q
آراء وافكار - دراسات

مفهوم التقارب الاجتماعي عند الرسول محمد

(صلى الله عليه وآله وسلم)

من أهم نتائج تفعيل مبدأ التقارب هو كف أذى غير المسلمين، وتجنب بعض دواعي عدم الإستقرار، المتمثلة بالمؤامرات التي يحوكها أعداء الإسلام، مستغلين الفجوة العقائدية بين المسلمين وغيرهم اذ انه يمثل نظرية اجتماعية تعكس الجانب الإنساني للخطاب الديني وتكشف، عن البعد الأخلاقي للمنظور الإسلامي...
أ.م.د. محمد حسين عبود/ كلية العلوم الإسلامية - جامعة كربلاء

 

المقدمة

الحمد لله رب العالمين وأفضل الصلاة وأتم التسليم على محمد وأله الطيبين الطاهرين...

وبعد،

فإن من المضامين التي شدّد عليه الشرع الحنيف، حتى عُدت مبدأً من مبادئه، فأولاها عناية ورعاية هو مفهوم التقارب الاجتماعي، الذي كان من الآليات التي اعتمدها الإسلام في معالجة التنوع العقدي والإختلاف الديني الذي أحتضنها العالم الاسلامي، كنتيجة حتـمية لاحتضانه مختلف الرسالات، وذلك بعد أن صرّح القرآن بخاتمية الإسلام لسائر الشرائع السماوية، واختتام الرسل (عليهم السلام) بسيد الكائنات محمد المصطفى (صلى الله عليه وآله)، وأن الاسلام هو الدين المرضّي عند الله إنما هو الإسلام، دون غيره من الأديان السماوية الأخرى.

والواقع لقد كان لوجود شخص المصطفى (صلى الله عليه وآله)، المؤثر والفعال أبلغ الاثر في تطبيق مفهوم التقرب الاجتماعي على مخلف المستويات والاصعدة، وهو ما ساعد -بطبيعة الحال- على تثبيت دعائم الأمن والإستقرار في أنحاء البلاد الإسلامية من جهة، والدعوة الى نشْر تعاليم الدين الحنيف من جهة أخرى. إن من يقف على شذرات تلكم المواقف الرحيمة والمعطيات العظيمة، التي عبّرت عـن الوجـه الوضّاء والمشرق لأبعاد الشخصية المحمدية، يلمس بوضوح النزعة الإنسانية التي انطوت عليها تلك الشخصية المباركة، كما يتجلى البعد العالمي للدين الإسلامي، وأنه دين لم يأتي لقوم دون قوم، ولم يختص بزمان معين أو مكان محدد. لذا وقع اختيار الباحث على العنوان أعلاه، وقد استلزمت طبيعة البحث أن يكون في مطلبين، الأول: في مفهوم التقارب الاجتماعي، والثاني: مبدأ التقارب الاجتماعي عند الرسول (صلى الله عليه وآله)، ثم خاتمة البحث التي يعرض فيها الباحث ما توصل له من نتائج، ثم قائمة المصادر المعتمدة لديه.

المطلب الأول
مفهوم التقارب الاجتماعي

خلق الله سبحانه وتعالى الناس أجناسا وألونا وعقائد مختلفة فجعلهم شعوبا وقبائل لــكي يتعارفوا قال سبحانه:(إنا خلقناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم)(1)، ولقد جعل سبحانه وتعالى التقوى ميزانا للتكريم الإلهي، وأنها المقياس الأهم في تحقيق وحدة الغاية عند بني البشر على اختلافهم، كما انها من أسباب حسن المعيشة وازدهارها حين قال سبحانه: (ولو أن أهــل القرى آمــنوا واتــــقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء)(2).

إن التقوى من أهم الآليات التي تضمن سعادة الدارين، وتضمحل معها أسباب التمايز بمختلف أنواعه وأصنافه، غير أن مشيئة المولى سبحانه لم تقتض هداية الناس أجمعين قال جل شأنه: (فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين)(3).

