ان الولايات المتحدة الأمريكية أصبحت تتبع سياسات خارجية مختلفة الأهداف مع كل إدارة رئاسية جديدة، ولا توجد استراتيجية واضحة ثابتة يمكن أن تكون منهاجًا لكل رئيس، فاليوم مثلًا يخشى العالم من فوز ترامب مرة أخرى في ولاية رئاسية ثانية غير متتالية، وعبر الأوربيين عن خشيتهم من ذلك...
خرجت الولايات المتحدة الأمريكية ظافرة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وعلى كل الأصعدة السياسية والاقتصادية والعسكرية، ولم يضاهيها في ذلك أي خصم، والقوى الأوروبية التقليدية مثل فرنسا وبريطانيا خرجت من الحرب منهكة القوى، وتعاني من تراجع كبير على مختلف الأصعدة، وحتى الاتحاد السوفيتي على الرغم من خروجه قوى عسكرية تقليدية عظمى، تسيطر على أراضي شاسعة بعد الحرب العالمية الثانية، إلا أنه لم يكن يتمتع بالقوة السياسية والاقتصادية والتكنولوجية التي كانت تمتلكها الولايات المتحدة الأمريكية.
كما أن الولايات المتحدة الأمريكية كانت تتمتع باستراتيجية دولية واضحة المعالم، تقوم على تطويق الاتحاد السوفيتي، ومنع انتشارها القوى الشيوعية في مختلف دول العالم، وبغض النظر عن الرئيس سواء أكان من الحزب الديمقراطي أو الجمهوري، فالاستراتيجية والهدف واضحان تمام الوضوح، سواء بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية، أو حلفائها وحتى خصومها.
استمرت على هذا المنوال إلى أن تفكك الاتحاد السوفيتي مع بداية تسعينيات القرن العشرين، وبصورة ربما كانت مفاجأة أي هذا التفكك، ولم يكن بالحسبان حتى من أشد المتفائلين في الولايات المتحدة الأمريكية. هذا الأمر المفاجئ أدى إلى تربع أمريكا على عرش النظام الدولي بما يعرف بالأحادية القطبية، وخرجت من الحرب الباردة قوة سوبر باور، لا منافس لها إطلاقًا. إلا أن هذا الأمر على الرغم من أنه قد يكون عاملًا إيجابيًا بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية؛ إلا أنه في الوقت ذاته يمكن الإشارة إلى أنها لم تكن تمتلك استراتيجية واضحة للتعامل مع هذا المتغير الدولي الجديد.
فهل تنكفئ على الذات أم تستمر في الهيمنة وتحمل مسؤولياتها الدولية والعالمية؟، وكيف سيكون شكل وهوية الخصم المقبل؟ وهل بالفعل هنالك خصوم يمكن أن يقفون أمامها؟
ربما كان غزو العراق لدولة الكويت إحدى الاختبارات التي وضعت أمامها، لتجربة وجودها وحيدة على العرش الدولي، إذ قادت الجهود الدولية لإنهاء الاحتلال العراقي للكويت، ومن ثم تدمير قدراته العسكرية بشكل شبه تام، وفرض الحصار الدولي عليه. ليخرج حينها الرئيس الأمريكي (جورج بوش الأب)، ليعلن عن ميلاد النظام الدولي الجديد، الذي تتربع بلاده على عرشه دون منافس.
وعن تحديد المنافسين بعد الحرب الباردة؛ فهي لم تكن الرؤية واضحة بشكل كبير، فمرة هنالك ما وصفتها بالدول المارقة، أو الجماعات الإسلامية الراديكالية، أو نظام صدام حسين، أو الصين بوصفها عدوًا محتملًا، أو إيران، أو محاولة نشر الديمقراطية.
وفي جانب آخر عملت على توسع حلف شمال الأطلسي (الناتو) باتجاه ضم الدول التي استقلت عن الاتحاد السوفيتي (شرق أوروبا)، من أجل التحسب لعودة روسية محتملة، وكان لهذا التوسع تداعيات من أهمها ضم روسيا لشبه جزيرة القرم، ومن ثم شن الحرب على أوكرانيا لمنع انضمامها لحلف الناتو.
عدم الوضوح هذا في الرؤية والاستراتيجية والهدف، أدى إلى إرباك حلفاء الولايات المتحدة الأمريكية قبل خصومها، فمع كل رئيس بعد الحرب الباردة؛ هنالك سياسة خارجية جديدة لكل رئيس أمريكي جديد مغايرة عن سلفه، ولا سيما إذا ما كان من الحزب الذي يختلف معه أي جمهوري أو ديمقراطي.
