رغم قصور العقل الانساني عن وضع تعريف محدد للجمال، إلاّ انه يقرّ بأن الجمال حقيقة واقعة في هذا العالم لا يمكن انكارها، كحقيقة الوجود التي يقرّ بها العقل ايضاً رغم قصوره عن وضع تعريف محدد لها إذ ان فكرة الجميل تقع في نفس التعارض الذاتي...
بسم الله الرحمن الرحيم
تعريف الجمال:
رغم قصور العقل الانساني عن وضع تعريف محدد للجمال، إلاّ انه يقرّ بأن الجمال حقيقة واقعة في هذا العالم لا يمكن انكارها، كحقيقة الوجود التي يقرّ بها العقل ايضاً رغم قصوره عن وضع تعريف محدد لها إذ "ان فكرة الجميل تقع في نفس التعارض الذاتي الذي تقع فيه جميع الافكار الاولية لأنها – أي فكرة الجميل – لاتقبل التفكير ولايمكن الاستغناء عنها ولأنها في وقت واحد حاضرة هاربة... نتيجة هذا أن الجميل لايقبل التعريف، حكمه هنا حكم الكائن "(1) وشأنه شأن البديهيات التي تفرض نفسها على عقل الانسان وحسّه ومشاعره، وتظل رغم ذلك مستعصية على التعريف والتحديد؛ فحتى افلاطون يعاب على تعريفه للجمال بأن (التناسب) في نفسه أمر نسبي يختلف من شيءٍ لآخر ولا يمكن ضبط هذه النسبية لتطّرد في كل شيء.
فليست هي كنسبة الأوكسجين والهيدروجين اللازمتين للماء. ومن هنا فالجمال عاص ٍعلى التعريف فهو كالقوة الكهربائية لا يمكن تعريفه وان لم يُشكّ في وجوده"(2) ولهذا قال مالرو: "فكرة الجمال – وهي من اكثر افكار علم الجمال غموضاً – ليست بغامضة إلاّ في علم الجمال نفسه"(3) لأن محاولة تعريف الجمال تزيد فكرته غموضاً كما رأى ذلك الاستاذ سوريو في اعتقاد البعض "أن من الامور التي لاغنى عنها ان نبحث عن تعريف للفن ولفكرة الجمال. لكن ماهذا إلاّ تفكير للحقيقة الكبرى. هذا البحث الذي يهدف الى ربطها بناحية جانبية هي في ذاتها مختلطة غامضة "(4)، وعلل بعضهم صعوبة التعريف بأن "الجمال معنى من المعاني فهو لايقوم بنفسه وانما يقوم بغيره حيث نستطيع رؤيته في الانسان وفي الاشياء والافعال والتصرفات، انه الحيوية التي لها امكانية دخول المجالات كلها مادية كانت أم معنوية، وقد تكون في مادة الشيء وحقيقته وقد تكون في ظاهره وصورته، وهو الذي يسهم في كمال الاشياء ظاهراً وباطناً ومادام الجمال معنى فليس بالإمكان ضبطه بالوصف أو الكم أو الكيف، الامر الذي يحول دون انتاج تعريف له، وهناك عامل آخر يؤخر عملية الانتاج هذه هو اختلاف الافراد في تقديرهم للجمال وكذلك في درجة تذوقهم له، وهذا ما دفع بعض كبار فلاسفة الجمال الى تعريفه بالآثار المترتبة عليه"(5).
ويبدو لي أن هذا التعليل يتقاصر عن حقيقة الجمال ووجودها الموضوعي ويستعيض عنها بكثرة افرادها ومصاديقها ومراتبها الوجودية ويتخذ لذلك ابعاد الذهن ومقاييسه المنطقية المحدودة بعيداً عن موطن الحسّ الموكل بادراك الجمال ومعرفته اذ "الحسّ البصير المتفتح يدرك الجمال من أول وهلة وعند أول لقاء... لا شكّ أن هناك حاسة في باطن النفس تفطن للجمال وتحسه وتستجيب له ولكنها لا تحسب ولا تقدّر وإنما تدركه بداهة بغير تفكير على طريقة الروح في الادراك لا على طريقة الذهن ذي الأبعاد والمقاييس.
وقد يتدخل الذهن في تقويم الجمال ووضع شروط له ومقاييس ولكنه ليس هو الذي يقدّر في الحقيقة، فهو حين يقوم بوضع الشروط والمقاييس يستمدها في الحقيقة من البداهة الطليقة التي تدرك الجمال لأول وهلة ودون تفكير... وإذا كانت البديهة هي الموكلة بالجمال- لا الذهن- فمن العسير أن توضع له القواعد الحاسمة وترسم له الحدود القاطعة كالقضايا الذهنية أو الفلسفية الخالصة"(6).
واذا كان في امكاننا أن نصدر أحكاماً شاملة أو أن نضع قواعد عامة تيسر لنا الحكم في قضايا الجمال فلابد أن نستمد تلك الأحكام والقواعد من البداهة التي تتذوق الجمال دون الاعتماد الكلي على مقاييس الذهن الخالصة وأحكامه القاطعة بمعزل عن الحسّ الباطني الموكل بتذوق الجمال ومن هنا إرتبط مفهوم الجمال بالجانب العاطفي والشعوري من الانسان فنحن "في مجال البحث الجمالي امام ظاهرة تستعصي على التعريف ما دمنا في مجال الوجدان والشعور لا في مجال العقل والقضايا المنطقية" (7) ولذلك اصبح الجمال عند الفلاسفة "صفة تلحظ في الأشياء وتبعث في النفس سروراً ورضىً. والجمال من الصفات ما يتعلق بالرضا واللطف، وهو أحد المفاهيم الثلاثة التي تُنسب اليها أحكام القيم أعني الجمال والحق والخير. قال كانت: الجمال هو ما يبعث في النفس الرضا دون تصور أي ما يُحدث في النفس عاطفة خاصة تسمى بعاطفة الجمال. والجمال والقبح بالنسبة إلى الانفعال كالخير والشر بالنسبة إلى الفعل، والحق والباطل بالنسبة إلى العقل. والجمال مرادف للحسن وهو تناسب الأعضاء"(8).
الجمال والرؤية الكونية:
لا يمكن الوصول الى المفهوم الاسلامي للجمال إلاّ من خلال رؤية الاسلام الشاملة للعالم وعلاقته ِبالله سبحانه وتعالى. تلك الرؤية التي تمثل التصور الاسلامي لله والكون والانسان والحياة وهذا التصور "يختلف عن سائر التصورات الأرضية، سواء في ذلك التصورات المستمدة من العقائد الدينية المحرّفة أومن الأساطير أو من فلسفات البشر"(9). لقد ظلت الانسانية دهوراً طويلة لا تهتدي الى فكرة شاملة عن الخلق والخالق، حتى جاء الاسلام فأعطى ذلك التصور الشامل اذ جمع بين الأرض والسماء في نظام الكون، والدنيا والآخرة في نظام الدين، والروح والجسد في نظام الانسان، والعبادة والعمل في نظام الحياة(10).
