هل يمكن للازمات الاقتصادية في القرن الحادي والعشرين ان تعيد للعالم مظهر من مظاهر الصراع التاريخي السياسي الاستعماري على الموارد والثروات على رقعة الشطرنج الدولية، وبمعنى آخر، هل يمكن ان يصل الأمر خلال المرحلة الزمنية القادمة الى قيام العديد من الدول بشن حروب على موارد الدول الأخرى لإطعام شعوبها؟ هل يمكن ان تنجر بعض الدول الى الدخول في صراعات مع جيرانها او دول أخرى نتيجة أوضاعها الاقتصادية المتردية؟
قراءة المشهد الاقتصادي الدولي الراهن وتأثير الأزمات الاقتصادية التي تجتاح العالم اليوم عليه، يرسم صورة مأساوية لمستقبل الاستقرار والأمن على رقعة الشطرنج الدولية، وان كان التاريخ السياسي يؤكد وبما لا يدع مجالا للشك بان العديد من الحروب والصراعات التاريخية العالمية انطلقت من بوابة الاستعمار الذي كان اشد محفزاته البحث عن الثروات والمال والقوة الاقتصادية والاستعمار الجيوسياسي، فان الوضع الاقتصادي العالمي الراهن بسبب العديد من الأزمات الاقتصادية التي تجتاح العالم، وعلى رأسها أزمة انخفاض أسعار النفط، وتبعاتها على التنمية الاقتصادية وانعكاساتها على موازنات الدول يثير الكثير من الشكوك والمخاوف والقلق حيال قدرة العديد من دول العالم على ضبط النفس، او القدرة على التعامل مع الضغوط الداخلية الناتجة عن تردي أوضاعها الاقتصادية بحكمة وتروي، ما يمكن ان يدفع بالكثير منها خلال العقد الراهن والعقود القادمة نحو تصدير أزماتها الى الخارج او قيامها باختلاق أسباب واهية لشنها حروب وصراعات على جيرانها لسد تلك الثغرة او العجز في مواردها الاقتصادية الداخلية، او لاستعادة هيبتها المفقودة بسبب تردي أوضاعها الاقتصادية في مواجهة دول صغيرة لم يكن لها مكانة جيوسياسية، الا ان امتلاكها للثروات النفطية والغاز او غيرها من الثروات التي جعلتها في منزلة أفضل من دول كانت في يوم من الأيام في منزلة ومكانة أفضل منها، بل وربما كانت تابعة لسياساتها وقوة هيمنتها.
وفي هذا السياق يقول عالم الاقتصاد السياسي وأستاذ الشؤون الدولية والسياسية في كلية وودرو ويلسون للشؤون العامة والدولية في جامعة برنستون:- ان احد أهم العوامل المهمة التي تؤدي الى النزاعات السياسية الخطيرة هي العوامل الاقتصادية، وهناك تفسيران متناقضان لكون النمو الاقتصادي المتفاوت يؤدي الى إحداث نزاع سياسي، فهناك من يرى ان النزاع بين الدول على الموارد الاقتصادية والتفوق السياسي مستوطن في نظام من الفوضى الدولية، ووفقا للمنظور الشخصي الواقعي، تولد عملية النمو المتفاوت نزاعات بين الدول الناهضة والدول الآفلة، وهي تسعى الى صون وضعها النسبي في الهرم السياسي الدولي، أما الرأي الآخر، وهو من وجهة نظر الماركسية اللينينية: ان التنمية المتفاوتة للمجتمعات هي بمثابة مصادر للفتوحات الاستعمارية، وفي الحقيقة ان عملية التنمية المتفاوتة تحفز النزاع السياسي لأنها تقوض الوضع السياسي الدولي، وان انتقال مواقع الأنشطة الاقتصادية يغير توزيع الثروات والقوة فيما بين الدول في النظام، وإعادة توزيع القوة هذه وتأثيرها في مكانة ورفاه الدول تبرز النزاع بين الدول الناهضة والدول الآفلة، وان عدم حل النزاع يمكن ان يؤدي الى حرب هيمنة.
