آراء وافكار - دراسات

سلطة الثقافة

عند السوسيولوجي بيير بورديو

مفهوم السوسيولوجيا عند \"بيير بورديو\" مرتبط بمنهجه النقدي تجاه مفاهيم السلطة الرمزية، ومفهوم الهيمنة وسلطة الاعلام، ومدي تأثيره في تشكيل العقول وما تخفيه من عنف وهيمنة فإن الاهتمام بجانبه السوسيولوجي، مهم لنا في هذا المقام. لعل فترة القرن 20م ملائمة جدا لاهتماماته، حيث اتخذ هذه...

لقد ارتبط مفهوم السلطة بالتصور السياسي القانوني وبالتالي بمختلف أجهزة الدولة ومؤسساتها، ولكن نتيجة تضافر مجموعة من العوامل السوسيو-اقتصادية والسياسية والثقافية والحضارية التي أدت إلى تطور الفكر الغربي في مختلف المجالات، أفرز مفهوما جديدا للسلطة.

يمكن اعتبار السوسيولوجي، "بيير بورديو" من أهم مؤسسي هذا الفهم الجديد لمفهوم السلطة وذلك في مجال الدراسات السوسيولوجية، وذلك من خلال اهتمامه الخاص بالكشف عن مختلف آليات السيطرة والهيمنة والعنف الرمزي، انطلاقا من دراسته الميدانية لبنية المجتمع الغربي.

وعليه ترتبط أشكال الهيمنة والتسلط الثقافي والعنف الرمزي بالسلطة والحقل المجتمعي، بمعنى أن الدولة تمارس عبر مجموعة من المؤسسات أهمها (الاعلام) عنفا رمزيا ضد الأفراد والمجتمعات.[1]

يدفعنا هذا الطرح للإجابة عن إشكال هام يتجلى في العنف الرمزي الممارس داخل المجتمع من خلال سلطة الاعلام بشتى أشكاله؟

لأن مفهوم السوسيولوجيا عند "بيير بورديو" مرتبط بمنهجه النقدي تجاه مفاهيم السلطة الرمزية، ومفهوم الهيمنة وسلطة الاعلام، ومدي تأثيره في تشكيل العقول وما تخفيه من عنف وهيمنة فإن الاهتمام بجانبه السوسيولوجي، مهم لنا في هذا المقام.

لعل فترة القرن 20م ملائمة جدا لاهتماماته، حيث اتخذ هذه الفترة أساسا لرؤاه وبناء نظرياته السوسيولوجية من خلال دراسة المجتمع وفضح عيوبه، واعتباره فضاء للصراع والمنافسة والهيمنة والتركيز على الدور الذي تقوم به مختلف الثقافات والطبقات الاجتماعية داخل الصراع الذي يحدث بين هذه الطبقات بشكل واع وأحيانا غير واع، مما يفسح المجال للمجتمعات إلى تكريس إنتاج التراتبية الطبقية نفسها بالتركيز على كل ما هو ثقافي ورمزي.[2] فسوسيولوجية بورديو هنا تتجه إلى تعرية واقع الهيمنة السلبية للقوة والنفوذ، وانتقاد المجتمع الليبرالي بمختلف أشكاله وخاصة التي تتميز بالظلم واللامساواة وصراع الحقول والطبقات الاجتماعية. لتصبح السوسيولوجيا هنا أداة منهجية للنقد الموجه في الأساس إلى فضح المستور واستنطاق المسكوت عنه وكشف المضمر عن العلاقات الانسانية القائمة على الهيمنة والتنافس.