وهذه النظم جميعاً لا ينفصل بعضها عن بعض أو يعمل أحدها مستقلاً عن الآخر، بل هي مرتبطة فيما بينها ارتباطاً يجعل منها وحدة متكاملة ينبثق عنها نظام شامل متكامل. وهذا الارتباط العام قائم على "مبدأ العلّيّة القائل: إن كل حادثة ترتبط في وجودها بأسبابها وشروطها الخاصة، هذا المبدأ يرفض الصدفة والاتفاق كما يرفض الضرورة الذاتية للحوادث. وبالتالي يعين نظرة أخرى نحو العالم وهي النظرة التي يعتبر فيها العالم مرتبطاً ارتباطاً كاملاً طبقاً لمبدأ العلية وقوانينها ويحتل كل جزء منه موضعه الخاص من الكون، الذي تحتمه شرائط وجوده وقافلة أسبابه. وهذه هي النظرة التي تقيم الميتافيزيقية على أساسها فهمها للعالم"(11)" فلكل جزء من الطبيعة – في سجل الارتباط العام – درجته الخاصة التي تحدد له ما يتصل به من شرائط تؤثر في وجوده ومن ظواهر يؤثر هو في وجودها، وأما أن يكون كل من الجزئين أو الحادثين سبباً لوجود الآخر ومديناً له بوجوده في نفس الوقت، فذلك يجعل الارتباط السببي دائرياً يرجع من حيث بدأ وهو غير معقول"(12).
وإن وقوع كل جزء من الكون في موضعه الخاص الذي تحتمه شرائط وجوده، يعني موافقة ذلك الجزء لما يُقصد من نوعه طبعاً، وتحقق هذا الأمر في جميع أجزاء الكون يجعل من هذا الكون كلاًّ متماسكاً موحّداً منسجماً منظّماً متحركاً الى غايته المقصودة من وجوده. فهذا النظام الموحّد المنسجم هو الأثر الناتج عن ذلك التناسق والتناسب والتعادل والتوازن والترابط بين الأشياء الجزئية بوقوع كل شيءٍ منها – مهما صغر – في موضعه المناسب من هذا الكيان الكبير. وهذا الفهم الشامل لقانون الارتباط العام في الكون يعززه القرآن الكريم في آيات عديدة، منها قوله تعالى: (وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ) (13). وقوله تعالى: (وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ) (14). وقوله تعالى: (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) (15). وغيرها من الآيات التي تشير الى نظام الكون القائم على التوازن والتعادل بين أجزائهِ وقواه التي لايحيط بها العدّ والاحصاء، وهذهِ الحقيقة ليست عصية على الادراك بل ان الانسان ليدركها بفطرته السليمة وشعوره المتجاوب مع آيات الله المنبثة في كل ناحية من نواحي الوجود والتي يهدي إليها القرآن الكريم في حثهِ الدائم للإنسان على التأمل والتدبّر في الوجود ونظامه وغايته كما عبر عن ذلك سيد قطب في قوله: "عشتُ أتملّى في ظلال القرآن ذلك التصور الكامل الشامل الرفيع النظيف للوجود، لغاية الوجود كله وغاية الوجود الانساني، وأقيس إليه تصورات الجاهلية التي تعيش فيها البشرية وأتساءل: كيف تعيش البشرية في الدرك الهابط وفي الظلام البهيم وعندها ذلك المرتع الزكيّ وذلك النور الوضيء؟
عشتُ في ظلال القرآن أحس التناسق الجميل بين حركة الانسان كما يريدها الله وحركة هذا الكون الذي ابدعه الله ثم انظر فأرى التخبط الذي تعانيه البشرية في انحرافها عن السنن الكونية وأقول في نفسي: أيُّ شيطان لئيم هذا الذي يقود خطاها الى هذا الجحيم؟ عشتُ في ظلال القرآن أرى الوجود اكبر بكثيرمن ظاهره المشهود، اكبر في حقيقته وفي تعددّ جوانبه، إنه عالم الغيب والشهادة، لاعالم الشهادة وحده. إنه الدنيا والآخرة، لا هذه الدنيا وحدها، الموت ليس نهاية الرحلة انما هو مرحلة في الطريق. وما يناله انسان من شيء في هذه الارض انما هو قسط من ذلك النصيب. وان الرحلة التي يقطعها على ظهر هذا الكوكب انما هي رحلة في كون حي مأنوس وعالم صديق ودود، كون ذي روح تتلقى وتستجيب وتتجه الى الخالق الواحد الذي تتجه إليه روح المؤمن في خشوع"(16).
وهذه الروح المنبثة في العالم أجمع والجاعلة منه كياناً موحداً منظماً ليست بعيدة عن عقول علماء الطبيعة ونتائج تجاربهم في مختلف العلوم، يقول العالم الفيزيائي جان.أ. شارون: "إن كل المادة إذن تصبح حاملة للروح وكل محاولة لإقامة تصور علمي حتى ولو كانت محاولة البيولوجيا اذا ما أقصت حقيقة الروح فإنها تصبح ملفقة ولاغية، ان الموقف العلمي الحالي يقوم على التمسك بأحسن نموذج تقدمه الفيزياء وهو النموذج الذي يقرّ بوجود الروح في كل جزيء من جزيئات المادة"(17). وهذه الحقيقة العلمية هي حقيقة وجدانية كذلك، فلقد "ادرك القلب البشري منذ عهود بعيدة حقيقة هذه الحياة السارية في الكون كله، وحقيقة اتجاه روحه الى خالقه، بالالهام الذي فيه، ولكنها كانت تغيم عليه وتتوارى عنه كلما حاول اقتناصها بعقله المقيد بتجارب الحواس، ولقد استطاع اخيرا ان يصل الى اطراف قريبة من حقيقة الوحدة في بناء الكون، ولكنه لايزال بعيداَ عن الوصول الى حقيقة روحه الحية عن هذا الطريق"(18).