من هنا فقد أناط سبحانه ــ بالإنسان ــ مهمة اختيار الطريق المُنجّي من غيره، وأعطاه مساحة فكرية واسعة في ذلك، قال سبــحانه: (إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا)(4)، وقال جل وعلى: (وهديناه النجدين)(5)، فكان من الطبيعي أن يختلف الناس مع أنهم خُلقوا أمة واحدة كما أكد ذلك سبحانه بقــوله:

(كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمْ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ)(6)، وهو ما يكشف عن حقيقة أن الناس وُلدوا متفقين على الفطرة(7)، بالتالي فالإختلاف إنما هو من جهة الإنسان، وكانت مهمة الأنبياء هو قطع دابر الاختلاف، الذي نما شيئا فشيئـا حتى أصبح جزءا من تكوينه بسبب خروجه عن هدي السماء ومخالفته الأنبياء، ومن ثمَّ فالقرآن بصدد تقرير أن الإختلاف في واقعه إختلاف عقائدي، الأمر الذي ترتب عليه فيما بعد وبتدخل مباشر من الإنسان نفسه، نزاع على حساب الدين واللون والجنس والإنتماء، ولطالما كان من نتائجه الوخيمة تلك الصور القاتمة من القتل والتهجير والإلغاء والإقصاء التي مُنى منها الوجود البشري منذ أن وقعت أول جريمة اقترفها قابيل بحق أخيه هابيل، والى يومنا هذا.

وكيفما يكون الأمر فقد أصبح الإختلاف بين الناس - منذ القدم - سمة بارزة، وقلما تجد مجتمعا، يخلو منه؛ لذا فقد سعى الشرع الحنيف الى حفظ الجنس البشري من خلال خلق وتفعيل الآليات، التي تحقق التوازن الإنساني داخل المجتمع المسلم، وتحول دون تفاقم خطورة الإختلاف ووصوله الى حدود النزاع والإقتتال، عبْـر تقريره لمبدأ التقارب الاجتماعي - بين مختلف المكونات التي تدين بأديان وتوجهات عقائدية مختلفة - الذي يضمن أسباب التعايش، بل والتوادد والتحابب، كما يحفظ حقوق الجميع من غير غمْط أو تجاوز.

والواقع إن المجتمع الإسلامي - في تقدير الباحث - أحوج من غيره الى تطبيق مبدأ التقارب الاجتماعي للأسباب الآتية:

أولا: أنه ضم في تركيبته الإجتماعية - منذ الأيام الأولى لوضع الأسس الأولى للدولة الإسلامية على يد النبي (صلى الله عليه وآله) - أبناء الأديان الأخرى من النصارى واليهود وغيرهم من الذين كانوا يقطنون البلاد الإسلامية قبل مجئ الإسلام.

ثانيا: نسْخ الإسلام لما سواه من الأديان، وتصريح الخطاب السماوي بأنه المُلزم بالإتباع دون غيره من الأديان السماوية الأخرى، حيث قال سبحانه: (إن الدين عند الله الإسلام)(8)، وقوله تعالى: (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يُقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين)(9)هذا في قبال آيات أخرى تؤكد على حرية اتخاذ الإنسان أي دين، كالآيات المتقدمة، وكقوله تعالى (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي)(10)، ومقتضى الجمع بين معاني تلك الآيات يفضي الى العمل بمبدأ التعايش والتقارب، إذا كان الوسط الإسلامي يضم في كنفه غير المسلمين.

ثالثا: أن من أهم نتائج تفعيل مبدأ التقارب هو كف أذى غير المسلمين، وتجنب بعض دواعي عدم الإستقرار، المتمثلة بالمؤامرات التي يحوكها أعداء الإسلام، مستغلين الفجوة العقائدية بين المسلمين وغيرهم.

اذ انه يمثل نظرية اجتماعية تعكس الجانب الإنساني للخطاب الديني من جهة، وتكشف، عن البعد الأخلاقي للمنظور الإسلامي، الذي يبيّن عالمية الدين الإسلامي، وأنه شرْع ينفتح على جميع المكونات الإنسانية، بما هي إنسانية بغض النظر عن الإنتماء الديني أو الميل العقائدي من جهة أخرى.