وبتصوري ان المشهد السياسي الدولي الراهن ونحن نلج عتبه النصف الثاني من العقد الثاني من الألفية الثالثة حافل بهذا النوع من مظاهر التوتر والصراعات والحروب العابرة للقارات، وان اختلف البعض من المحللين والمؤرخين في تفسير بعض أسباب تلك الظواهر السياسية والصراعات الجيوسياسية، فان جلها من وجهة نظري يدور وسيدور خلال المستقبل القريب حول المحفزات الاقتصادية وحروب الموارد واستعمار الثروات التي يقع على رأسها مصادر الطاقة، فالضغوط الاقتصادية التي تعيشها العديد من الدول سواء الكبرى منها او الصغرى، النفطية او غير النفطية، تشكل محفز نفسيا خطير جدا يدفع باستمرار الى التوتر السياسي ومحاولة العديد منها كما سبق واشرنا الى تصدير أزماتها ومشاكلها الداخلية الى الخارج، سواء باتجاه جيرانها او دول أخرى على رقعة الشطرنج الدولية، ويمكن الإشارة الى ان جغرافية تلك الأزمات من وجهة نظري ستتركز خلال الفترة الزمنية القائمة والقادمة في منطقة الشرق الأوسط خصوصا، وتحديدا دول البترودولار.
وبحسب الفن وهايدي تافلر في كتاب أشكال الصراعات المقبلة -حضارة المعلوماتية وما قبلها– فانه قليلون أولئك الذين تنبهوا الى ان منطقة الشرق الأوسط ستشكل قلب الاقتصاد العالمي، لذلك وكما جاء في بحث للأستاذ احمد سليم برصان، والمنشور في مجلة السياسة الدولية تحت عنوان: إيران والولايات المتحدة الاميركية ومحور الشر: الدوافع السياسية والإستراتيجية الاميركية، ان الولايات المتحدة الاميركية وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي حاولت ان تتوسع في سلطتها وتستولي على المراكز الحساسة والجيوسياسية في العالم ودول الشرق الأوسط بصورة خاصة، والمناطق التي حاولت كل القوات الكبرى على مر التاريخ السيطرة عليها، ومن خلالها السيطرة على الشرق الأوسط بأكمله.
لذا فهي أي الولايات المتحدة الاميركية وبحسب إيمانويل تود في ما بعد الإمبراطورية –دراسة في تفكك النظام الاميركي– تعمل على تصدير وخلق المشكلات في بعض المناطق الاستراتيجية التي تهم مصلحة أميركيا وذلك لتكون تلك المشكلات الشماعة التي تتحرك بسببها الولايات المتحدة الاميركية لخلق منطقة استعمارية لها، -وهذا الأمر نستفيد منه بان القوى العالمية الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة الاميركية يمكن ان تعمل في أوقات كثيرة على خلق وصناعة صراعات وحروب في مناطق مصالحها الجيوسياسية وليس كما يمكن ان نتصور ستحافظ على تلك المناطق من الحروب والصراعات وستدفعها الى الاستقرار لوجود مصالحها الجيوسياسية بها– او ان تلك القوى الكبرى لن تفرط في هذه المصادر الأمر الذي يعني تأجيل الالتحامات العسكرية لوجود حماية لها من قبل تلك القوى العظمى.
كما انه ومن جانب آخر فان تركز الثروات النفطية في دول بعينها كبعض الدول العربية والخليجية وإيران على سبيل المثال لا الحصر، دفع وسيدفع دول أخرى حول العالم وخصوصا الدول الكبرى منها الى النظر إليها بضغينة وحقد، وهو ما دفع بالفعل خلال الفترات الزمنية الماضية بالعديد من تلك الدول الى تبني خيار الإطاحة بالأنظمة السياسية الحاكمة في تلك الدول باتجاه او بهدف خلق أنظمة حليفة لها استراتيجيا للسيطرة على مصادر النفط والغاز وبقية الثروات، ما أدى مع الوقت الى نشر الفوضى السياسية والحروب والصراعات الداخلية التي تحفل بها العديد من دول الشرق الأوسط اليوم على وجه الخصوص.