- السلطة الرمزية:

لكون هذه السلطة غير مرئية فتأثيرها أشد وقعا لأنها تستهدف المستوى النفسي والذهني للفرد بطرق وأساليب منظمة مبنية على التستر وراء الأقنعة المعتادة كالتقاليد والقوانين وما هو شائع بين الناس.[3] ومن جهة أخرى فهي لا تمارس إلا بقابلية أولئك الذين يأبون الاعتراف بأنهم خاضعون لها. "إن السلطة الرمزية من حيث هي قدرة على تكوين المعطى عن طريق العبارات اللفظية، ومن حيث هي قدرة على الإبانة والإقناع وبإقرار رؤية عن العالم أو تحويلها، ومن ثمة قدرة على تحويل التأثير في العالم، وبالتالي تحويل العالم ذاته، قدرة شبه سحرية تمكن من بلوغ ما يعادل ما تمكن منه القوة (الطبيعية أو الاقتصادية) بفضل قدرتها على التعبئة."[4]

إن اللغة حسب هذا القول تلعب دورا هاما، فإذا كانت السلطة الرمزية تستهدف التأثير على عقول الأفراد، فإن من يمارس هذه السلطة يجب أن تكون له القدرة على توضيح مقاصده وإقناع الآخرين بأفكاره التي سيوصلها لهم من خلال لغة معينة. (السلطة الرمزية عند بيير بورديو)

فتستطيع اللغة والخطابة بشتى أشكالها على التأثير في الناس وفي تمثلاتهم للعالم، فهي تستطيع دون استعمال العنف المادي أن تبلغ ما يعادل ما تبلغه القوة الطبيعية أو الاقتصادية.

- المدرسة أداة تشكيل وفرض الثقافة:

تهدف البنى التربوية الخفية إلى تقديم خدمة للنظام السياسي والاجتماعي، أي للضبط الأخلاقي والهيمنة الثقافية والأيديولوجية، من خلال الترويج لقيم الطبقية، فالأهداف الخفية في مجملها خادمة للطبقة التي تسود وتهيمن، إن كل فعل بيداغوجي، إنما هو موضوعيا عنف رمزي، ما دام فرض من طرف سلطة اعتباطية، ولاعتقاد أن علاقات القوة بين الطبقات المكونة لتشكيلة اجتماعية، هي من السلطة الاعتباطية أساسا وأساس هذه السلطة هي فرض اعتباط ثقافي وتلقينه وفق نمط اعتباط بيداغوجي للتلقين والتربية.

لذلك اعتبر بورديو، أن المدرسة هي المكان المناسب لإعادة فرض التعسف الثقافي الذي ينتج التدابير الثقافية اللامتكافئة، ومن ثمة شرعنة الثقافة، بحيث لا يعدو المنهاج الخفي للمدرسة أن يكون غير صورة للعنف الرمزي والسلطة الرمزية، وفي ظل هذا الواقع لا مجال للحديث الصريح عن ذلك الانسان الحر والمتكامل.[5]

فلفهم الثقافة المفروضة من قبل المدرسة، يستلزم استحضار المنظومات الرمزية والسلطة الرمزية لوجود تلازم بينهما، وهي أدوات للتواصل المعرفي، يقول بورديو عنها "لا يمكن للمنظومات الرمزية، باعتبارها أدوات للمعرفة والتواصل، أن تمارس سلطة وتفرض البنيات إلا لكونها تتحدد هي كذلك كبنيات. إن السلطة الرمزية هي سلطة بناء الواقع وهي تسعى لإقامة نظام معرفي. فالمعنى المباشر للعالم (والعالم الاجتماعي على الخصوص) يفترض ما يدعوه دوركهايم المحافظة المنطقية وأعني مفهوما متجانسا عن الزمان والمكان والعدد والعلة، ذلك المفهوم الذي يسمح للعقول بأن تتفاهم فيما بينها. يعود الفضل "لدور كهايم" و"لراد كلايف براون" فيما بعد الذي يعتبر أن مرد "التضامن الاجتماعي"، هو الاشتراك في ذات المنظومة الرمزية لكونه أبرز الوظيفة الاجتماعية (بالمعنى البنيوي- الوظيفي) الرمزية. وهي وظيفة سياسية لا تقتصر على وظيفة التواصل التي يتحدث عنها البنيويون، فالرموز هي أدوات "التضامن الاجتماعي"، بلا منازع، ومن حيث هي أدوات معرفة وتواصل، فهي تخول الاجماع بصدد معنى العالم الاجتماعي، ذلك الاجماع الذي يساهم أساسا في إعادة إنتاج النظام الاجتماعي، فالتضامن "المنطقي" شرط التضامن الأخلاقي."[6]

