إن الحداثة التفاعلية حداثة زائفة لأنها \" جعلت من فعل الفرد شرطاً ضرورياً للإنتاج الثقافي، وهل جذب المتلقي إلى بنية الحدث يعد حداثة زائفة، انه مسيرة سنين من التنظير الذي دعا إليه التفكيكي جاك دريدا وتنظيرات ما بعد الحداثة ونظريات التلقي بمختلف رجالاتها والتي توصلت بعد سنين من العمل الدؤوب وتسخير التكنولوجيا إلى إيجاد فسحة تفاعلية للمتلقي في بنية النص وكسر قدسية النص المنغلقة على ذات المؤلف...
تمثل ما بعد الحداثة حركة فكرية تقوم على رفض الأسس التي ارتكزت عليها الحداثة، بل رفض كل مسلماتها فهي الطابع الأساسي المميز لهذا العصر، وأن ما بعد الحداثة تهيئ لقيام عالم جديد يرتكز على أسس جديدة تماماً غير تلك التي عرفها المجتمع العالمي الحديث، ويبدو أن مفكري ما بعد الحداثة قد تأثروا في ذلك بأفكار بعض الفلاسفة مثل نيتشه وفوكو وهايدجر الذي كان قد أثار فكرة إمكان قيام أسس جديدة حول الإنسان المعاصر.
والسؤال المهم الذي يتبادر إلى الأذهان إلى وقت قريب هو، هل هذه التغيرات تعني أن عصر الحداثة قد ولى إلى غير رجعة؟ والعالم أمام حضارة أخرى جديدة هي حضارة ما بعد الحداثة؟، إن أنصار عصر ما بعد الحداثة يوجهون كثيراً من الانتقادات إلى إنجازات عصر الحداثة وموقفها من الفكر والفن والسياسة والحياة عموما، وهو موقف يرفع من شأن العقل ويرى فيه مصدر كل تقدم في المعرفة وفي المجتمع وأنه وحده هو مصدر الصدق وأساس المعرفة العلمية وهو القادر على اكتشاف المعايير النظرية والعملية التي يهتدي بها الفكر والفعل على السواء، كما نرى ذلك في طروحات الشكلانية الروسية أو البنيوية وغيرها ومع ذلك، فإن ما بعد الحداثة ترى أن الزمن قد تغير، وأن الظروف العامة قد تجاوزت كل هذه الإنجازات نتيجة لتقدم أساليب الإعلام والاتصال بوجه خاص، وظهور اشكال جديدة من النصوص تتطلب قيام نظريات ومفاهيم تتلاءم مع الأنماط المعرفية الجديدة بعد ازدياد الاتجاه نحو العولمة، مع تعدد الاتجاهات الثقافية المواقف الفكرية، "وظهور اتجاهات جديدة في السرديات اشتغلت على (ما وراء اللغة) و(ما وراء السرد) والنص المفتوح،وكذلك في الفن حيث تجاوزت المدارس الحديثة مثل الانطباعية والتعبيرية والسريالية وما إليها"(1)، وتحررت من كل القيود التقليدية وبخاصة في العمارة حيث يمكن الجمع بين عناصر غير متجانسة تخرج تماماً عن المألوف، وامتداد ذلك إلى بقية الفنون التعبيرية.
وقد يرى بعض المنظرين أن الاختلافات بين الحداثة وما بعدها ليست اختلافات شاسعة، حيث يزعمون "أن ما بعد الحداثة ليست سوى نوع من الألعاب اللغوية في بنية النصوص" (2)، وإنهم استحدثوا كثيراً من المصطلحات التي لم يستقر بعضها في شكله النهائي مثل اللغة الطفيلية و(ما وراء اللغة) و(ما وراء السرد) وغير ذلك، وعليه إذا كانت ما بعد الحداثة لعبة لغوية كما يدعون، فإنها استطاعت توجيه الانتباه إلى أبعاد الحقيقة الإنسانية، ولكن الأمر لم يتوقف في حدود اللغة كما بينا بل تداخل في كل تمفصلات الحياة المختلفة.
ومن تمظهرات ما بعد الحداثة مفهوم التفاعلية في الأدب والفن عموما الذي انفتح على المتلقي الشعبي (خلاف النخبوي) بوصفه ذاتا فاعلة مؤثرة ومغيرة في بنية النص المقدس والمنغلق على صاحبه سابقا والذي ظهر مع العديد من المقاربات التي اهتمت بمفردات التحليل مثل الفرد والمجموعة والعلاقات الذاتية في التجارب اليومية، وترسخت بوصفها ردة فعل على النظريات البنيوية-الوظيفية التي هيمنت ولفترة طويلة على السوسيولوجيا. وقد أحيت هذه المقاربات والتي وصفها المنظرين أرمان وميشال ماتلار ب"عودة اليومي"(3).
