هدف ورؤية وتصورات بعيدة المدى وهي خطة عمل وهذه الخطة لا ينبغي أن تكون مكتوبة فحسب بل أن تظل محفوظة في الذهن، ولديها القدرة على فن التوفيق بين الوسائل والغايات". وبالتأكيد إن صوغ الرؤية الاستراتيجية يعتمد على ما تمتلكه الدولة من قدرات (تلائم الغايات مع الوسائل)...
لعل من المهم بالنسبة لدارس العلوم السياسية والاستراتيجية والمهتم بهذا الشأن ضبط المصطلحات والمفاهيم، وامتلاك القدرة على الفصل فيما بينها ومعرفة معنى كل مفهوم حتى لا يقع في لبس وتشتت، قد يخلقه الكم الهائل من التعريفات والمصطلحات المرتبطة بهذه المجالات المعرفية والفروع التابعة لها. هذا اللبس إن حصل قد يؤدي إلى نتائج سلبية تنعكس على دراسته وبحثه وتحليله، بالتالي إن عملية ضبط المفاهيم تعد اللبنة الرئيسة التي يعتمد عليها البحث العلمي.
ومن الأمثلة البارزة التي أنوي التطرق إليها في هذه المقالة هي الاستراتيجية والسياسة، فربما الكثير من الباحثين لا يمتلكون القدرة على التفريق بينهما، وما طبيعة دور كل واحدة منها، وهل هي متكاملة أم متقاطعة؟.
بناءً على ما تقدم إن الاستراتيجية هي: هدف ورؤية وتصورات بعيدة المدى حسب رأيي. وهي حسب تيري ديبل "خطة عمل وهذه الخطة لا ينبغي أن تكون مكتوبة فحسب بل أن تظل محفوظة في الذهن، ولديها القدرة على فن التوفيق بين الوسائل والغايات". وبالتأكيد إن صوغ الرؤية الاستراتيجية يعتمد على ما تمتلكه الدولة من قدرات (تلائم الغايات مع الوسائل) وإلا سيكون مصيرها الفشل أو ستكون نتائجها وخيمة العواقب. أما الهدف من وضع الاستراتيجية كما يتصور دوغلاس فايث، يكمن في أنه "لن يتوجب عليك القيام كل صباح وتسأل نفسك ما أفضل مسار للعمل [...]، فهي تساعدك على تثبيت مسارك وترشدك إلى الخيارات التكتيكية الصائبة حتى لو تطورت الأحداث بشكل غير متوقع كما يحدث دائمًا".
أما دور السياسة والسياسي يقوم على أساس وضع الاستراتيجية موضع التنفيذ؛ ذلك عبر رسم الخطط وتدبير الآليات والقدرات المناسبة من أجل تحقيق الهدف الاستراتيجي، وقد تختلف الوسائل إلا أن الغاية والهدف يبقى كما هو. أي أن السياسة آنية تتعامل مع وقائع يومية متغيرة ومتبدلة، وهنالك قد تقع ما يصفها (هنري كيسنجر) بالمشكلات الطارئة التي تخلقها الظروف، أي أنها أحيانًا تكون عصية التوقع من جانب الاستراتيجية، إذ أنها كما أشرت فيما سبق تتعامل مع المستقبل لا الأحدث الآنية -هذه أيضًا قد تترتب عليها صياغات استراتيجية جديدة- تتلائم مع الوقائع الطارئة مثل تفكك الاتحاد السوفيتي، أو هجمات الحادي عشر من أيلول، بالتالي يتحتم على السياسي أن تكون لديه القدرة على التعامل مع الظروف الطارئة التي قد تحدث، فمثلًا إن أزمة الصواريخ الكوبية التي حدثت بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأمريكية عام (1962)، كانت أزمة طارئة بالنسبة لصانع القرار الأمريكي، مما يعني أن هامش التصرف والمناورة ضيق، إلا أن حسن التعامل الذي أبدته في حينها إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق (جون كيندي)، وحزمه حيال ما عُد تهديدًا حقيقيًا للأمن القومي الأمريكي.