إن هدف الطبقة المسيطرة، هو التحكم في السيطرة الثقافية، حيث يتطلب ذلك تبرير النظام القائم وذلك بإقرار الفروق والطبقية وتبريرها، بما يسميها بورديو التضليل المشروع، حيث تفرض الثقافة المسيطرة عنفها الأيديولوجي عن طريق، "تغليف وظيفة التقسيم وإخفائها تحث قناع وظيفة التواصل، فالثقافة الموحدة (وسيلة التواصل) هي ذاتها الثقافة الفاصلة المقسمة (أداة التمايز)، التي تبرر الفوارق بإرغامها مختلف الثقافات (التي تعتبر تقافات دنيا)، أن تتحدد بمدى ابتعادها عن الثقافة السائدة."[7]

ولهذا فإن تمثيل فاعلية السلطة من قبل مبادئ السيطرة والشمولية، وعلى أساسها أهمية اللغة والدور الخطير الذي تلعبه من قدرة وسلطة على التوجيه، "إن من يهمل مسألة استعمالات اللغة، وبالتالي مشكلة الشروط الاجتماعية لاستخدام الكلمات لابد وأن يظل طرحه لمسألة سلطة الكلمات ونفوذها طرحا ساذجا، (...) إن قدرة العبارات على التبليغ لا يمكن أن توجد في الكلمات ذاتها تلك الكلمات التي لا تعمل إلا على الإشارة إلى تلك القدرة أو تمثيلها على الأصح، ولا يحدث إلا ناذرا أي في عمليات التجريب المجردة المصطنعة أن تتحول المبادلات الرمزية إلى مجرد علاقات تواصل، ويؤول فحوى التواصل بكامله إلى المضمون الإخباري للتبليغ، فليست سلطة الكلام إلا السلطة الموكولة لمن فوض إليه أمر التكلم والنطق بلسان جهة معينة، والذي لا تكون كلماته، (أي فحوى خطابه وطريقة تكلمه في ذات الوقت)، على أكثر تقدير، إلا شهادة من بين شهادات أخرى، على ضمان التفويض الذي وكل للمتكلم."[8]

تلعب الإيديولوجيات دورا هاما في خدمة المصالح الخاصة، وتسعى إلى تقديمها كما لو كانت مصالح جماعية تشترك فيها الجماعة بكاملها. حيث تعمل الثقافة السائدة على التكتل الفعلي لأفراد الطبقة السائدة (لكونها تضمن التواصل المباشر بين جميع أعضائها وتميزهم عما عداهم من الطبقات، وهي تساهم بهذا في خلق التكتل الوهمي لأفراد المجتمع في مجموعة وشكل الوعي الخاطئ للطبقات المسودة، وبالإضافة إلى ذلك فهي تعمل هذه (الطبقات المسيطرة)، على تبرير النظام القائم وذلك بإقرار الفروق وإقامة المراتب وتبريرها.[9] حيث تشكل الطبقة السائدة مكان للصراع من أجل فرض مراتب مبادئ التراتب الاجتماعي، فالفئات السائدة التي ترتكز سلطتها على رأسمالها الاقتصادي ترمي إلى فرض مشروعية سيادتها إما عن طريق إنتاجها الرمزي، أو بفضل من يدافعون، (...) عن الإيديولوجيا المحافظة، والذين لا يخدمون مصالح الفئات السائدة إلا فضلا عن ذلك الدفاع؟"[10]

ومع ذلك تجد هذه الطبقات المسيطرة، دائما تهدد على الدوام بأن يجعلوا سلطة تحديد العالم الاجتماعي، تعمل لصالحهم.