ويمكن القول إن ديمومة الوجود الإنساني وقوامه في أمرين: هما الجانب الإقتصادي والجانب الإجتماعي.

أما الجانب الأول فقد تكلف الباري سبحانه بتغطيته، حين وزّع الثروات بأنواعها في باطن الأرض وظاهرها، وأعطى للإنسان الآليات العقلية والبدنية القادرة على استخدام تلكم الثروات، وتوظيفها والإستفادة منها.

أما بخصوص الجانب الثاني فإن المولى سبحانه أنزل الشرائع وبعث الأنبياء (عليهم السلام) لتنظيمه، ثم أنه دفع الإنسان وأهمه لتأسيس بعض النظم التي من شأنها حفظ النظام الإجتماعي، ويقع مبدأ التقارب الاجتماعي على رأس لائحة النظم التي يُراد منها حفْظ النظام والنوع البشري من آفة النزاع، التي لا تقل خطرا عن آفة الفقر التي قد تدفع الإنسان ليقتل أخيه الإنسان من أجل الحصول على فرصة البقاء.

خلاصة القول إنه مبدأ يمثّل إحدى الأدوات التـــي اعتمدها الدين الإسلامي ليس للتعايش مع الآخر فحسب، بل الى دعوته لاعتناق الشرع الحنيف، لما ينطوي عليه هذا الـمبدأ من نزعة إنسانية تستحق الإحترام والتبجيل.

المطلب الثاني
مبدأ التقارب الاجتماعي عند الرسول(صلى الله عليه وآله)

لقد كانت المؤاخاة التي نادى بها الإسلام على لسان الرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله) تمثيلا حيا وميدانيا لأسمى معاني التقارب والتوادد، وذلك حين قدم النبي (صلى الله عليه وآله) مدينة يثرب التي كان يسكنها اليهود الى جنب قبائل العرب التي كانت أشهرها قبيلتي الأوس والخزرج اللتان كانتا تتقاسمان نزاعا دام لسنوات طويلة منها يوم بعاث ويوم الدرك وغيرها(11)، واذا وقعت الحرب بينهما ((خرجت بنو قينقاع مع الخزرج، وخرجت بنو النضير وقريظة مــــع الأوس يظاهر كل فريق حلفاءه على إخوانه حتى يتسافكوا دمائهم بينهم وبأيديهم))(12)، فألف بينهما رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وانصهرا معا وشكّلا حيين من الأنصار الذين استقبلوا المهاجرين القادمين من مكة المكرمة؛ هربا من بطش عتاتها.

والحق لقد نقل لنا التأريخ صورا من التآخي والتقارب بين المهاجرين والأنصار، مما قلّ إن لم يكن انعدم نظيره في التأريخ الإنساني، إذ كانوا يتوارثون بالإسلام والهجرة، دون النسب، حيث رُوي أن النبي (صلى الله عليه وآله): ((آخى بين المهاجرين والأنصار لما قدم المدينة فكان يرث المهاجري من الأنصاري، والأنصاري من المهاجري ولا يرث وارثه الذي كان بمكة، وإن كان مسلما لقوله تعالى:(إن الذين آمنوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا)(13)(14)، ولقد تعددت ألوان التعايش السلمي الذي كان يتمتع به الناس في ظل النظام الإسلامي العادل الذي كان يطبقه رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ليشمل النصارى واليهود وغيرهم ممن كان يجمعهم الزمان والمكان الواحد.

ولقد كان للوضع السياسي والأمني المتعلق بتشكيل الدولة الإسلامية على يد النبي (صلى الله عليه وآله) مدخلية واضحة في تحديد حجم العلاقات بين المسلمين وغيرهم سواء اليهود الذين يشكلون الخطر الأهم كونهم يعيشون بين ظهراني المسلمين، و طالما تربصوا بالإسلام وبالنبي (صلى الله عليه وآله) الدوائر، أو مشركي قريش العدو الأول للإسلام.