واذا كان العلم في عصرنا الحديث يؤكد أن الحركة هي قاعدة الكون والخاصة المشتركة بين جميع أفراده، فان القرآن الكريم كان سابقاً الى تقرير هذه الحقيقة ثم بيان أن الكون متجه بحركة روحه الى خالقه ومبدعـه كما تشـير الى ذلك آيات عديدة، منها قولــه تعالـى: (وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ)(19) ومنها: (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً)(20). ومنها: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ)(21)
ومن الحق أن تأمل الكون في عبادته لله وتسبيحه يمنح الانسان شعوراً بصيرورة الحياة والحركة وغائيتها ويهبه تعاطفاً وانسجاماً معه في التوجه الى خالقه، فهذا الكون قد يبدو لغير المسلم جامداً هامداً ولكنه في تصور الانسان المؤمن يتمتع بالحياة والاحساس والقبول والرفض كما تشير الى هذه الحقيقة بعض آيات القرآن الكريم كقوله تعالى: (فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ)(22) وقوله سبحانه: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا)(23) وهكذا يبدو الكون – في التصور الاسلامي – مشاركاً للانسان في أسمى حالاته ومشاطراً له سبحات روحه وملتقياً معه في الغاية التي خُلق من أجلها والمتمثلة بعبادة الله سبحانه والخضوع له بالتسبيح والتقديس "وكم هو رائع ونافع وممتع في وقت معاً أن يشعر الانسان بأن سائر ماحولهُ صديق لهُ حبيب إلى قلبه وانه يغدق عليه خيراته من غير منّ ولا أذى وأنهُ يشاركهُ في أرقى مسرّاته الروحية التي تتجلى في عبادة الله عز وجل"(24) هذا الشعور الانساني الرفيع المتساوق مع الفطرة السليمة والمنبعث من الايمان بالله وتوحيده، يُعدّ شرطاً اساسيا في ادراك المفهوم الاسلامي للجمال" فنظرية الجمال في الإسلام واضحة جلية تنبع كلها من الايمان والتوحيد فإذا ذهب الايمان والتوحيد غاب الجمال وطوي"(25).
فلا بد ان يتوفر الجمال في ذات الانسان وجوهره وفطرته اذ ان الله سبحانه خلق الانسان في احسن تقويم، "خلقه على الفطرة لتحمل معها كل عناصر الجمال فإذا فسدت الفطرة وانحرفت واختل الايمان واضطرب بما كسبت يدا الانسان ارتد الانسان اسفل سافلين كما نص القرآن الكريم، وفقد بذلك كل عناصر الجمال في نفسه ثم في وعيه وسعيه ثم في كلمته وأدبه"(26). ومصداق هذا الاختلال والاضطراب في إدراك الجمال وتذوقه نجده عند الغربيين فلاسفة وكتاباً وادباء، اذ نشهد لديهم تلك الحيرة والارتباك فيما طرحوه من نظريات متناقضة حول الجمال وحقيقته، فقد " ربط بومجارتن في القرن الثامن عشر الجمال بالحس والشعور ووضع مصطلح (الاستطيقا Aeshthetics).
والجمال عند ديدرو هو إدراك العلاقات بين الاشياء وفرّق بين الجمال واللذة. ويقول الفيلسوف الالماني شوبنهور: ان الجمال هو في التأمل الخالص روحياً دون ان نمزج به ارادتنا فألغى ارادة الانسان... ورأى هيجل ان الجمال له وجوده المستقل، فيخالف الجمال بذلك الحقيقة. فالجمال له وجود حسّي عنده والحقيقة لها وجود ذهني"(27). ولذلك انحصر موضوع علم الجمال عنده بجمال الفن حيث قال: "موضوع دراستنا الخاص هو الجمال الفني منظوراً اليه باعتباره الواقع الوحيد المطابق لفكرة الجمال "(28) وكان جوتييه يقول: " بوجه عامّ ما أن يصبح شيء مامفيداً حتى يبطل أن يكون جميلاً... وكتب في مكان اخر: لايوجد الجمال الحق إلاّ في مالا فائدة منه، كل ماهو مفيد هو سمج، لأنه تعبيرعن حاجة ما وحاجات الانسان هي دنيئة ومقززة كطبيعته المسكينة المقعدة (29).
إن هذا الاضطراب الذي ساد المفهوم الجمالي في الفلسفة الغربية "راجع إلى اختلاف المنطلق العقيدي الذي يبدأ منه المفكرون وإن تزعزع القيم الدينية في الغرب والموقف السيء الذي وقفه المفكرون والادباء والفنانون عامة من التصورات الكنيسية وتاريخها قد ساعد على محاولة اقصائها عن الحياة والفكر والفن بصفة عامة، وهي ظاهرة خصام بين الكنيسة والفن كما حدث بينها وبين السياسة والعلم وقد ساهم هذا الموقف في انحرافات خطيرة للفلسفات والآداب الأوربية، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل انتقلت عدواه الى بلدان العالم الاسلامي والشرق بصفة عامة على الرغم من عدم وجود مبررات حقيقية لهذا الخصام في اطار المفهوم الاسلامي"(30) لأن الاسلام يقدم مفهوماً واضحاً وعميقاً للجمال من خلال رؤية كونية شاملة يمليها العقل المستقيم والفطرة السليمة.
التناسب أجلى مظاهر الجمال:
يُعدّ التناسب أجلى مظهر من مظاهر الجمال ولعله أول ما تنبّه إليه الانسان من معنى الحُسن حين تنبه إلى "مشاهدة الجمال في أبناء نوعه الذي هو إعتدال الخلقة وتناسب نسب الأعضاء وخاصة في الوجه ثم في سائر الأمور المحسوسة من الطبيعيات ويرجع بالأخرة إلى موافقة الشيء لما يُقصد من نوعه طبعاً. فحُسن وجه الانسان كون كل من العين والحاجب والأذن والأنف والفم وغيرها على حال أو صفة ينبغي أن يركّب في نفسه عليها وكذا نسبة بعضها إلى بعض، وحينئذٍ تنجذب النفس ويميل الطبع إليه" (31) لما تحقق من كمال التناسب بين اجزائه ووظائفها الوجودية، فجمال كل شيء وحسنه هو" ان يحضر كماله اللائق به الممكن له فاذا كان جميع كمالاته الممكنة حاضرة فهو في غاية الجمال. وان كان الحاضر بعضها فله من الحسن والجمال بقدر ما حضر، فالفرس الحسن هو الذي جمع كل مايليق بالفرس من هيئة وشكل ولون وحسن عدو وتيسر كرّ وفرّ عليه. والخط الحسن كل ما جمع ما يليق بالخط من تناسب الحروف وتوازيها واستقامة ترتيبها وحسن انتظامها، ولكل شيء كمال يليق به" (32) ويُسمى كون الشيء على خلاف هذا الوصف بالسوء والمساءة والقبح على اختلاف الاعتبارات الملحوظة.