وبتصوري ان هذه الاستراتيجية ستكون الخيار الطاغي على شكل العلاقات الدولية خلال الفترة الزمنية القادمة على رقعة الشطرنج الدولية، وليس ذلك فقط بين الدول الكبرى باتجاه الدول الأقل مكانة من الناحية الجيوسياسية، بل سيكون كذلك خيار مطروح بين مختلف دول العالم، وسيكون اشد نزوعا بين دول الشرق الأوسط، وكما ذكر مايكل.جي. هوغمات في كتاب نهاية الحرب الباردة مدلولها وملابساتها من ان: (المكان المفرد في العالم اليوم الذي قد يتمخض عنه صراع كوني ما يزال بالإمكان تصوره هو منطقة الخليج، فعندما يرفع احدهم الصراع الأخير في الشرق الأوسط الى مرتبة الصراع الكوني، وانه يصعب بعد حربيين عالميتين تمييز الحروب المحلية من الحروب واسعة النطاق).
يصاف الى ذلك ان تفاوت تلك الثروات وتأثير ذلك التفاوت على الاستقرار والأمن السياسي والاقتصادي للعديد من الدول، خصوصا الدول التي تعتمد قوتها التنموية على استقرارها وأمنها الداخلي، وخصوصا الجانب الاقتصادي منه، كما اشرنا سابقا سيدفع مع الوقت الى تشكل تحالفات جيوسياسية فضفاضة عابرة للقارات تهدف الى تغيير ميزان القوى بين الدول في النظام الدولي المتشبع بالفوضى والصراعات السياسية أصلا، وسيولد مع مرور الزمن قوى سياسية واقتصادية تحاول السيطرة على دول أخرى، من خلال استغلال حاجياتها الى مصادر الطاقة التي سترسم شكل وهياكل البناء السياسي القادم للخارطة الجيوسياسية الدولية.
وقد أشرت الى هذه النقطة خصوصا في مقال آخر لي تحت عنوان: شتاء النفط: توجيه الأزمة لإعادة تشكيل خارطة العالم الجيوسياسية، موضحا ان العالم سيعيش قرن ملئ بالاضطرابات السياسية والجيوسياسية في هياكل البنية السياسية العالمية على وجه العموم، وستتركز اغلبها خصوصا على رقعة الشطرنج الاوراسية وبشكل أكثر دقة وتحديد في نطاق حدود البيت السوفيتي القديم وخارطة الشرق الأوسط الجديد، ومنطقة الخليج، وهذه المنطقة الشاسعة كما يصفها زبغينو بريجنسكي في كتابه رقعة الشطرنج الكبرى 1999م (تمزقها الأحقاد المتأججة والتي يحيط بها جيران متنافسون أقوياء، مرشحة لان تتحول الى ساحة معركة كبرى للحروب ما بين الدول القومية، وعلى شكل أرجح للعنف العرقي والديني طويل الأمد).
والتاريخ يثبت وبما لا يدع مجالا للشك بان السعي لامتلاك الموارد الاقتصادية كالنفط ومشتقاته والغاز والثروات المعدنية وغيرها من مصادر الطاقة، كانت ولا زالت وستبقى من ابرز أسباب اندلاع الصراعات والحروب العالمية، وقد ساقت صحيفة سان فرانسيسكو كرونيكل في عددها الصادر في شهر سبتمبر 2001م في مقال لفرانك فيفيانو انه: يمكن ان تلخص الرهانات الخفية في الحرب على الإرهاب بكلمة واحدة هي النفط، ويبدو ان خريطة الملاجئ والأهداف الإرهابية في الشرق الأوسط واسيا الوسطى تماثل تلك المتعلقة بمصادر الطاقة الأساسية في العالم الى حد بعيد في القرن الحادي والعشرين.