ولقد أعربت آيات عديدة عن الموقف العقائدي والسياسي لهذه الطوائف اتجاه الإسلام، قال سبحانه: (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم)(15)، بيْد أنه سبحانه يؤكد في آية أخرى أن النصارى أقرب الى المسلمين من اليهود والمشركين، قال تعالى: (لتجدن أشد عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى)(16)

من هنا يتضح لنا أن المناوئين للإسلام على صنفين صنف معلن للحرب اتجاه الوجـود الإسلامي وهم اليهود والمشركين وآخر أقرب مودة وهم النصاري، لكن مبدأ التقارب الاجتماعي الذي أقره الشرع الحنيف وعمل ببنوده الرسول(صلى الله عليه وآله)ساعد على كبح جماح دعاة الحرب والتخفيف من غلوائهم، ويمكن بيان أبعاده عنـد المصطفى (صلى الله عليه وآله)عبر الجانبيين الآتيين:

أولا: قواعد التقارب مع غير المسلمين:

لقد صرح الخطاب القرآني بعالمية الإسلام، وأنه الرحـمة المتمثلة بشخص الرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله) المهدة الى العالم أجمع، وليس للعرب فحسب، قال تعالى: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)(17)، لذا فقد جاءت طائفة من الآيات التي تُعّبر عن البعد الإنساني لتلك الشريعة السمحاء، والتي تدفع نحو تثوير مبدأ التعايش والتجاور كأسلوب يخطه الإسلام ويعتمده في التعامل مع الذين لا يعتنقون أو يعتقدون بالإسلام، قال سبحانه وتعالى:(وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه)(18)، وقال: (وقولوا للناس حسنا)(19)، وغيرها من الآيات التي تكشف عن طبيعة العلاقة مع غير المسلمين.

إن النبي(صلى الله عليه وآله) في الوقت الذي عقد فيه مواثيق الأخوة بين المسلمـين، سعى الى عقْد مواثيق المعاهدة بين المسلمين وغير المسلمين، وذلك حين وضع الصحيفة التي تضمنت الخطوات الأولى لدستور المدينة المنورة الذي رام من ورائه تنظيم الشؤون الإجتماعية لساكنيها من المسلمين وغير المسلمين، من خلال إبرام عقود المؤاخاة بين المسلمين أنفسهم، وعقود الموادعة بين المسلمين واليهود، إذ أن من جملة ما ورد في تلك الصحيفة: ((وأن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم إلا من ظلم وأثم فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته، وأن ليهود بني النجار مثل ما ليهود بني عوف، وأن ليهود بني الحارث ما ليهود بني عوف........... الخ))(20).

ولا يخفي ما في ذلك من المسالمة الجلية التي توضح الجانب الإنساني للشرع الحنيف، وقد كانت السيرة النبوية لسيد الكائنات زاخرة بأصناف التعامل السلمي مع اليهود وغيرهم، حيث يذكر الطبراني (ت360هـ) أن النبي (صلى الله عليه وآله): ((كان إذا عاد يهوديا أو نصرانيا قال: كيف أنت؟ فيقول: صالح، فيقول النبي(ص): جعلك صالحا))(21)، وربما دفع هذا السمت النبوي، الذي دأب عليه النبي (صلى الله عليه وآله)، بعض اليهود لأن يُسلموا علي يده المباركة، كما حصل مع ذلك الغلام الذي عاده (صلى الله عليه وآله) ((فقعد عند رأسه فقال له: أسلم، فنظر الى أبيه وهو عند رأسه، فقال:أطع أبا القاسم فأسلم، فقام النبي(صلى الله عليه وآله) وهو يقول: الحمد لله الذي أنقذه من النار))(22)، وكما أن من كان هذا حاله من اليهود جارا للنبي(صلى الله عليه وآله)، فقد ابتُلي بجيران السوء كعقبة بن أبي معيط الذي كان يأتي بالفرث فيطرحه على باب النبي(صلى الله عليه وآله)، ولم يكن يقابله النبي إلا بأكرم خلق(23).