فالمساءة معنى عدميّ كما أن الحسن معنى وجوديّ فوصفنا لشيءٍ بأنه قبيح يعني أنه موجود على حال مخلّة بنظامه الطبيعي أي أنه غير متناسب ولا متوازن في أجزائه أو بالنسبة إلى غيره من الأشياء مما يجعله منحرفاً عن موضعه الملائم في نظام الكون ومقصّراً في تحقيق الغاية من وجوده. ومن طبع النفس الانسانية وفطرتها السليمة أنها تنفر من ذلك الشيء القبيح ولا تُسرّ بوجوده على تلك الصفة. وهذا يعني أن الموجود في ذاته لا يكون قبيحاً، بل هو جميل في طبيعته وفطرته لأنه واقع في موضعه المناسب في النظام العام ومحقق لغاية وجوده من خلال ذلك النظام، وربّ العزة يثبت هذه الحقيقة في قوله على لسان موسى(ع): (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى)(33)، فكل شيء جميل في خلقته ونظامه الفطري الإلهي وإنما يلحقه القبح بتدخل إرادة الانسان وعبثها بترابطه أو ارتباطه بالأشياء الأخرى، وهذا ما يشير اليه القرآن الكريم في قوله تعالى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ)(34)، والفساد هو العبث بالنظام وتغيير الخلق عن سجيته طاعة لأوامر الشيطان الذي يحكي عنه القرآن الكريم قوله: (وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ)(35)
ومن هنا يبدأ وقوع الفساد والاضطراب والقبح في العالم. وعلى هذا فإن الشيء كلما كان متلائماً ومنسجماً مع الأشياء الأخرى - بما يحقق النظام- كان جميلاً، وكلما كان مضطرباً ومتنافراً مع الأشياء الأخرى - بما يكدّر النظام- كان قبيحاً. وهذا الأمر عامّ حتى في "الأفعال والمعاني الإعتبارية والعناوين المقصودة في ظرف الاجتماع من حيث ملاءمتها لغرض الاجتماع وهو سعادة الحياة الانسانية أو التمتع من الحياة، وعدم ملاءمتها. فالعدل حسن والإحسان إلى مستحقه حسن والتعليم والتربية والنصح وما أشبه ذلك في مواردها حسنات، والظلم والعدوان وما أشبه ذلك سيئات قبيحة؛ لملاءمة القبيل الأول لسعادة الانسان أو لتمتعه التام في ظرف اجتماعه، وعدم ملاءمة القبيل الثاني لذلك"(36). وبهذا فإن الجمال لا يقتصر على الأشياء الحسية.
بل هو عامّ وشامل للأمور المعنوية كذلك "فالجمال الحسّي رهن التوازن والتعادل بين أجزاء الموجود سواء أكان موجوداً عنصرياً أو نباتياً أو حيوانياً أو إنسانياً. فإذا كانت الأجزاء متناسبة ومتناسقة، كل جزء يحتلّ مكانه الخاص فهو جميل، هذا هو حال الجمال الحسي. وأما الجمال المعنوي فهو عبارة عن حُسن الفعل النابع عن تعادل القوى وتوازن الاستعدادات. فإذا كان الإنسان متعادلاً في قواه ومجتنباً عن الإفراط والتفريط في أعمالها، حينها تكون الروح مبدأ لصدور الأعمال الحسنة. مثلاً إن الشهوة والغضب وحب الجاه والمال من أركان الحياة ولولاها لما قام صرحها شريطة أن يستغلها الإنسان بأسلوب معتدل. وعلى ضوء ذلك يصبح الفعل الأخلاقي من مقولة الجمال."(37)
الجمال والأخلاق:
لقد أيد فريق من الفلاسفة وعلماء الجمال في العصر الحديث الارتباط الوثيق بين الاخلاق والجمال حتى جعلوا علم الاخلاق فرعاً من فروع علم الجمال كما نجد ذلك لدى هربرت (38) ولدى ألان الذي "يرى ان الفلسفة التقليدية كانت على حق حينما جعلت من القيمة الاخلاقية شكلاً من اشكال القيمة الجمالية "(39) ومما يؤيد أن الأخلاق من مقولة الجمال هو" أن الإسلام يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، والمعروف ما عرفه الناس والمنكر ما أنكره الناس، وليس لعرفانهم وإنكارهم سبب سوى أن بعض الأفعال تتجلى في نظر الإنسان بصورة الحسن والبعض الآخر بصورة القبيح"(40). وبالاضافة إلى هذا فقد "وردت لفظة (جميل) و(جمال) في ثماني آيات في القرآن، تحدث في موضع منها عن الجمال الحسي، وتحدث في المواضع السبعة عن الجمال المعنوي والخلقي..
فالصبر مثلاً من اعظم الصفات التي تزدان بها النفس جمالاً وكمالاً ولهذا وصفه القرآن بالجميل... وفي مواضع أخرى من القرآن حديث عن الصفح الجميل والسراح الجميل، وهو صفح لايكون جميلاً حتى يكون خالصاً لوجه الله تعالى، وسراحٌ لايكون جميلاً حتى تذهب معه الاثرة وتبلغ معه المجاهدة من النفس اقصى درجات الانتصار على الذات"(41) وبهذا الشمول يتجاوز المفهوم الإسلامي للجمال، جميع المظاهر المادية المحسوسة إلى تلك الامور الروحية المجردة "نعم هناك فرق بين الجمال الحسي والروحي، فالجمال الحسّي أمر خارج عن الاختيار دون الجمال الروحي فإنه داخل في اختياره، فله ان يقوم بإقامة التوازن والانسجام في الميول النفسانية العلوية والسفلية، حينها تصبح الروح جميلة والسلوك المنعكس منها مثلها، كما له أن يقوم بعكس ذلك، حينها تصبح الروح شريرة والسلوك الصادر منها كذلك. ومع ذلك يمكن ان يقال إن الفعل الاخلاقي من مقولة العدالة بشرط أن تفسر العدالة بالتوازن والانسجام "(42)، والعدالة بهذا المعنى هي الجمال المتحد بالوجود، وهي جوهر النظام الذي قامت به الاكوان على ماورد في الحديث: (بالعدل قامت السماوات والارض)(43)، "ولهذا النظام – كما يبدو في صفحة الكون – مظاهر متعددة، منها الدقة والتناسق والتوازن والترابط وخفّة الحركة رغم ثقلة الأوزان "(44) ومقاييس الجمال الكونية هذه هي ذات المقاييس التي نجدها في الانسان، أو ينبغي أن نجدها فيه متساوقة مع ناموس الوجود." فحياة الانسان لاتكون جميلة – بادي ذي بدء – إلا اذا كانت نظاماً طليقاً من الضرورة.. هذا النظام يقتضي موازنة الكيان البشري كله في داخل النفس وفي واقع الحياة يقتضي في داخل النفس ألا يصبح الانسان جسداً وحده او عقلا وحده او روحاً بمفردها وانما كياناً واحداً ينتظم كل هؤلاء. فحين تغلب على الانسان شهوة الجسد الغليظة او تأملات العقل المنقطعة عن واقع الارض او سبحات الروح التي تعزل الانسان عن الواقع وتحوله إلى سلبية لا اثر لها في عالم الحس، فكل ذلك اختلال يفسد ترابط النفس وتوازنها ومن ثم فهو غير جميل "(45) وهذا النظام الذي ينبغي ان تكون عليه النفس الانسانية التواقة إلى الجمال انما تسري فيه روح النظام الكوني العام بكل ما يتميز به من سمات الجمال التي اشرنا إليها.