إن هذه الهيمنة الطبقية نجد ترسيخها في الفعل البيداغوجي، الذي ليس مجرد علاقة تواصل بين المتعلم والمتلقي، بل هو أداة فرض وتلقين وبالتالي تمرير قوالب ثقافية معينة.

يتمظهر ذلك من خلال التقسيم الطبقي والثقافي. منذ مرحلة مبكرة في حياة الانسان، حيث يحظى أبناء الطبقة المسيطرة بإرث لغوي وثقافي، يسمح لهم بالتمييز والتفوق على أبناء الطبقة المسيطر عليها، ولكل واحدة درجتها ورأسمالها الثقافي مما ينعكس سلبا مستقبلا عن تكريس ثقافة معرفية قائمة على تواصل بين بنية اجتماعية فوقية وأخرى من ذلك.[11]

"إن مفهوم الرأسمال الثقافي يسمح تحديدا بإبراز لا تكافئ الانجازات الدراسية للأطفال المنحدرين من مختلف الطبقات الاجتماعية، في تحصيل النجاح المدرسي، أعني المنافع النوعية التي يستطيع أبناء مختلف الطبقات للحصول عليها في السوق المدرسي عند توزيع الرأسمال الثقافي بين الطبقات وأجزاء الطبقات... هكذا يؤكد التباينات الثقافية بين التلاميذ.[12]

إن المجال الاجتماعي يعتبر مجالا للقوة تميزه طبيعة العلاقات والتفاعلات القائمة بين الأفراد المشاركين فيه، مما يؤدي إلى نشوء علاقات قوى وعلاقات السلطة تأخذ شكل الهيمنة والسيطرة. فما حدود تطور التقنيات التواصل الاجتماعي بناءا على أدوات ووسائل الاعلام؟

يشغل الحديث عن التخوف من شبح العولمة فضاءا فكريا واسعا عند الشعوب.

إن الذين يتحدثون عن مخاطر العولمة الثقافية المتمثلة في اختراق الخصوصية الثقافية لهذه المجتمعات، لديهم من الأسباب الموضوعية ما يجعل قلقهم وتخوفهم منطقيا، فهذه الثقافات رغم ما تملكه من مقومات ذاتية للبقاء والاستمرار، كانت ولا تزال قبيل بزوغ شمس العولمة تخوض معركتها مع التحديات والتغيرات التي شهدتها مجتمعاتها في النصف الأخير من القرن المنصرم والتي أحدثت واقعا اجتماعيا واقتصاديا وثقافيا ونفسيا وبيئيا جديدا قلل من حيوية هذه الثقافات وجفف كثيرا من مصادرها ومنابعها.[13]

حيث أصبحت تكنولوجيا الشبكات ومنظمات إقامة الشبكات ليست إلا وسائل لتفعيل الاتجاهات المرسومة في الهيكل الاجتماعي، وتمتد جدور العملية المعاصرة للعولمة إلى العوامل الاقتصادية والسياسية والثقافية كما ترصدها التحليلات البحثية للعولمة.[14]

إن هيمنة شبكة العولمة الحاسمة اجتماعيا، يكمن في الاستعباد من هذه الشبكات وهو يتخذ غالبا شكل عملية الاستعباد التراكمي، بمثابة تهميش هيكلي في مجتمع شبكات العولمة.[15] حيث يقتضي أحيانا تغيير في برامج الشبكات وظروف وشروط عمل هذه البرامج واعتماد أيضا على قدرة الفاعلين الاجتماعيين في سياقات مختلفة على العمل في هذه البرامج وتعديلها، خدمة لمصالح الطبقة المسيطرة ويمثل مجتمع الشبكات العالمي بناء ديناميكيا شديد الاستجابة للقوى الاجتماعية والثقافية والسياسية والاستراتيجيات الاقتصادية، لكن ما يبقى في كل الحالات هو هيمنتها على الأنشطة والأشخاص من خارج الشبكات وفي هذا الصدد يطغى العولمي على المحلي، مالم يصبح المحلي مرتبطا بالعولمي كعقدة في شبكات بديلة للعولمة أقامتها الحركات الاجتماعية.[16] فمجتمع الشبكات هو إذن مجتمع العولمة.