وقد انطبعت تلك السجايا الكريمة على أهل بيته، فكانت سمة من سماتهم، وطبعا من شمائلهم، إذ يُروى في الإمام الحسن بن علي بن أبي طالب(عليهم السلام): ((أنّ جاره اليهودي انخرق جداره الى منزل الحسن، فصارت النجاسة تنزل الى داره واليهودي لايعلم بذلك فدخلت زوجته يوما فرأت النجاسة قد اجتمعت في دار الحسن فأخبرت زوجها بذلك، فجاء اليهودي اليه معتذرا، فقال: أمرني جدي (صلى الله عليه وآله) بإكرام الجار))(24).

وقد كان من خصاله (صلى الله عليه وآله) أنه لا يرد دعوة جاره أيا كان، كتلبيته دعوة جاره الفارسي الذي دعاه الى مائدته، فذهب هو وعائشة(25). وقد كان ذات التوجه الأخلاقي من قبل النبي (صلى الله عليه وآله) اتجاه النصارى والتي بدأت أولى خطوات التواصل الإجتماعي والسلمي بين المسلمين وبينهم

حين بعث رسول الله (صلى الله عليه وآله) أصحابه - حماية لهم من أذى قريش - الى الحبشة في هجرتين(26) ((وحينما هاجروا الى الحبشة وجدوا فيها دينا سائدا منظما، له كنائسه وبيعه ورهبانه وقساوسته))(27)، وعندما خطب النبي(صلى الله عليه وآله) أم حبيبة بنت أبي سفيان، ساق عنه النجاشي أربعة آلاف درهم(28)، ورُوي أنه لما مات النجاشي صلى عليه رسول الله (صلى الله عليه وآله)(29).

ولعل مسك الختام في النماذج المشرقة التي تعرب عن التعايش والتقارب الذي وضع أسسه(صلى الله عليه وآله) هو ما نُقل من أن جمعا من النصارى كانوا((قد زاروا رسول الله للتحقيق والإستفسار أقاموا قداسا في مسجد النبي في المدينة بكل حرية))(30).

خلاصة القول إن سنة النبي (صلى الله عليه وآله) وسيرته كانت مثالا حيا وانعكاسا جليا، لمفاهيم ومبادئ التواصل الإنساني الذي يتعدى حدود الدين، ويتـــجاوز أسوار العقيدة، لتشكل قدوة يُحتذى بها وأسوة يُقتدى بها.

وما أحرى عالم اليوم الذي يعصف به غلواء العنف وفي شتى أنحائه أن يقف على تلك الصفحات العطرة ويتخذ منها دواء نافعا وحلا ناجعا لتلك الأجواء المشحونة بالاضطرابات وعدم الإستقرار، وليكون حوار الحضارات الذي تنادي به دول العالم الغربي اليوم حوار بناءا مقبولا مجديا، يحفظ ويؤّمن للأجيال مستقبلها.

ثانيأ: قواعد التعامل الاقتصادي مع غير المسلمين:

لعل مما سعى الشرع الحنيف لتنظيمه هو الحياة الإقتصادية العامة التي يقع تــحت طائلتها المسلمين، وغير المسلمين، وذلك من خلال الأحكام التي وضحّتها نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية.

ويمكن القول أن من جملة الأهداف التي سعى الإسلام لتحقيقها من وراء العمل بتلك الأحكام هو تركيز معاني العدل بين كل الذين يعيشون في فناء العالم الإسلامي، فقد أوجب الزكاة والخمس على المسلمين، حفظا لأموالهم، وعونا لفقرائهم.

أما غير المسلمين فقد نُظمت شؤونهم الإقتصادية وفق أحكام خاصة بهم سُميت بـ (أحكام أهل الذمة)، التي أوجبت عليهم الجزية لقوله تعالى(:حتى يعطوا الجزية) وهي أشبه ما تكون بالجزاء المادي الذي تأخذه الدولة في مقابل الخدمات التي توفرها لغير المسلمين المتمثلة في توفير السكن والأمان على أنفسهم وأموالهم والحرية وسواها(31)؛ لأن ((الشريعة الإسلامية إذا كانت بالنسبة للمسلمين ديناً وقانوناً، فهي لغير المسلمين قانوناً ما داموا يعيشون في دار الإسلام))(32).