"فجمال الانسان يكون باندماجه في المجموعة الكونية التي يسودها النظام الدقيق، وحين تكون متناسقة متوازنة مترابطة متحركة، فإنه الجمال الكامل الذي تقيمه المقاييس الانسانية الرفيعة. والنظرة إلى الجمال الإنساني على هذا المستوى المستمد من جمال الكون، كفيلة بتوسيع المفاهيم الجمالية في الانسان واطلاقها من حدودها الضيقة المعروفة"(46) وتظل حرية الانسان في الاختيار هي العامل الحاسم في تحقيق ذلك التوافق والانسجام مع النظام الكوني والسنن الإلهية فيه او الوقوع في التنافر والتصادم معه. و"ان هذا الوضع الذي يريده الإسلام ويسعى إلى التحقّق به، لايمكّن الانسان من تكثيف معطياته الابداعية والحضارية عموماً فحسب، بل انه كذلك يضعه في الموضع (الجميل) الذي يليق به، ابناً باراً لهذا العالم وخليفة عن الله فيه وسيداً على الخلائق والعالمين "(47). "والمحصلة النهائية هي ان نختار الموضع الجميل اللائق او ان نتشبث بمواقع القبح والتنافر والدمامة. ولن نتصور هذا إلا اذا استحضرنا في خيالنا وشعورنا خلائق الله جميعاً في الحياة والجماد وهي تسبح بايقاع متفرد عجيب صوب الهدف الواحد، وتصورنا الانسان وهو يخترق هذا السياق ويسبح على غير هدى فيثير الفوضى في المسيرة الجميلة ويحدث نشازاً في الصوت المنغّم ويجرح العين والإحساس بضربات فرشاته العمياء على لوحة الوجود الجميل"(48).
ان هذا المفهوم الإسلامي للجمال على صعيد الكون والانسان كفرد، نجد مصداقه كذلك على صعيد المجتمع الإنساني الخاضع للسنن الالهية وناموس الوجود العام، فالعدل والتوازن بين قوى المجتمع شرط اساس لتحقق الجمال والسعادة فيه، أما اختلال هذه القوى وطغيان بعضها على بعض، فهو مدعاة القبح والشقاء، " فحين يتسبب الانسان في افساد توازن المجتمع الاقتصادي او السياسي او الخلقي فيشيع الفاحشة الاقتصادية بتركيز الثروة هنا وسلبها من هناك او الفاحشة السياسية باقامة الطغيان في الارض وإذلال الضعفاء، او الفاحشة الخلقية بنشر الجريمة وتيسيرها والدعوة اليها، فهو في كل حالة من هذه الحالات غير جميل لأنه مخالف لناموس الحياة "(49)، ولايكفي ان يتفق الناس في مجتمع من المجتمعات على حسن فعل من الافعال وجماله، ليكون جميلاً فعلاً فللجمال مقاييسه الالهية الناظرة إلى طبيعة ذلك الفعل وغايته في مدى توافقه مع ناموس الوجود العام، ومدى تحقيقه لغرض الوجود الإنساني.
والقرآن الكريم يحدثنا عن مجتمعات تعرضت للدمار والابادة نتيجة ماكانت ترتكبه من افعال كالفواحش واضطهاد الانبياء والمصلحين وقتلهم، رغم استحسانهم لتلك الافعال ورضاهم واتفاقهم على جمالها. ومن امثلة ذلك ماكان يفعله قوم لوط مثلاً من الفاحشة وما ادت اليه من هلاكهم وبوارهم، لأن ذلك الفعل الشاذ لم يكن منسجماً مع نظام الوجود العام وغايته، ورغم مارآه اولئك القوم في فعلهم من الحسن والجمال، إلاّ أنه كان في حقيقته فعلاً قبيحاً ذميماً استحقوا به العذاب والاستئصال.
ومن هذا المنطلق الإسلامي شُرّع قتال الظالمين ومجابهتهم لردّهم عن الإفساد والإخلال بنظام الكون والانسان والمجتمع، يقول تعالى: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ) (50)، ويقول تعالى أيضاً: (فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ)(51) وهكذا فإن "تحقيق الوفاق المرتجى مع الناموس ليس أمراً سهلاً ولن يتمّ بكلمات تقال؛ فإن ألف طاغوت وطاغوت يقفون في الطريق وإن ألف مصلحة ومصلحة تعترض دعوة كهذه وان حشوداً من الطبقات والفئات والوضّاعين والمنفعيين ستقف في الطريق ولا بدّ من السلاح، لابد من القتال من أجل ألاّ تلطخ الإرادات الشاذة صفحة العالم بالبشاعة والقبح والدمامة ومن أجل أن يعود إلى الوجود وجهه الجميل"(52). فالإنتصار للجمال في هذا العالم هدف سامٍ من أهداف الاسلام الكبرى شريطة ان يؤخذ الجمال بمفهومه الاسلامي الشامل، اصلاً اصيلاً في الوجود الى جانب الحقّ والخير، "ولقد استطاعت الفلسفات القديمة ان تصل الى قناعة بأن القيم الثلاث (الحق – الخير – الجمال) هي القيم الكبرى في الوجود، وانه تحت مظلة هذه القيم الثلاث الكبرى تندرج القيم الانسانية جميعاً فروعاً لها "(53) كما نجد ذلك في "النظرية الافلاطونية التي اكدت ارتباط الجمال بالحقيقة. فقد كان ادراك الحق وارادة الخير وحب الجمال كلها وسائل تهدف في النهاية الى بلوغ حقيقة مثالية مقدسة.