شهدت فترة السبعينيات من القرن المنصرم ازدهاراً كبيراً لفن الصورة المتحركة وأصبح المتلقي يبحث عن الصورة المرئية التي تثير الجمال والمتعة فيه، وهذا بطبيعة الحال جعله يبحث عن قنوات تلفزيونية متعددة تلبية لرغباته، مما حدا بكثير من شركات الاتصال في أمريكا وغيرها من الدول المتقدمة من القيام بدوائر اتصالية تتيح للمتلقي الحصول على اكبر عدد من القنوات التلفزيونية التي يفضلها، وكان الكابل المشترك هو الحل الذي جعل المتلقي ينفتح على فضاءات أخرى وان كانت محدودة، وتبقى العين البشرية تبحث عن كل ما هو جديد محاولة كسر الملل الذي سببته لها التجربة السابقة.
وقد شكلت فترة منتصف الثمانينيات تحولا اتصاليا تكنولوجيا هائلا اقترن بالمديات الواسعة للبث الفضائي للقنوات التلفزيونية، وأصبحت الأقمار الصناعية تغطي العالم بأسرة وأنشئت المئات من القنوات الفضائية والتي أصبحت بمتناول المتلقي يختار منها ما يشاء ويترك، وبدأ المتلقي ينفتح على الأخر مطلعا على حضاراته وآدابه وفنونه، كل هذه الأسباب وغيرها فتحت الباب على مصراعيه أمام الحرب المعلوماتية الجديدة.
أما فترة التسعينات فقد شهدت تنامي محاولات من نوع أخر، محاولات دعاة الحداثة الذين نظروا إلى جلب المتلقي إلى داخل النص بوصفه ذاتا مؤثرة داخل النص لا متلقيا سلبيا فقط، بل يستطيع إن يغير في بنية النص من خلال وجودة، سواء كان مشاركا أو منظما أو مصوتا، وهذه الدعوة لقيت رواجا في الأدب منذ السبعينات من خلال تنظيرات الناقد ألتفكيكي جاك دريدا، أما في الفن التلفزيوني فلم نشهدها إلا في منتصف التسعينات، اي جعل المتلقي جزءا من البرنامج التلفزيوني، "وهي نقطة انطلاق التفاعلية التلفزيونية حيث نرى النجاح الجماهيري لأول شكل تفاعلي تلفزيوني - خط التاريخ Data line – فقد بدأ العرض في تموز – يوليو1999" (4)، وحث العرض المشاهدين الدخول إلى الانترنت من اجل التصويت- مجرم أو بريء- استجابة لتغطية التلفزيون لمحاكمة مجرم ، إن هذا البرنامج الذي قدمته قناة Nbc)) الأمريكية يعد البداية الأولى للبث التفاعلي التلفزيوني، والذي جعل من المتلقي جزءاً لا يتجزأ من بنية العرض، وهنا يركز الباحث على نقطة مهمة هي، إن بداية التفاعلية التلفزيونية بالتأكيد هي في هذا التاريخ ومع برامج تلفزيون الواقع، بالرغم من إن برامج تلفزيون الواقع سبقتها بعدة سنين اي مطلع التسعينات، ولكن التسمية المتكاملة لبرامج تلفزيون الواقع اكتسبت كمالها مع انطلاق البث التفاعلي، مما حدا بأحد منظري تلفزيون الواقع ومنتج البرنامج الواقعي(الأخ الأكبر) (Big Brather) الذي قدمته القناة الهولندية الأولى عام 1991 ثم قدم بأشكال متعددة في العشرات من الدول العالمية (غاري كارتر) أن يقول "يجب على العرض حتى ينطبق عليه تلفزيون الواقع أن يتضمن عنصر تفاعل الجمهور"(5)، حتى عدت البرامج التفاعلية هي الحاضنة الأولى والأخيرة لبرامج تلفزيون الواقع، ثم توالت البرامج التفاعلية مثل برامج المسابقات والتي ركزت على تصويت المتلقي من خلال البريد الالكتروني أو الهاتف ولكنها لم تأخذ كينونتها المتكاملة مثل برامج تلفزيون الواقع وبالنتيجة انصهرت في برامج تلفزيون