إن التجانس الإجتماعي بين المسلمين وغيرهم، إنطلاقاً من هذا الحق، لم يـكن ليستقيم ويستمر، لولا القوانين التي نظمتها الشريعة المتمثلة بعقود الذمة التي تُعطي حق الحرية الدينية لما سوى المسلمين من أهل الكتاب في ممارسة طقوسهم ضـمن حدود الدولة الإسلامية، وتُوجب على المسلمين احترامها ومراعاتها بالتالي ((فإن الإسلام تركهم وما يدينون، ولهم أن يعيشوا في ظل الإسلام آمنين مطمئنين))(33).

وقد حرّم الإسلام - وفقاً لذلك - استرقاق أهل الذمة، متى كانوا قائمين بشرط الذمة(34)، ولم يمنع من التعامل معهم وشراء الأرض، وإذا عملوها وأحيوها فهي لهم(35)

ولعل من الروايات التي تسلط الضوء علـى جانب من المعاملات المالية بين الرسول(صلى الله عليه وآله)، وبعض اليهود والتي تشير الى أسلوب التعامل السلمي والأخلاقي هو ما نقله الإمام موسى بن جعفر(عليه السلام)عن أبيه عن آبائه عن أمير المؤمنين(عليهم السلام) ((في حديث اليهودي الذي كان له علــى الرسول(صلى الله عليه وآله) دنانير فتقاضاها بها، وقال لا أفارقك حتى تقضيني، فجلس معه رسول الله (صلى الله عليه وآله) حتى صلى في ذلك الموضع الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح، وقال: لم يبعثني ربي أن أظلم معاهدا ولا غيره، فلما علا النهار أسلم اليهودي، وقال هذا شطر مالي في سبيل الله))(36).

ويمكن القول أن لهذه الرواية ونظائرها حضور جلي في فتاوى الفقهاء المعاصرين، والتي تترجم لنا ماهية التعامل المالي والحقوق المترتبة عليــــه بالنسبة لأهل الذمة كتصريح بعض الفقهاء بأن الأرض الموات، وان كانت ملكاً للإمام (ع)، ولكن يجوز إحياؤه، ولو أحياه شخص كان أحق به من غيره، ولم يفرّق بين المحيّ مسلما كان أم كافراً، في دار الإسلام، أم دار الحرب(37).

ومن الجدير بالذكر أن جهود الفقهاء الإمامية انصبّت - وما زالت - نحو تركيز سبل التعاطي والتبادل الديني والإنساني بين الطرفين، ولا أدل على ذلك من فتوى أحد الفقهاء المعاصرين، حين سُئل عن ((حكم الصلاة في البيع والكنائس، وغيرها من الأماكن التي يتعبد فيها أصحاب الأديان الأخرى، فأجاب بقوله: لا بأس بذلك والله العالم))(38) ؛ لأنها محكومة بالطهارة(39).

خلاصة القول إن الإسلام - ومن خلال التطبيق العملي لمفهوم التقارب الاجتماعي - سبق علماء الإجتماع الذين أكدوا في نظرياتهم أن الدين هو أحد مقومات التجانس الإجتماعي(40)

نتائج البحث

بعد هذه الجولة مع أخلاق الرسول (صلى الله عليه وآله) المعبرة عن أسمى نماذج التعايش الإنساني والتقارب الاجتماعي، من خلال الروايات والأحاديث المختلفة فقد وقف البحث على النتائج الآتية:

أولا ـ أن الإسلام أول النظم التي حاربت التمييز القائم على أساس الجنس أو الدين أو القومية.

ثانيا ـ إن مفهوم التقارب الاجتماعي لم يكن مفهوما بقدر ما كان مبدأ، تكفلت السيرة النبوية العطرة ببيان تنظيرا وتطبيقا.