وبمعنى آخر كان الخير والجمال قيمتين تنسبان للحقيقة المطلقة التي تسعى الفلسفة الى بلوغها"(54)
من الجمال الجزئي الى الجمال المطلق:
إن الادراك الشمولي للجمال نجده في التصور الاسلامي الذي يتجاوز الجزئيات المحسوسة، ويعتبر النظر الى جمال هذه الجزئيات نقطة انطلاق الى إدراك الجمال الكلي المطلق بعد رسوخ الوحدة في نظام الخلق، "وهي تمام الجمال في المخلوقات وبرهان صدورها عن الواحد، ومن الطبيعي أن يصدر عن الواحد وحدة في كل المتعددات، وحدة في الكثير، فهناك نظام كلي مشترك ينظم العلاقات في الذرة وفي المجتمع وفي الكون، إنه نظام أسروي بما فيه من علاقات الجذب التي تجمع الاطراف إلى المركز.
إن النظام الذي تقوم على أساسه العلاقات بين العناصر في العالم الأصغر الألكتروني هو نفسه النظام الذي تقوم عليه العلاقات الاجتماعية في الاسرة أو المجتمع، وهو نفسه النظام الذي تقوم عليه العلا قات بين العناصر في الكون الكوسمولوجي الواسع"(55) وإن هذا النظام ليصل إلى أقصى مدى من الكمال فيصبح جمالاً، ولذلك "فالجمال في تصميم هذا الكون مقصود كالكمال، بل إنهما إعتباران لحقيقة واحدة، فالكمال يبلغ درجة الجمال "ومن كمال هذا الجمال ان وظائف الاشياء تؤدى عن طريق جمالها. هذه الالوان العجيبة في الازهار تجذب النحل والفراش مع الرائحة الخاصة التي تفوح. ووظيفة النحل والفراش بالقياس الى الزهرة هي القيام بنقل اللقاح لتنشأ الثمار وهكذا تؤدي الزهرة وظيفتها عن طريق جمالها... والجمال في الجنس هو الوسيلة لجذب الجنس الاخر اليه لأداء الوظيفة التي يقوم بها الجنسان. وهكذا تتم الوظيفة عن طريق الجمال.
الجمال عنصر مقصود قصداً في تصميم هذا الكون وتنسيقه "(56) فإتقان الصنعة يجعل كمال الوظيفة في كل شيء يصل حد الجمال. وكمال التكوين يتجلى في صورة جميلة ومن ثم يوجه القرآن النظر إلى جمال السماوات بعد أن وجه النظر الى كمالها(لَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ)(57)"والقرآن يوجه النفس الى جمال السماء والى جمال الكون كله لأن ادرك جمال الوجود هو اقرب واصدق وسيلة لإدراك جمال خالق الوجود، وهذا الادراك هو الذي يرفع الانسان الى اعلى افق يمكن ان يبلغه لأنه حينئذ يصل الى النقطة التي يتهيأ فيها للحياة الخالدة في عالم طليق جميل بريء من شوائب العالم الارضي والحياة الارضية، وان اسعد لحظات القلب البشري لهي اللحظات التي تهيئه وتمهد له ليتصل بالجمال الالهي ذاته ويتملاه "(58)، ولا يقتضي الوصول الى هذه اللحظات الثمينة في حياة الانسان إلا تزكية النفس من آثامها وتنقية الفطرة من شوائبها لتنفتح المشاعر بصفائها على آيات الجمال الباهرة التي ابدعتها يد الخلاق العليم ذي الجمال المطلق، وهذا هو سبيل التوحيد الفطري و الاقرار الوجداني بأن لهذا العالم خالقا يدبره ويفيض عليه كل لحظة من وجوده وجماله.
فالجمال- بهذا المفهوم- ليس احساساً باللذة الحسية الارضية فحسب وانما هو احساس صاعد نحو الاعلى وان توقف هذه الحركة الارتقائية والاقتصار في المفهوم الجمالي على اللذة الحسية يؤدي الى انعدام التوازن والانسجام وينتهي الى الخطيئة والقبح كما في قصة امرأة العزيز مع يوسف النبي عليه السلام. "فعناصر الجمال وعلاقاته في الكون و الاشياء هي نظم سيمولوجية تشير إلى مبدع الجمال نفسه، فليس هنالك جمال قائم بذاته معزول عن دلالته أو مفصول عن اتجاهه الاشاري ونسقه، كل الجمالات في الكون قائمة بغيرها في إطار المفهوم الاسلامي للوجود، ومن الحق واجب الوجود بنفسه كلي الجمال والقدرة، المثل الأعلى، ينطلق الخلق واجب الوجود بغيره أي بالله"(59) وما دامَ هذا الخلق مفتقراً في وجوده لذلك الوجود المطلق فهو مفتقر- كذلك - في جماله لذلك الجمال المطلق ولا يمكن الفصل بين الوجود والجمال في صدورهما عن المطلق، بل هما حقيقة واحدة تجلت فيها صفات الخالق من الحق والخير والجمال.
أصالة الجمال وعدمية القبح:
فالوجود جمال كله وحق كله وخير كله وإن القرآن الكريم ليعزز هذه الفكرة ويدعم الرأي بأن الجمال ملازم لكل مخلوق في أصل خلقته وان القبح امر عدمي لاوجود له في الخلق " فالذي يراه القرآن الشريف أن كل ما يقع عليه اسم الشيء ماخلا الله – عز اسمه – مخلوق لله. قال تعالى: (اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) (60) وقال تعالى: (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً)(61). والآيتان تثبتان الخلقة في كل شيء ثم قال تعالى: (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) (62) فاثبت الحسن لكل مخلوق وهو حسن لازم للخلقة غير منفك عنها يدور مدارها، فكل شيء له حظ من الحسن على قدر حظه من الخلقة والوجود، والتأمل في معنى الحسن يوضح ذلك مزيد ايضاح فان الحسن موافقة الشيء و ملاء مته للغرض المطلوب والغاية المقصودة منه.
وأجزاء الوجود وابعاض هذا النظام الكوني متلائمة متوافقة وحاشا رب العالمين ان يخلق ما تتنافى اجزاؤه ويبطل بعضه بعضاً فيخل بالغرض المطلوب او يعجزه تعالى او يبطل ما اراده من هذا النظام العجيب الذي يبهت العقل ويحير الفكرة"(63). فسرّ جمال الخلق كامن في اصل وجوده "وكل خير وبهاء وحسن وسناء فهو من بركات الوجود واظلاله حتى قالوا: مسألة ان الوجود خير وبهاء بديهية. فالوجود كله حسن وبهاء ونور وضياء وكلما كان الوجود اقوى كان البهاء اتم و ابهى"(64) وبذلك يصبح القبح غريباً عن الوجود وواقعاً في صقع العدم والفقدان " فكلما خلص الوجود من شوب الاعدام والفقدانات واختلاط الجهل والظلمات يصير بمقدار خلوصه بهياً حسناً. فالعالم المثال ابهى من ظلمات الطبيعة، وعالم الروحانيات والمقربين من المجردات ابهى منهما، والعالم الربوبي أبهى من الكل لخلوصه عن شوب النقص وتقدسه عن اختلاط الاعدام وتنزهه عن الماهية ولواحقها.