الواقع، ثم تطورت تفاعلية المتلقي في برامج تلفزيون الواقع ليخرج المتلقي من كونه مصوتا فقط إلى مغيرا للنتيجة كما في برنامج (المهمة المستحيلة ) والذي قدمته قناة FOX الأمريكية عام 1996، ثم شهد القرن الحادي والعشرون مرحلة أكثر أهمية للتفاعلية من خلال التصويت على اختيار النهايات والتحكم بالبنية الدرامية، والحقيقة أن البرامج التفاعلية تنصهر في برامج تلفزيون الواقع وأن البحث في تحديد ماهية البرامج التفاعلية وأشكالها فضلا عن التراكيب الدرامية والدلالية العاملة فيها هو البحث في برامج تلفزيون الواقع والتي تعد مادتها المعروضة هي البرامج التفاعلية التلفزيونية، فلا توجد برامج تفاعلية لها شكلها الخاص عدا برامج تلفزيون الواقع وبعض برامج المسابقات التي انصهرت مع برامج تلفزيون الواقع، وهنا نجد سؤالا يطرح نفسه هو، ما الداعي لذكر البرامج التفاعلية في عنوان الدراسة مادامت تصب في تلفزيون الواقع، والإجابة هنا أن ذكر البرامج التفاعلية جاء لكون البرامج التفاعلية هي الحاضنة الرئيسية لبرامج تلفزيون الواقع والتي لا يمكن دراستها دون ذكر الحاضنة الأم التي هي البرامج التفاعلية، فضلا عن سبب أخر مهم ألا وهو فك الاشتباك والخلط الكبير لدى المختصين بين البرامج التفاعلية وبرامج تلفزيون الواقع.
إن النوع الذي تم ذكره سابقا هو النوع الفني والجمالي للعرض التلفزيوني التفاعلي، وهنالك نوع تقني أخر من التفاعلية التلفزيونية وقد تمظهر من خلال التلفزيون عالي التقنية( ITV ) والذي ينتج عنه التلفزيون التفاعلي، والتفاعلية التلفزيونية التقنية توفر للمتلقي ومن خلال جهاز التحكم اليدوي للتلفزيون اختيار القنوات التي يريدها، أو تأجيل مشاهدة برنامج ومشاهدته في إي وقت والطريقة لا تتطلب منك سوى استعراض قائمة الخيارات في التلفزيون التفاعلي ( (ITV لتختار أخبار المساء، إلا انك لا تريد مشاهدة الإخبار أولا، بل تريد إن تعرف ما إذا كان الجو المكفهر سيتحسن أم لا فما عليك إلا أن تنقر على خيار الطقس في القائمة ، وهذا الجانب التقني يبتعد كل البعد عن ماهية البحث المعنية بالبرامج التفاعلية التلفزيونية والبرامج المتماهية معها مثل برامج تلفزيون الواقع وتحديد تصنيفاتها وأبنيتها الدرامية والدلالية وجماليات الشكل الفني فيها.
ولا تقتصر التفاعلية على هذه الأنواع المهمة التي بينها البحث بل انفتحت على كل مجالات الانفوميديا فتداخلت مع الألعاب الالكترونية التي نشاهدها على الحواسيب مع شبكة المعلومات الدولية وكذلك انفتحت التفاعلية على العلوم المختلفة وطرق دراستها.
وقد شهد العقدين المنصرمين دعوات مناهضة لما تم طرحة.. تشتغل في تنظيرات بعد ما بعد الحداثة التي يدعي منظريها أنها أنهت حقبة ما بعد الحداثة الى غير رجعة، ومن منظري هذه الطروحات الناقد الثقافي الانكليزي الن كيربي و الناقد والمفكر الأمريكي راؤول ايشلمان والأمريكي روبرت صاموئيل المحاضر في جامعة كاليفورنيا وآخرين في دول مختلفة ومن النقاد العرب العراقي الدكتور معن الطائي والفلسطينية الدكتورة أماني أبو رحمه في كتابهما المشترك الفضاءات القادمة الذي صدر عام 2.11 عن دار أروقة للدراسات والنشر في القاهرة.