ثالثا ـ إنه يمثل نظرية اجتماعية تعكس الجانب الإنساني للخطاب الديني.

رابعا ـ يكشف التعامل النبوي مع غير المسلمين من أهل الكتاب عن عالمية الشرع الحنيف، وأنه دين قادر على استيعاب الحياة بكل أفرادها.

خامسا ـ حدد الإسلام آلية التعامل مع أهل الذمة من خلال عقد أعل الذمة الذي يضمن لهم حرية العيش والدين، ونحو ذلك.

سادسا ـ لقد سار الفقهاء المعاصرين على هدي النبي (صلى الله عليه وآله) والأئمة عليهم السلام، عبر الفتاوى الفقهية التي جسدت أبعاد التعايش والتقارب بين المسلمين وغيرهم.

سابعا ـ إن العالم اليوم أحوج ما يكون الى استجلاء سيرة النبي(صلى الله عليه وآله) واسكناه تلك المعاني الإنسانية، وتوظيفها باتجاه الحد من التطرف والإرهاب والغزو الذي بات العدو الأول للإسلام.

* البحث المقدم الى (المؤتمر الوطني حول الاعتدال في الدين والسياسة) يومي 22 و23 اذار 2017، الذي عقد من قبل مؤسسة النبأ للثقافة والاعلام ومركز الدراسات الاستراتيجية في جامعة كربلاء ومركز الفرات للتنمية والدراسات الاستراتيجية