بل لا بهاء إلاّ منه ولا حسن ولا ضياء إلا لديه...فهو تعالى بهاءٌ بلا شوب الظلمة، كمال بلا غبار النقيصة، سناء بلا إختلاط الكدورة، لكونه وجوداً بلاعدم وانّية بلا مهية. والعالم باعتبار كونه علاقه له ومنتسباً إليه وظله المنبسط على الهياكل الظلمانية والرحمة الواسعه على الارض الهيولانية، بهاء ونور واشراق وظهور"(65) والنظر الى جمال العالم بهذا الاعتبار مما يقتضيه مبدأ التوحيد في الاسلام، وهو نتاج وعي جديد لمفهوم الجمال بعد ان استكملت البشرية رحلتها الطويلة من المجسّد إلى المجرد، فالجمال بمفهومه الاسلامي الجديد"، ليس قيمة سلبية لمجرد الزينة، كما انه ليس تشكيلاَ مادياً فحسب، ولكنه بالمعنى الصحيح حقيقة مركبة في مداخلها وعناصرها وتأثيراتها المادية والروحية وموجاته الظاهرة والخفية وفي انعكاساته على الكائن الحي، ذلك لان اثره يخالط الروح والنفس والعقل، فتنطلق ردود أفعال متباينة بعضها يبدو جلياً وبعضها الآخر يفعل فعله داخلياً، لكن محصلة ذلك كله مايتحقق للانسان من سعادة ومتعة وما ينبثق عن ذلك من منفعة تتجلى فيما يأتي أو يدع من أفعال وأقوال. وفيما يحتدم داخله من انفعالات ومشاعر...واذا كان الاستمتاع بالجمال مباحاً في الاصول الاسلامية فانه مدخل إلى ارتقاء الروح والذوق وسمو النفس وخلاصها من التردي والسقوط ومحرك للفكر كي يجول إلى ما هو ابعد من المظاهر الحسية التي كتب عليها الزوال، فالجمال سبب من اسباب الايمان وعنصر من عناصره، والقيم الجمالية الفنية تحمل على جناحيها ما يعمق هذا الايمان ويقويه ويجعله وسيلة للسعادة والخير في هذه الحياة"(66).
الجمال والمنفعة:
إن الجمال في التصور الاسلامي ليس منفصلا ًعن المنفعة كما هو في مقولات كانْت وهيجل وجوتيه، اذ أصبح لديهم كل نافع غير جميل وكل جميل غير نافع، فهذا الفصل لا تؤيده الفطرة الانسانية ولايؤيده القرآن الكريم حيث يقول: (وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) (67) "فنلاحظ أن الجمال واقع بين المنافع الأربع، وهذا دليل على أنه ليس سابقاً للمنفعة ولا تالياً لها وإ نما يصاحبها كما أنهُ يتفق معها في الغاية والحكمة التي سخّرت من أجلها هذه الانعام"(68) وقد اشرنا الى الارتباط الوثيق بين جمال الاشياء ووظائفها المحققة للانتفاع بها فلا ينفصل الجمال عن المنفعة في حال من الاحوال ولذلك فلايصح ما رآه بعضهم من ان للجمال استقلاله الكامل عن المنفعة وانه قد يلتقي معها تارة ويبتعد عنها اخرى(69).
واقتران الجمال بالمنفعة دليل ايضاً على ان التصور الاسلامي لا يظل حبيس المثاليات والمجردات فكما عرج في جدل صاعد إلى الجمال المطلق، فإنه يعود- في جدل نازل- ليرى ذلك الجمال المطلق في كل جمال جزئي سواء أكان مادياً أم معنوياً، وهذه هي واقعية الاسلام المعهودة في جميع تصوراته عن الكون والانسان والحياة. "فالجمال في المنظور الاسلامي ليس هدفاً بحد ذاته ـ كما قد يتبادر إلى الاذهان- وما ثمة في الاسلام (برناسية) تدعو إلى مذهب الفن للفن أو الجمال للجمال وانما هو وسيلة حيوية مؤثرة لتحقيق اهداف أخرى لصالح الانسان... والاسلام بخلاف العديد من المذاهب الوضعية، واقعي في أحكامه الجمالية كماهو واقعي في مواقفه كافة. إنه لايسم بالقبح والبشاعة ما هو جميل بذاته، ولكنه يذهب الى ماوراء الوجه الجميل، ويتجاوز (الديكور) الخارجي للشيء المتزيّن، بحثاً عن الهدف الذي يؤول إليه"(70). "إن هذا الدين يدعونا أن نجعل لهذا الجمال والتمتع به غاية وهدفاً، وهي الغاية نفسها التي وجدنا من اجلها في هذه الحياة وهي العبودية لله واستخدام الوسائل الحلال كلها من اجل تعبيد الخلق كلهم لله. وان ننظر للأشياء بحجمها الطبيعي على ضوء التصور الاسلامي الفريد، فلا نؤلّه إلاّ ماحقه الالوهية ولا نحقر ما شأنه التكريم، وبهذا فإننا ننظر إلى الجمال بحجمه الحقيقي فلا نعبده كما فعل الفكر الاوربي القديم والحديث، ولا نهمل النظر إليه في ادبنا وفننا كما تلحد إليه بعض الاتجاهات الادبية في اوربا المعاصرة. واذا كانت غاياتنا نظيفة فاننا نعبر إليها بوسائل نظيفة أيضاً، هذا شأننا ونحن نتعامل مع الحياة بالوسائل السياسية أو الاقتصادية أو الفنية"(71) وفي حدود هذه الدائرة المتمثلة في النظام والانعتاق من الضرورات يبيح الاسلام الاحساس بجمال الطبيعة وجمال الجسد وجمال الجنس، بشرط الاّ يشغل النفس عن الحياة المثمرة المنتجة وتحقيق اهدافها العليا. إذ "حين تنقضي الحياة في تذوق جمال الجسد وجمال الجنس أو حين يأخذ هذا التذوق مساحة في رقعة الحياة أكثر مما ينبغي له، فمتى تتحقق بقية أهداف الحياة وبقية ألوان الجمال؟ متى يتحقق الجمال الاجتماعي والسياسي والفكري والروحي؟... إنه ليس تحريم الجمال الجنسي وجمال الاجساد ولكنه التنظيم والتنسيق والموازنة بين شتى أهداف الحياة"(72)، حتى تتوحّد في هدف شامل هو العبودية لله ذي الجمال المطلق ومنبع كل جمال جزئي في هذا العالم، فلا يقتصر المفهوم الاسلامي للجمال على النظر في جمال الجزئيات ولايقف عند حدودها.