يؤكد "كاستلز"، أن أهم مصادر التأثير في عالم اليوم هو تغيير عقول البشر دوما مادامت درجة خطورة العولمة بكل آلياتها تصل إلى درجة التأثير في العقول، فإن وسائل الإعلام هي الشبكات المحورية. لأن وسائل الإعلام المنظمة في تكتلات عالمية وشبكاتها التوزيعية هي المصدر الأول للرسائل والصور التي تصل إلى عقول البشر.[17]

إن ممارسة أنشطة التأثير في العقول هو بالدرجة الأولى (المقام الأول) نشاطا إعلاميا، بحيث يصبح منطق تحقيق الربح في الطابع التجاري لوسائل الإعلام، من خلال صناعة الإعلام وفي تقييم أسهمها، هو القيمة الأسمى.[18]

من جانب آخر، إن علاقات الهيمنة بين الشبكات هي مسألة حاسمة فهي تتميز بتفاعل مستمر ومرن، على سبيل المثال بين أسواق المال العالمية وعمليات الجغرافيا السياسية واستراتيجيات وسائل الإعلام.[19]

إن العولمة التي تعتبر وسائل الاتصال أحد أذرعها الهامة، تحكم سيطرتها على كل شيء بحيث لا يستطيع الأفراد أو المجتمعات الصغيرة أو الدول الاحتفاظ بخصوصياتها معها، غير أن هذه الهيمنة المبالغ فيها، جعلت الأفراد والجماعات والدول يشعرون بالقلق.[20]

إن أبرز مظاهر هذا القلق يكمن في زمن اللاوقت، يقول كاستلز: "هناك صيغتان بارزتان للمكان والزمان تميزان مجتمع الشبكات وتتعايشان مع الصيغ السابقة وهما مكان التدفق وزمن اللاوقت... يمكن تعريف المكان في النظرية الاجتماعية باعتباره دعما ماديا للممارسات الاجتماعية التي تتقاسم الوقت، بمعنى بناء التزامنية، ويمكن فهم تطور التكنولوجيا الاتصال باعتبارها فك اتصال الزمن وممارسة الوقت"[21]

إن مكان التدفق ليس بلا مكان، إنه مكون من عقد وشبكيات، أي من أمكنة متصلة بشبكات اتصال إلكترونية تتدفق خلالها معلومات تضمن أن تنتشر وتتفاعل ممارسته تقاسم الوقت، لأن الممارسات القائمة على الشبكات تعتمد على تدفق المعلومات التي تعالج بين المواقع المختلفة من خلال تكنولوجيا الاتصال، فإن مكان مجتمع الشبكات مؤلف من التمييز بين أهم عناصر متجلية في الأماكن التي يوجد فيها الأنشطة والأشخاص الذين ينقذونها وشبكات الاتصال المادية التي تربط هذه الأنشطة ومحتوى هندسة تدفق المعلومات التي تؤدي الأنشطة فيما يتعلق بالوظيفة والمعنى، هذا هو مكان التدفق.[22]

على مستوى آخر نجد أن من سلبيات وسائل الاعلام خاصة على المستوى الثقافي هي مهددة بأن يصيبها ضرر كبير من العولمة، لعدم توافر الامكانات، لحماية هذه الثقافات من الفيضان الذي يتلقاه الفرد من خلال هذه الوسائط لنقل المعلومات وقنوات الاتصال الفضائية. وقد لا يتحقق هذا الأمر إذا كانت هذه الشعوب، وهذه المجتمعات تمتلك القدرة المادية والمعنوية لصيانة ذاتها وكيانها الثقافي الخاص.[23]