في ذات الوقت هذه الأزمة حتى لو كانت طارئة هذا لا يعني أن الاستراتيجي الأمريكي غافل لمثل هكذا تهديدات وكيف يمكن التعامل معها، ولا ننسى أن الولايات المتحدة الأمريكية ومنذ القرن التاسع عشر تتعامل مع الأمريكيتين الجنوبية والشمالية، بمنطق مذهب الرئيس الأسبق (جيمس مونرو) "أمريكا للأمريكيين"، أي أنها لن تسمح لأي تواجد لدولة غير أمريكية في هاتين القارتين، بمعنى آخر احتكارها للنفوذ في كلتيهما، وهي إحدى الخطوات البارزة التي تدفع الدولة إلى أن تكون قوة عظمى وفقًا لتصور (جون ميرشايمر) فالهيمنة الأحادية على الصعيد الإقليمي، ستدفع باتجاه أن تكون الدولة قوة لها شأنها في بقية العالم.
لذلك توصف السياسية بفن الممكن، أو يمكن وصفها بأنها علم وفن إدارة المتناقضات، ويفترض بالسياسي الذي يمارس السياسة أن يتمتع بميزة القدرة على احتواء الصراعات المتناقضة وضمان عدم وصولها إلى مرحلة الصدام الدموي أو المسلح. على الرغم من ذلك أن خيار الحرب قد يكون مهمًا في بعض الأحيان فالحرب ما هي إلا استمرار للسياسة لكن بصورة عنفية، فالدولة تلجأ في بعض الأحيان للحرب لفرض شروطها السياسية على الخصم واكراهه على تنفيذ إرادتنا بالتعبير الكلاوزفيتزي، لكن ينبغي على السياسي إذا ما ذهب باتجاه الخيار الحربي أن يربطه بهدف استراتيجي، "فالسياسة يجب أن تكون مرآة تعكس الاستراتيجية" مثلما يعتقد تيري ديبل، ويسأل نفسه لماذا يحارب؟ وما الامكانيات التي يمتلكها؟ وهل لدي القدرة على كسب الحرب؟ والكسب هنا لا يقتصر على هزيمة العدو بل يتمثل بالقدرة على تحقيق الهدف الاستراتيجي للحرب، فالولايات المتحدة الأمريكية استطاعت هزيمة العراق في عام 2003، إلا أنها فشلت من الناحية الاستراتيجية، مما يعني فشل الحرب وإن حققت الانتصار.
من جهة أخرى يمكن طرح السؤال الآتي: هل يمكن للاستراتيجي أن يكون سياسيا، وهل يقدر السياسي على أن يكون استراتيجيا؟، في الغالب الأعم من الممكن للاستراتيجي ممارسة الدور السياسي ولعل من الأمثلة البارزة على ذلك كيسنجر المفكر الاستراتيجي الأمريكي الذي تولى وزارة الخارجية الأمريكية في عهد الرئيس الأسبق (ريتشارد نيسكون)، وبريجنسكي كان مستشار الأمن القومي الأمريكي ابان إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق (جيمي كارتر). أما بشأن السياسي فمن النوادر أن نجد سياسيا يستطيع أن يكون استراتيجيا في ذات الوقت، فهو كما أشرت سابقًا يتعامل مع قضايا وأحدث يومية وطارئة في بعض الأحيان، مما يتحتم عليه التعامل معها بصورة سريعة لا سيما إذا ما كانت هنالك أزمة خطيرة، بالتالي يصعب عليه التفكير الاستراتيجي والنظر إلى المستقبل البعيد، لهذا العديد من القادة والساسة عند وصولهم إلى سدة الحكم يستيعنون بالخبراء الاستراتيجيين، ليكونوا مستشاريهم في الشؤون الاستراتيجية والأمنية.
وللتوضيح بشأن معنى الهدف الاستراتيجي، هو أن تضع دولة معينة على سبيل المثال نصب عينها، أنها تريد أن تدخل نادي الدول العشرة الكبار بعد عشر سنوات من الآن. بعدها يأتي دور السياسي الذي يرسم الخطط ويهيأ الأدوات المناسبة ثم يبدأ بالشروع في التنفيذ، وأكيد إن التنفيذ ستواجهه العديد من العقبات أو العثرات أو التوقفات، الأمر الذي يدفع إلى أن يمتلك السياسي القدرة والكفاءة التي تؤهله للتعامل معها، ومن ثم يعمل على أن تتمتع الخطط بالمرونة اللازمة التي تمنحه القدرة على مواجهة التحديات التي تواجه عملية الوصول إلى الهدف الاستراتيجي.
اضف تعليق