الذي يظهر فيه، والنزعة الإرادوية القوية التي تسودها.
هذا عن السؤال، أما عن الكتاب مادته ومحتوياته، فقد سجل عليه الدكتور السيد الملاحظات الآتية:
1- يرى الدكتور السيد أن من الطريف في صنيع أرسلان، أنه وهو المقيم في لوزان بسويسرا، ما رأى في اضطراب الأوضاع الدولية آنذاك، ما يبعث على قلق الأوروبيين على مصائر حضارتهم.
2- وجد الدكتور السيد أن أرسلان ما أعاد النظر في رسالته بعد نشوب الحرب العالمية الثانية، رغم أنها طبعت خلالها مرتين.
3- لاحظ الدكتور السيد أن أرسلان ما استخدم ابن خلدون، ولا أزوالد شبنجلر صاحب كتاب (انهيار الغرب)، كما فعل زميلاه الشاميان رفيق العظم ومصطفى الغلاييني، في التدليل على أعمار الحضارات ومصائرها، رغم أنه كان يعرفهما كما يظهر من كتبه الأخرى[29].
هذه بعض الآراء والمواقف التي ظهرت في ساحة النقد العربي المعاصر، وفضَّلت تصنيفها بهذه الطريقة، بوصفها تُمثِّل طريقة موضوعية، بعيدة كل البعد عن التحيزات بكافة صورها وأشكالها.
-4-
ملاحظات ونقد
بعد هذه الجولة الاستطلاعية والاستكشافية والتحليلية، نتوقف عند بعض الملاحظات التي لا بد من الإشارة إليها، ومنها:
أولاً: لو أردنا البحث عن ماذا بقي من كتاب أرسلان، لجاز لنا القول: إن أكثر ما بقي منه هو سؤاله الذي ما زال حاضراً ومتحركاً، وما زال يستقطب الجدل والنقاش في ساحة الكتَّاب والباحثين على تعدد وتنوع خطاباتهم ومنهجياتهم، واختلاف وتباعد ميولهم وأذواقهم الفكرية والثقافية، ومع تقادم وتعاقب أزمنتهم وأجيالهم.
أما مادة الكتاب فيصدق عليها تقريباً، أنها أصبحت جزءاً من التاريخ الفكري الذي ينتسب إلى تاريخ الفكر العربي والإسلامي الحديث، وذلك لكون أن هذه المادة وتحليلاتها غلب عليها الاستناد إلى أحداث ومواقف ووقائع ترجع إلى تلك الفترة، وتحسب على وضعيات المنطقة العربية في عشرينات القرن العشرين، خاصة مع التوسع والإسهاب في الإشارة إلى تلك الأحداث والمواقف والوقائع.
ويتأكد هذا الموقف، مع الانطباع الذي تشكَّل عند البعض، في اعتبار أن مادة الكتاب تمت صياغتها بالأسلوب الصحفي والخطابي العاجل، الانطباع الذي نقله القاضي الشرعي اللبناني الشيخ حسن تميم في تقديمه لكتاب أرسلان، وأضاف إليه ما ذكره أحمد الشرباصي بقوله: إن هذه الرسالة (أشبه بخطبة طويلة النفس، فيها من الإثارة والتحميس، أكثر مما فيها من البحث والإقناع)، هذا القول الذي نقله الشيخ تميم، وصفه أنه قول حق وصدق، واعتبر أن مهما قيل في هذه الرسالة، فقد كانت بنت ساعتها، وضرورة من ضرورات عصرها[30].
ثانياً: إن الذي جعل سؤال أرسلان يكون باقياً وحاضراً ومؤثراً، هو طبيعته المُركَّبة، وطابعه المقارن، ولو لم يكن بهذه الطبيعة وبهذا الطابع لما اكتسب صفة البقاء والحضور والتأثير، ولو جاء السؤال مكتفياً بالمقطع الأول لماذا تأخر المسلمون؟ لكان سؤالاً عادياً من جهة، وناقصاً من جهة أخرى.
عادياً، لكون أن التساؤل عن لماذا تأخر المسلمون؟ من السهل التنبُّه له، ومن البساطة الحديث عنه، ولكونه أيضاً تساؤلاً مطروحاً ومتداولاً بهذه الصيغة التي تفتقد إلى عنصر الإثارة والدهشة، العنصر الذي يرفع من قيمة السؤال، ويدفع به نحو المجال التداولي، وبه تتحدَّد حيوية السؤال وديناميته.
وناقصاً، لكون لا يكفي معرفة لماذا تأخر المسلمون؟ فالإجابة عن هذا السؤال تكون ناقصة ومبتورة من دون معرفة ولماذا تقدم غيرهم؟ وذلك راجع إلى أمرين متلازمين، الأمر الأول له طبيعة سننية، والأمر الثاني له طبيعة موضوعية.
بشأن الأمر الأول ذي الطبيعة السننية، فمن الواضح أن قوانين التأخر هي غير قوانين التقدم، بمعنى أن التأخر يكون محكوماً بقوانين بسببها يحصل التأخر، وعند حصوله لا بد من النظر إليه على أساس هذه القوانين. وهكذا التقدم يكون محكوماً أيضاً بقوانين بسببها يتحقق التقدم، وعند تحققه لا بد من النظر إليه على أساس هذه القوانين.