مما نفهم أن الثقافات الاجتماعية أو المناطق الجغرافية التي يسهل السيطرة عليها من طرف العولمة ومختلف وسائلها وأدواتها الاعلامية، هي المجتمعات الأمية والفقيرة من جميع النواحي، فالعولمة لا تكتسح الثقافات والمجتمعات والشعوب التي افتقدت معالمها التاريخية والحضارية. فإذا كان منهج العولمة هو إخضاع الشعوب لمنطق موحد، فإن هذا لا يعني التبعية لتقاليد ووصايا الغير. وإنما ملاذ هؤلاء هو آلية النقد كوصية منهجية للحداثة، فبفضلها يتحصن الفرد من الاستيلاب والاغتراب الذي تمارسه عليه هذه الوسائل، والتي عبر عنها بورديو "بالعنف الرمزي".

"إن الثقافة المشتركة لمجتمع الشبكات العالمي هي ثقافة البروتوكولات الاتصال التي تتيح عمليات الاتصال بين الثقافات المختلفة، ليس على أساس الاشتراك في القيم بل على أساس الاشتراك في قيم الاتصال...الثقافة العالمية ثقافة اتصال من أجل الاتصال.."[24]

- دور الأنترنيت في فرض/ تكريس الهيمنة:

في مجتمع الشبكات الثقافية الكامنة في الأغلب على عمليات الاتصال وبخاصة الروابط الإلكترونية عبر الأنترنيت، حيث تحتل شبكات، شركات وسائل الإعلام متعددة الوسائط، والأنترنيت موقع القلب، ومن تمة تتولد الأفكار من مصادر مختلفة وثقافات فرعية مثل، (الأديان والهويات الثقافية وعبادة الحرية الشخصية...)، غير أن هذه الأفكار داخل المجتمع تتم معالجتها وإعادة فبركتها وفقا للطريقة التي يتم تمثيلها في ساحة الاتصال وتصل هذه الأفكار في النهاية إلى جمهور كل شبكة استنادا على مستوى تعرض الجمهور لعملية الاتصال.

إن السيطرة والتأثير على شبكات الاتصال، هي القدرة التي يبتغي المسيطرين والمبرمجين فرضها على الشبكة بأسرها، وعليه فإن تشكيل جمهور هذه المشروعات ومجالات السلطة في مجتمع الشبكات، هو من أجل تنفيذ عمليات الاتصال في المجالات الرئيسية التي تجري فيها مشروعات البرمجة.[25]

إلى جانب هذا نجد إصرار المشروعات والقيم البديلة التي يقدمها الفاعلون الاجتماعيون على إعادة برمجة المجتمع باستمرار عبر شبكات اتصالية لتغييب الوعي ووجهات النظر في عقول الناس لتحدي أصحاب النفوذ. "لا يستطيع الناس التأثير على علاقات السلطة في شبكات العولمة التي تشكل كل المجتمعات إلا من خلال العمل على خطاب عالمي، يمر عبر شبكات الاتصال العالمية، وفي نهاية المطاف تتحكم سلطة البرمجة في سلطة التحويل لأن برامج الشبكات تحدد نطاق التفاعل البيني للممكن في عملية التحويل ويشكل الخطاب ما يمكن أن تقوم به الشبكات ويوزع ويجري التنافس عليه وتبنيه وتمتله في نهاية المطاف في الفعل الانساني.[26]

إن هذا الفعل الانساني يتوحد ويتفاعل في المجال الاتصالي الاجتماعي المبني حول الشبكات العالمية المحلية متعددة الطراز من أنترنيت ووسائل الإعلام... وسلطة الاتصال عموما.

إن ما سبق ذكره، يقتضي على كل واحد منا فهم الهيمنة الخفية لوسائل الاعلام بوعي دقيق أن يفضح الانخداع الذي يرعاه الجميع ويشجع عليه، فيشكل في كل مجتمع أساسا الأكثر القيم قداسة كما يقتدي منا القضاء على سلطة الترسيخ الرمزي التي تستهدف القوة الكامنة عند الطبقات المسيطرة.