بل ينطلق من خلالها الى الكل الجميل " والكل في هذه الوحدة هو الذي يعين صفات الاجزاء ويمنحها استقلاليتها الجمالية وخصوصيتها، فالأشياء تكتسب قيمتها الجمالية بما فيها من وحدة وتناسق وانسجام ظاهر وباطن، بمدى ارتباطها بالكلي الجمال، انها عناصر بسيطة في حدس توحيدي يعمق معرفتنا وايماننا بالجمال المطلق، وبالتالي فإن هذا الايمان يرتد ثانية ليزيد إحساسنا بالخصائص الجمالية لهذه العناصر"(73) وان القرآن الكريم كثيراً ما يوجه العقل الانساني الى هذا النظر التوحيدي" فمن الجزء المنظور الى الكل الجميل، تلك هي الرحلة التي يريد كتاب الله أن نقوم بها كل يوم لكي ننبعث ونتجدد ولكي لا تنضب في نفوسنا وعقولنا وأرواحنا وحواسنا شلالات الدهشة والاعجاب والانفعال والحركة واليقين"(74).
فرق ما بين الجمال والزخرف:
إن الجمال الحقيقي هو المتصل بالجمال الأعلى، أما تلك المظاهر الخارجية الزائفة التي يطلبها الضالّون ويسمونها جمالاً فهي لا تعدو أن تكون زخرفاً خادعاً وفتنة مضلّة، وهي بعيدة كل البعد عن الجمال بمفهومه الاسلامي العميق، وحتى من حيث اللفظ فلا يصح أن نسميها (جمالاً خادعاً أو مخادعاً) كما ورد هذا التعبير عند بعض الكتّاب(75)؛ لأن هذا التعبير- فيما يبدو لي- منطوٍ على نوع من المغالطة والتناقض إذ لا يمكن أن يكون الجمال خادعاً أو قبيحاً، كما لايمكن أن يكون الحق باطلاً أو الخير شراً. وكلمة(الجمال) في القرآن الكريم لها" ظلّ خاص وجوّ من الشذا والعطر ليس لغيرها من الكلمات. كلمة الجمال لا تأتي في منهاج الله إلا مع الإيمان والحق والصلاح والخير والطهارة.
المظهر الخارجي لما يسميه الناس جمالاً يسميه القرآن الكريم زخرفاً وزينة. فاذا عملت الزينة في الخير أصبحت جمالاً وان عملت في الشر أصبحت فتنة. الكلمة العامة هي زخرف وزينة ثم تتحول الى جمال أو الى فتنة، وللجمال متعة دائمة يعيش معها المؤمن وللفتنة لذة عابرة ثم لهيب وحريق وشر"(76) وعلى هذا فلا يصح ما رآه بعضهم من ان الجمال يمكن ان يوجد في مجالات لا حقّ فيها ولا خير أي مجالات الباطل والشر، ويستدل لذلك بقوله تعالى:) وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُم ((77) فيرى بأن الجمال وجد هنا لدى المشركة ولكنه لم يوجد الخير (78).
والواقع ان الذي وجد لدى المشركة هو الفتنة وليس الجمال "فالمرأة التي منحها الله شكلاً محبباً مؤثراً في النفس نقول عنها(جميلة) ما دامت زوجة أو أماً أو أختاً ملتزمة بالطهر والصلاح الذي يحبه الله ذلك لأن الله جميل يحب الجمال. وأما إن كانت امرأة غير صالحة فنقول انها(فتنة) لأنها وقعت في الشر ودفعت اليه. هذا هو التصور الإيماني للجمال والفتنة... وكلمة (الحُسن) تنزل في معناها وظلالها منزلة (الجمال) حتى لا يكون الحسن والجمال إلاّ في الخير والصلاح سواء أكان ذلك في الشكل والخلقة أم في الكلمة أم في العمل أم في اللباس وأي ميدان آخر"(79).
وفي كل جانب من جوانب الكون والانسان والحياة والمجتمع يظل الجميل هو ذلك الإبداع الذي يبعث في النفس رضىً وإعجاباً ودهشة بما ينطوي عليه من توازن وإحكام يثير مشاعر التوحد والانسجام بتجاوز مظاهر القبح والتفرق والارتفاع الى آفاق التجدد والحركة والغبطة بالانتصار على المألوف والمعتاد وما يسبب الحزن والألم في حياة الانسان، يظل الجميل هو ذلك الابداع الذي يهب النفس مزيداً من الحيوية والغنى والعطاء حين يتعامل مع الانسان من خلال مكوناته جميعاً، عقلاً وروحاً وحساً وجسداً ووجداناً" ومن ثم فإن الخلق الجمالي في الكون والعالم والطبيعة ليس هدفاً بحد ذاته وإنما هو وسيلة أُريد بها تمكين الانسان من التحقق بعلاقة أكثر حيوية وتدفقاً وصميمية بالكون، الأمر الذي يقوده الى خالق الكون من خلال أشد نقاط الإرتكاز في شخصيته قدرة على التواصل والفاعلية. من هنا نعرف لماذا أكد القرآن الكريم على الرؤية الجمالية للكون والعالم والطبيعة، لماذا تردد نداء التوجه الى الخلق المعجز في جنبات كتاب الله وسنة رسوله عليه السلام ولماذا تجاوبت أصداؤه عبر السور والمقاطع والآيات والأحاديث ولماذا اتسع واتسع حتى أصبح تياراً هادراً يكاد يجري على صفحات الكتاب الكريم من بدئها حتى المنتهى"(80).
إن في كل ذلك دلالة على أن" الجمال في الاسلام اصل اصيل سواء من حيث هو قيمة دينية: عقدية وتشريعية، او من حيث هو مفهوم كوني، وكذا من حيث هو تجربة وجدانية انسانية. ومن هنا كان تفاعل الانسان المسلم مع قيم الجمال ممتداً من مجال العبادة الى مجال العادة، ومن كتاب الله المسطور الى كتاب الله المنظور، مما خلد روائع من الادب والفن التي انتجها الوجدان الاسلامي في قراءته للكونين وسياحته الرائعة في العالمين: عالم الغيب وعالم الشهادة"(81) ومن هنا ندرك مدى اهمية المفهوم الاسلامي للجمال حين يتخذه الاديب المؤمن منطلقاً لإبداع انتاجه الفني، وحين ينطلق منه الناقد الاسلامي في تقويمه لكل ابداع فني واصداره الاحكام الجمالية بشأنه.
اضف تعليق