فالولايات المتحدة الأمريكية بعد الحرب الباردة، تعاني من وطأة السياسات المتضادة بين الجمهوريين والديمقراطيين، يعني السياسات الخارجية تقريباً أغلبها كانت من دون بوصلة استراتيجية وكل رئيس يتبع نهج مغاير وهذا أربك الحلفاء قبل الخصوم. فكما نعلم أن السياسات مؤقتة ومرحلية لا تمتاز بالثبات وخاضعة للتبدل المستمر، بينما الاستراتيجة عادةً تكون واضحة ولا تخضع للتغيير المستمر.
وإبان الحرب الباردة، كان الهدف والخصم واضح بالتالي كان كل شيء واضحاً بالنسبة للآخرين. أما اليوم فهي لا تعاني من تراجع في مستويات القوة، إلا أنها تعاني من عدم وضوح الرؤية وأي الإتجاهات تسير عليها؟ وقد تكون هذه صفة أمريكا تعود إلى أصل الخلاف بين أنصار الاعتزالية وأنصار التدخلية، فهنالك جزء كبير من الشعب الأمريكي يعتقد أن تدخل بلاده في ما وراء الحدود لم يجلب لها سوى الخسائر ونقمة الآخرين عليها، وأنها ليست بحاجة إلى أن تتورط في مشكلات العالم التي تزداد تعقيداً كل يوم. أما أنصار التدخلية فهم ربما يمثلون البيروقراطية والنخبة الأمريكية التي ترى من المهم أن تتمتع بلادهم بدور قيادي دولي يوازي حجم ما تمتلكه من فوائض للقوة.
يمكن القول: أن الولايات المتحدة الأمريكية أصبحت تتبع سياسات خارجية مختلفة الأهداف مع كل إدارة رئاسية جديدة، ولا توجد استراتيجية واضحة ثابتة يمكن أن تكون منهاجًا لكل رئيس، فاليوم مثلًا يخشى العالم من فوز ترامب مرة أخرى في ولاية رئاسية ثانية غير متتالية، وعبر الأوربيين عن خشيتهم من ذلك قبل الآخرين على الرغم من أنهم ضمن حلفاء أمريكا الأساسيين، إذ أن ترامب لديه نهج لا يضع اعتبارات قوية لقيم التحالف والالتزامات مع الحلفاء والأصدقاء قدر الاهتمام بالمكاسب والاتفاقات الثنائية، وأيضًا لا توجد لديه مشكلة حتى مع منافسي بلاده أو أوروبا مثل روسيا، وتخشى القوى الأوروبية من أن يعقد الرئيس ترامب صفقة مع الرئيس الروسي بوتين، لا تأخذ مصالح قارتهم في الاعتبار.
ويبدو أن ترامب من أنصار الاعتزالية الأمريكية، ويذهب باتجاه أمريكا أقل التزامات عالمية، إذ يرى أنها لم تأتِ لبلاده بغير الخسائر الاقتصادية الكبيرة مثل الحرب على العراق، وتضرر وضعها الدولي، بالتالي هو رفع شعار أمريكا أولًا في فترته الرئاسية الأولى (2016-2020)، ويرفع شعار أجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى في دورته الرئاسية الثانية التي سيباشر مهامه بها في العشرين من كانون الثاني (2025) بالتالي هو يركز على بلاده بالدرجة الأولى وكما هو واضح في كلا الشعارين.
ويرى (جورج فريدمان) في كتابه (العاصفة التي تسبق الهدوء)، أن بلاده تعيش دورة انتقالية مؤسسية واقتصادية جديدة تكون نهايتها العام (2028). عمر الدورة المؤسسية ثمانون عاماً، أما الاقتصادية تستمر لخمسين عاماً. بالتالي أن ما تمر به من عدم وضوح وتخبط هو ناتج عن نهاية أو قرب انتهاء دورة اقتصادية أو مؤسسية سابقة. وبين كل بداية ونهاية دورة مؤسسية أو اقتصادية، تعيش أمريكا مراحل استقرار، ومن ثم تمر بمخاضات اللااستقرار، والتي لن تنتهي حتى انتهاء الدورات التي تحدث عنها فريدمان، وبانتهائها يولد نهج وطريق جديد تنتهج بلاده. وعلى ما يبدو أنها تعيش ذلك منذ مدة ولا سيما منذ تولي ترامب الرئاسة في فترته الأزلى، إذ شهد المجتمع الأمريكي انقساماً واضحاً بينه وبين (هيلاري كلينتون) المرشحة الديمقراطية حينها. يتعقد فريدمان أن انتخابات (2028) هي الحاسمة في التحول الأمريكي، وحتى ذلك الوقت، سيظل العالم يعاني من الارباك الحاصل في المشهد الخارجي الأمريكي.
اضف تعليق