* متخصصة في الفلسفة والشأن العام

.................................................
الهوامش:
[1] د، الطاهر القوس علي، د، ملاح أحمد السلطة الرمزية عند بيير بورديو، الأكاديمية للدراسات الاجتماعية والإنسانية، ب/ قسم الآداب والفلسفة، العدد 16 جوان 2016 ص 39
[2] نفسه ص 40
[3] نفسه ص 41
[4] نفسه ص 42
[5] أبجديات التسلط الثقافي عند بيير بورديو، أ- بوعلام معطر، مجلة الدراسات والبحوث الاجتماعية، جامعة الشهيد حمة لخضرر- الوادي العدد 17، سبتمبر 2016
[6] بيير بورديو، الرمز والسلطة، تر، عبد السلام بنعبد العالي دار توبقال للنشر الدار البيضاء المغرب،ط. 3 سنة 2007 ص 49-50
[7] نفسه ص 50
[8] نفسه ص 57-58
[9] نفسه ص 50
[10] نفسه ص 51-52
[11] مرجع ستبق، أبجديات التسلط الثقافي عند بيير بورديو، أ- بوعلام معطر ص 35
[12] نفسه.
[13] قبايلي عمر، مدخل للثقافة الشعبية العربية، "مقاربة أنثروبولوجية" مقاربة أنثروبولوجية، مجلة الآداب واللغات. جامعة قاصدي مرباح العدد السابع ماي 2008
[14] سلطة الاتصال، مانويل كاستلز، ترجمة محمد حرفوش، المركز القومي للترجمة، القاهرة ط 1، 2014 ص 55
[15] نفسه ص 55
[16] نفسه ص 56
[17] نفسه ص 58
[18] نفسه.
[19] نفسه ص 59
[20] مستقبل الثقافات الشعبية، أ. د محمد سعيدي
[21] مرجع ستبق، سلطة الاتصال، مانويل كاستلز ص 66
[22] نفسه ص 66
[23] مستقبل الثقافات الشعبية، أ. د محمد سعيدي
[24] مرجع ستبق، سلطة الاتصال، مانويل كاستلز ص 71
[25] نفسه ص 81
[26] نفسه ص 90
...........................................
المراجع:
د، الطاهر القوس علي، د، ملاح أحمد السلطة الرمزية عند بيير بورديو، الأكاديمية للدراسات الاجتماعية والإنسانية، ب/ قسم الآداب والفلسفة، العدد 16 جوان 2016
أبجديات التسلط الثقافي عند بيير بورديو، أ- بوعلام معطر، مجلة الدراسات والبحوث الاجتماعية، جامعة الشهيد حمة لخضرر- الوادي العدد 17، سبتمبر 2016
بيير بورديو، الرمز والسلطة، تر، عبد السلام بنعبد العالي دار توبقال للنشر الدار البيضاء المغرب،ط. 3 سنة 2007
قبايلي عمر، مدخل للثقافة الشعبية العربية، "مقاربة أنثروبولوجية" مقاربة أنثروبولوجية، مجلة الآداب واللغات. جامعة قاصدي مرباح العدد السابع ماي 2008
سلطة الاتصال، مانويل كاستلز، ترجمة محمد حرفوش، المركز القومي للترجمة، القاهرة ط 1، 2014

اضف تعليق


التعليقات

الكاتب الأديب جمال بركات
مصر
أحبائي
الثقافة هي نقطة الإنطلاق الى كل التفاعلات
الأفكارالثقافية هي التي تدور داخل العقول لتأتي بالحركات
والفرق بين امه متحضرة واخرى متخلفة هو فرق في الثقافات
والعلم في اصله ثقافة ومعرفة ولكن بعمق في فرع ما من المعلومات
وثقافة الحب والخير والجمال والتسامح والعطاء لو عمت لعشنا في الجنات
احبائي
دعوة محبة
ادعو سيادتكم الى حسن الحديث وآدابه ...واحترام بعضنا البعض
ونشر ثقافة الحب والخير والجمال والتسامح والعطاء بيننا في الارض
جمال بركات....مركز ثقافة الالفية الثالثة2019-02-18