ويورد الدكتور معن الطائي وزميلته أماني أبو رحمة في كتابهما فصل بعنوان الآلية الزائفة وهو عبارة عن دراسة لطروحات السيد الن كيربي في التفاعلية التلفزيونية التي بينها في مقالته المنشورة في العدد) 58) من مجلة الفلسفة البريطانية بعنوان (ما وراء موت ما بعد الحداثية) عام 2..6، يرى السيد ألن كيربي، إن الحداثة التفاعلية حداثة زائفة لأنها " جعلت من فعل الفرد شرطاً ضرورياً للإنتاج الثقافي"(6)، وهل جذب المتلقي إلى بنية الحدث يعد حداثة زائفة، انه مسيرة سنين من التنظير الذي دعا إليه التفكيكي جاك دريدا وتنظيرات ما بعد الحداثة ونظريات التلقي بمختلف رجالاتها والتي توصلت بعد سنين من العمل الدؤوب وتسخير التكنولوجيا إلى إيجاد فسحة تفاعلية للمتلقي في بنية النص وكسر قدسية النص المنغلقة على ذات المؤلف سابقا والتي تجعل المتلقي ذاتا متأثرة فقط سواء بالتطهير الأرسطي أو غيره، وكذلك يقول السيد كيربي "أما الأخ الكبير(ويقصد به برنامج الأخ الأكبر (Big Brather) الذي قدمته القناة الهولندية الأولى عام 1991 ) فهو نموذج مثالي لنصوص الحداثة الزائفة. فهو مثلا، لن يخرج إلى حيز الوجود إذا لم يتصل أحد من الجمهور للتصويت، وتبعا لذلك يصبح التصويت جزءاً من النصية المادية للبرنامج، بمعنى أن المتصلين من المشاهدين والمستمعين هم جزء من النصية المادية للبرنامج. وبالتأكيد فإن برنامج الأخ الكبير لن يكون إذا لم يتصل أحد بالبرنامج")، ومن الحداثة الزائفة في عمل يجعل من الجمهور جزءا منه فهم هنا جزءا مهيمنا وسائدا في بنية الصورة رغم عدم ظهورهم احيانا وهي مغايرة للمألوف التي تسعى لها ماوراء الحداثة، ثم يعود السيد كيربي في كتابه ليقول " أن مصطلح التفاعلي (interactivity) غير مناسب هنا على الإطلاق لأنه لا يوجد تبادلية. كل ما هنالك هو أن المشاهد أو المستمع يدخل، ويكتب مقطعا من البرنامج، ثم يغادر عائدا إلى وضعه السلبي السابق "(8)، وهذا الرأي للسيد كيربي يجافي الحقيقة لان المتلقي المشارك في بنية الحدث ايجابيا في فترة معينة يبقى متفاعلا حتى في فترة خروجه، متفاعلا في التلقي فهو يتابع ماذا أضافت مشاركته،هل غيرت في الأحداث هل غيرت في مستويات المشاركين، ثم يبدأ بنسج مشاركة أخرى تتماهى مع التغيرات الجديدة ليدخل مرة أخرى مشاركا متفاعلا مؤثرا ومغيرا لسير الأحداث، وهنا التفاعل يبقى ايجابيا على عكس الطرح السلبي للسيد كيربي.
وشهد العام2009 تغيرات معرفية مهولة في أراء منظري بعد ما بعد الحداثة، وعودة إلى السيد كيربي فقد نشر كتابه (الحداثية الرقمية: كيف فككت التكنولوجيا الجديدة ما بعد الحداثة وأعادت تشكيل الثقافة) والذي صدر عن دار كونتم للنشر، فقد جاءت تصريحات مغايرة لما بينه في دراسته السابقة، حيث نشر في كتابه مصطلح هو الحداثة الرقمية أو الحداثة الديجيتالية (digimodernism ) وقال عنها " أنها بالمحصلة تأثير حوسبة(رقمنة) كل أشكال الفن، والثقافة، والنصية، إنها أيضا حقل القوة الثقافية المهيمن منذ أوائل القرن الحادي والعشرين"(9)، وهنا نلاحظ تغيرا كبيرا عن آراءه السابقة وبقراءة جديدة بأنها من تجليات بعد ما بعد الحداثة، جيل الرقمنة والدجيتال وال (السي جي آي) في السينما، وهذا الكلام ينافي كلام السيد كيربي السابق،فضلا عن انه من تنظيرات ما بعد الحداثة منذ سبعينيات القرن المنصرم التي شهدت طروحات جاك دريدا ومن ثم فترة الثمانينيات التي شهدت تنظيرات الانكليزي بوبي رابيد في الرواية التفاعلية بعد إن نشر روايته على الفضاء الافتراضي وجعل للجمهور دورا في إعادة تشكيل معماريتها وصولا إلى فترة التسعينات الذي شهد التفاعلية التلفزيونية في بنية شكل تلفزيونية مغايرة لكل ما هو مألوف سابقا.
الحقيقة إن الموضوعة شائكة وتبادل الطروحات قائم على قدم وساق من اجل إيجاد تنظيرات تؤسس لحقبة قادمة لها مخرجاتها الأدبية والفنية تمتلك فرادتها على مستوى الشكل والسرد واللغة بمختلف تنوعاتها إلا وهي نظرية بعد ما بعد الحداثة وتمظهراها الحياتية المختلفة.
اضف تعليق