فلا يكفي معرفة قوانين التأخر، بل لا بد من معرفة قوانين التقدم أيضاً، وبحسب هذه القاعدة، لا يكفي معرفة لماذا تأخر المسلمون؟ السؤال الذي ينطبق عليه قوانين التأخر، بل لا بد أيضاً من معرفة لماذا تقدم غيرهم؟ السؤال الذي ينطبق عليه قوانين التقدم.
وبشأن الأمر الثاني ذي الطبيعة الموضوعية، فإن التأخر والتقدم لهما واقع وموضوع متحقق على الأرض في داخل عالمنا، وينبغي النظر لهما في داخل عالمنا، وليس خارجه أو بعيداً عنه.
وأن التأخر والتقدم الذي نقصده هو ما نراه حاصلاً في واقعنا اليوم، الواقع الذي يجعلنا نتنبَّه دائماً وباستمرار إلى حالة الشعور بالتأخر من جهة، والحاجة إلى التقدم من جهة أخرى، وتقدم الغير هو الذي ينبهنا إلى تأخرنا، ولولا تقدم الغير لما تنبهنا نحن إلى تأخرنا.
ثالثاً: يضعنا سؤال أرسلان أمام جدلية الحديث عن الذات والآخر، في إطار العلاقة بين التأخر والتقدم، تأخر الذات وتقدم الآخر، وهذه هي إحدى صور العلاقة، ومن أكثرها أهمية وفاعلية، لأنها تقارب الإشكالية الكبرى في الأمة، إشكالية النهضة والتقدم، الإشكالية التي ينبغي أن تتقدم على جميع الإشكاليات الأخرى، وتكون حاكمة عليها، وناظمة لها.
وحسب هذه الجدلية، لا يكفي النظر إلى الذات، والانغلاق عليها، وحصر الحديث في لماذا تأخر المسلمون؟ بل لا بد من النظر إلى الآخر، والتعرف إليه، والاتعاظ منه ومن تجربته، وتوسعة الحديث ليشمل أيضاً البحث عن لماذا تقدم غيرنا!
وبحسب هذه الجدلية أيضاً، فإن تأخر الذات لا ينبغي أن يكون سبباً للانغلاق، ومانعاً من النظر في تقدم الآخر، وذلك لأن التأخر يكون سبباً للانغلاق على الذات، ومانعاً من التواصل مع الآخر المختلف والمتقدم، فهناك تلازم بين التأخر والانغلاق، التأخر يؤدي إلى الانغلاق، والانغلاق يكون كاشفاً عن التأخر.
وبهذا التصور، فإن سؤال أرسلان يضع جدلية الحديث عن الذات والآخر في المجال العربي والإسلامي، أمام أفق يتجاوز حدود الانغلاق على الذات، ويدفع نحو النظر في تجربة الآخر المختلف والمتقدم.
رابعاً: يرى الدكتور رضوان السيد أن هناك تحولاً انكماشيًّا حصل في ساحة الفكر الإسلامي المعاصر، دفعت به نحو الانتقال من سؤال أرسلان، إلى سؤال آخر طرحه في أواخر أربعينات القرن العشرين أبو الحسن الندوي (1333-1420هـ/1914-1999م)، في عنوان كتابه (ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين).
وعن هذا التحول وانعكاساته يقول الدكتور السيد «ففي حين كانت المسؤولية أيام شكيب أرسلان، عن انحطاط المسلمين، وتقدم الغربيين عليهم تقع على عاتق المسلمين، فإن الندوي يوجه النظر هنا إلى ناحية مختلفة تماما من نواحي أو جوانب هذه الإشكالية، إسهام المسلمين القدامى في حضارة العالم، وانحراف الحضارة العالمية عن المسار الصحيح، نتيجة توقف الإسهام الإسلامي في بنائها وتطورها. ورغم الإيجابية البادية لأول وهلة في هذا المنحى، والمتمثلة في تنبيه المسلمين إلى الدور العالمي الذي ينبغي أن يعودوا للقيام به، فإن آثار الانكماشية الإسلامية واضحة في الموضوع والمعالجة، الغرب مسؤول مسؤولية كبرى عن انحطاط المسلمين، إنها مسؤولية تكاد تعادل مسؤولية المسلمين أنفسهم»[31].
ومع أن سؤال الندوي لم يستطع أن يحل مكان سؤال أرسلان، ولا حتى أن يزاحمه، مع ذلك فإن هذه المقاربة من الناحية المسلكية، تضع الفكر الإسلامي المعاصر أمام خيارين، خيار التمسك بسؤال أرسلان الذي يقارب إشكالية النهضة في إطار العلاقة بين الذات والآخر، وعلى أساس جدلية التأخر والتقدم، وبين خيار التمسك بسؤال الندوي الذي يقارب الإشكالية في إطار الذات، وبعيداً عن العلاقة مع الآخر، وعلى جدلية المسلمين والعالم، ومازال الفكر الإسلامي المعاصر أمام هذين الخيارين، تتنازعه الرغبات والإرادات.
اضف تعليق