......................................
(1) سورة الحجرات / 13
(2) سورة الأعراف /96.
(3) سورة الإنعام /149
(4) سورة الإنسان / 3.
(5) سورة البلد /10
(6) سورة البقرة /213
(7) ظ:الطبرسي: أبو علي الفضل بن الحسن(ت548هـ): تفسير جوامع الجامع/ط1(1418هـ)/ تحقيق منشر مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة 1/202 + الحويزي: عبدعلي بن جمعة(ت1112هـ): تفسير نورالثقلين/ تحقيق هاشم الرسولي المحلاتي/ط4(1412هـ)/ طبع ونشر مؤسسة اسماعليان للطباعة والنشر ــ قم 1/209.
(8) سورة آل عمران /19.
(9) سورة آل عمران /85.
(10) سورة البقرة /256
(11) ظ: كحالة: معجم قبائل العرب/ ط2(1388هـ)/ نشر دار العلم للملايين - بيروت - لبنان 1/50.
(12) اليوسفي: محمد هادي(معاصر): موسوعة التاريخ الإسلامي/ ط1(1420هـ)/ مطبعة: باقري - قم 2/79
(13) سورة الأنفال /72.
(14) ظ: الطوسي: محمد بن الحسن(ت460هـ): المبسوط/ تحقبق محمد الباقر البهبودي/ ط2(1388هـ)/المطبعة الحيدرية - طهران 4/67.
(15) سورة البقرة/120.
(16) سورة المائدة /82.
(17) سورة الأنبياء/107
(18) سورة التوبة/6.
(19) سورة البقرة/83.
(20) هشام الحميري:أبو عبدالله محمد بن إسحاق(ت151هـ):السيرة النبوية/تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد/(1383هـ)2/350.
(21) الطبراني:سليمان بن أحمد(360هـ): كتاب الدعاء/ تحقيق مصطفى عبد القادر عطا/ ط1(2413هـ) دار الكتب العلمية - بيروت - لبنان /347.
(22) المحقق الحلي: نجم الدين أبي القاسم(ت676هـ): المعتبر/ طبع مدرسة الإمام أمير المؤمنين (ع)1/343.
(23) العجلوني: اسماعيل بن محمد(ت1162هـ):كشف الخفاء/ ط3(1408هـ)/ دار الكتب العلمية - بيروت - لبنان 2/137
(24) المرعشي:شهاب الدين الحسيني(ت1411هـ):شرح إحقاق الحق/ منشورات مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي- قم- ايران11/122
(25) ظ:عبد بن حميد(ت249هـ):المنتخب من مسند عبد بن حميد / تحقيق صبحي البدري السامرائي، محمود محمد خليل الصعيدي/ ط1(1408هـ)/ نشر مكتبة النهضة العربية/387.
(26) ظ:أبن الأثير: عز الدين أبي الحسن (1ت360هـ): أسد الغابة في معرفة الصحابة/دار الكتاب العربي - بيروت - لبنان1/19.
(27) الشاكري: حسين(معاصر):الأعلام من الصحابة والتابعين / ط2(1418هـ)/ مطبعة ستارة8/65.
(28) الفاضل الهندي: بهاء الدين محمد بن الحسن(1137هـ):كشف اللثام عن قواعد الأحكام /ط1(1420هـ)/ تحقيق ونشر/ مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة 7/403.
(29) ورُوي أن جنازته رُفعت للنبي(صلى الله عليه وآله)حتى شاهده على سريره.ظ:ابن أبي جمهور الإحسائي:محمد بن علي(ن880هـ): عوالي اللئالي العزيزية في الأحاديث الدينية/ ط1(1403هـ) / مطبعة: سيد الشهداء – قم 2/59
(30) الشيرازي: ناصر مكارم(معاصر):الأمثل في تنزيل كتاب الله الأمثل2/262
(31) الخوئي: أبو القاسم(ت1413هـ): منهاج الصالحين /ط 28(1410هـ)/ مطبعة مهر ـ قم 1/391.
(32) أوغلو: تامر باجن (معاصر): حقوق أهل الذمة في الفقه الإسلامي/1
(33) الكَلبايكَاني: محمد رضا (ت1414هـ): الدر المنضود في أحكام الحدود/ مطبعة أمير/ الطبعة الأولى (1412هـ) 1/350
(34) المحقق البحراني: يوسف(ت1186هـ)الحدائق الناظرة في أحكام العترة الطاهرة/مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المقدسة 19/373.
(35) ظ: الطباطبائي: علي(ت1231هـ): رياض المسائل/تحقيق ونشر مؤسسة الإسلامي التابعة لجماعـة المدرسين بقم المشرفة/ ط 1(1412هـ) 12/348
(36) الحر العاملي: محمد بن الحسن(ت1104هـ):الجواهر السنية في الأحاديث القدسية/(1384هـ)/المطبعة: النعمان - النجف الأشرف/57
(37) ظ: السيستاني:علي(معاصر):منهاج الصالحين/ ط1(1415هـ)/ مطبعة ستارة ــ قم 2/252
(38) الكَلبايكَاني:محمد رضا(ت1414هـ) إرشاد السائل/دار الصفوة بيروت ـ لبنان/ ط 1(1313هـ)/30.
(39) حسب ما قرّر علماء الإمامية. ظ: الصدر محمد باقر (ت1400هـ): شرح العروة الوثقى/ مطبعة الآداب - النجف الأشرف/ الطبعة الأولى (1391هـ) 4/66+ السيد السيستاني: تعليقه على العروة الوثقى 1/64، وغيرهما.
(40) ظ: الشلبي: احمد: مقارنة الأديان اليهودية/ مكتبة النهضة المصرية – القاهرة/ الطبعة الثالثة(1973م)/113

اضف تعليق


التعليقات

الكاتب الأديب جمال بركات
مصر
الرسول صلى الله عليه وسلم كان القائد والمعلم
أرسله رب العزة سبحانه وتعالى بقرآنه الكريم ليهدي ويعلم
لكن البشر على مر العصور يبحثون عن الخلاف لأشياء في نفوس من يجادل ويتكلم
المحامي يعرف كثيرا أنه يدافع عن الباطل لكن فصاحته تصوره كحق ويترك الضحية يبكي ويتألم
أحبائي
دعوة محبة
أدعو سيادتكم الى حسن الحديث وآدابه....واحترام بعضنا البعض
ونشر ثقافة الحب والخير والجمال والتسامح والعطاء بيننا في الأرض
جمال بركات...مركز ثقافة الألفية الثالثة2018-12-12