كما يمكن في هذا السياق العودة الى تصريح البيت الأبيض بتاريخ 28/نوفمبر/2001 حول موضوع افتتاح اتحاد خط أنابيب قزوين، كذلك الرجوع الى ما جاء في رويتر في موضوع لعبة أسيا الوسطى العظيمة تنقلب رأسا على عقب، بتاريخ 25/سبتمبر من العام 2001م، و-بمعنى آخر- ان النفط أصبح لعبة عالمية جيوسياسية للتحكم بالعالم من خلال أزرار تملكها بعض الدول والاقتصاديات العالمية الكبرى او المصدرة لمصادر الطاقة كالنفط والغاز، وهو أمر لابد ان تعيه ولو بشكل متأخر تلك الدول التي يعتمد اقتصادها وقوام حياتها على البترودولار، ما يجعلها فريسة سهلة ولقمة سائغة وهدف واضح لتلك القوى المتحكمة بلعبة النفط.
أخيرا وفي هذا السياق نشرت مجلة FORTUNE في عددها الصادر بتاريخ 9 فبراير من العام 2004م مقالا لديفيد ستيب يلخص فيه تقريرا للبنتاغون يدرس الانعكاسات الأمنية لعالم مستقبلي مفترض انتابته حالة من السعار نتيجة تغير مناخي حاد –ويقاس على التغيير المناخي البيئي، المناخ الاقتصادي او السياسي-، حيث يبدأ المقال وعنوانه: كابوس البنتاغون المناخي، بمخاطبة القارئ على النحو التالي: تخيل ان دول أوربا الشرقية في سباق كفاحها لإطعام شعوبها تغزو روسيا –التي تنوء بساكنيها الذين هم أصلا في طريقهم الى الانحطاط– وذلك للوصول الى المعادن وموارد الطاقة الروسية، او تصور اليابان تضع عينها على احتياطات روسيا المجاورة من النفط والغاز لتشغيل محطات تحليه المياه التي لديها وإمداد زراعتها النهمة للطاقة.
وفي مقال لاحق لـ ايرا تشيرنوس تحت عنوان: (تغير مناخي خطير يدفع البنتاغون الى الجنون)، متوفر في موقع www.commondreams.org وهو مقتبس من التقرير نفسه يظهر التاريخ انه كلما وجد البشر أنفسهم مضطرين الى الاختيار بين الموت جوعا او الإغارة، فإنهم سيختارون الأخيرة، لذلك علينا ان نفترض انه: إذا كان العالم سيتعرض لتغيير حاد في المناخ في العقود القليلة القادمة –ربما هذا المناخ لن يكون شتاء جليدي او تمدد ثقب الأزون بقدر ما سيكون شتاء طويل في أسعار النفط سيؤدي الى نتائج كارثية على الدول والشعوب-، فان النمط القديم التالي سيعود الى الظهور، وهو اندلاع حروب شاملة يائسة حول الغذاء والماء والطاقة، وقد تعود الحرب مرة أخرى لترسم حدود الحياة والموت.
خلاصة الطرح بان البشرية في القرن الحادي والعشرين ستعيش أوج صراعات وحروب المنافسة على استعمار مصادر الطاقة حول العالم وتحديدا النفط والغاز، وان خارطة تلك الصراعات الاقتصادية ستنطلق من الجغرافيا السياسية الأشد نزوعا الى الحرب وهي منطقة الشرق الأوسط، وذلك في طريق محاولات العديد من تلك الدول احتواء أزماتها الاقتصادية الطاحنة من خلال التدخلات السياسية في شؤون الدول تحت شماعات إنسانية او أمنية، او بهدف تحويل أزماتها الداخلية جراء الضغوط الجماهيرية بسبب ضعف التنمية وتراجع الاقتصاد وتصديرها الى دول الجوار او الدول التي يمكن ان تستفيد من تصدير مشاكلها إليها، وستكون الأزمات الاقتصادية هي الوقود الذي سيشعل اغلب النزاعات السياسية في القرن الحادي والعشرين.
اضف تعليق