غدا البحر الأحمر سريعاً حلبةً للتآمر الجيوسياسي، على ضوء الالتزام الجديد بين الدول الخليجية والأفريقية الذي يتحدّى الافتراضات القديمة ويمحو الحدود القديمة. وتقود المصالح الاقتصادية والاستراتيجية المتوسّعة نشاطاً لا سابق له في المنطقتَين، فيما تعير القوى العظمى انتباهاً متزايداً إلى الدُرّة البحرية في الوسط، أي...
بقلم: زاك فيرتين
غدا البحر الأحمر سريعاً حلبةً للتآمر الجيوسياسي، على ضوء الالتزام الجديد بين الدول الخليجية والأفريقية الذي يتحدّى الافتراضات القديمة ويمحو الحدود القديمة. وتقود المصالح الاقتصادية والاستراتيجية المتوسّعة نشاطاً لا سابق له في المنطقتَين، فيما تعير القوى العظمى انتباهاً متزايداً إلى الدُرّة البحرية في الوسط، أي باب المندب، الذي يشكّل مضيقاً استراتيجياً ومنفذاً إلى أحد المعابر المائية التجارية الأكثر ازدحاماً في العالم.
وهنا، عند الملتقى بين البحر الأحمر وخليج عدن، تجسّ سلسلةٌ من الدول الفاعلة نبض الأخرى، وهي دول ذات ثقافات مختلفة ونماذج حكومة مختلفة وأساليب دبلوماسية مختلفة. وتكثر الفرصُ والمخاطر، وكما هو حال أيّ حدود ناشئة، ما زالت قواعد اللعبة غير مكتوبة.
وإقامةُ “منتدىً للبحر الأحمر”، قد تجتمع تحت رايته الدول المعنية لمناقشة المصالح المتشاطرة وتحديد التهديدات الناشئة وإيجاد حلول مشتركة، خطوةٌ تالية رشيدة. والجهود جارية لتشكيل هذا النوع من التجمّع. وفيما يضع القادة من هذه المناطق التي تشهد اندماجاً سريعاً المزيدَ من المخطّطات، يجدر أخذ أربعة عناصر تصميم بعين الاعتبار.
بدايةً، لا بد من عرض لمحة سياقية عن هذا الموضوع. لقد عمّقت كلّ من الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية وقطر وتركيا علاقاتها مع الدول في القرن الأفريقي في السنوات الأخيرة، على أمل كسب الأصدقاء والاستثمارات والنفوذ. (التقييمات متضاربة حتّى اليوم؛ فقد كسبت بعض الدول الأفريقية بعض الفوائد فيما تزعزع استقرار بعضها الآخر نتيجة هذه العلاقات). وشكّلت أبرز مظاهر هذا الالتزام طفرةٌ في العقارات على الساحل الأفريقي، حيث بُنيت قواعد عسكرية وموانئ بحرية جديدة ترافقاً مع الاستثمارات الدبلوماسية والتجارية في الصومال وجيبوتي وإريتريا والسودان.
وتبرز أثيوبيا، البلد الأكبر في القرن الأفريقي، بشكل واضح أيضاً في الحسابات الجديدة. كما تظهر أيضاً مصر، البلدُ الخصم أحياناً والدولة ذات الساحل الأطول على البحر الأحمر. ومنذ أواسط العام 2017، تأثّرت أيضاً هذه المحاولات الجديدة لدخول القرن الأفريقي بالأزمة الخليجية، وهي خصام مؤذٍ طال السياسة في عدّة دول أفريقية مع تنافس الأقطاب المتخاصمة للدخول إليها. وتشكّل اليمن العنصر المكمّل في هذه الأحجية، إذ عزّز اندلاع الحرب فيها الاهتمام بقدرة الوصول الاستراتيجية إلى الشواطئ الأفريقية القريبة بالإضافة إلى التحكّم ببوّابة البحر الأحمر الجنوبية.
فتعبر تجارة سنوية قيمتها مئات مليارات الدولارات هذا المعبر المائي الذي يبلغ عرضه حوالي 32 كيلومتراً باتّجاه أوروبا وآسيا والخليج. وهذا المضيق مهمّ أيضاً من أجل حرّية الملاحة عبر المتوسط وغربي المحيط الهندي، ممّا يجعل منه موضع اهتمام في واشنطن وبروكسيل ومؤخّراً بكين. فمع وصول القوّات البحرية الصينية مؤخراً إلى جيبوتي (سبق أن استضاف هذا البلد الصغير الساحلي قوّاتٍ عسكريةً تابعة للولايات المتحدة وأربع دول أجنبية أخرى)، يمكن اعتبار البحر الأحمر وخليج عدن الآن ساحة للمنافسة بين القوى العظمى أيضاً (أعربت كلّ من روسيا والهند والمملكة العربية السعودية واليابان عن اهتمامها بتأسيس حضور عسكري لها في جيبوتي أيضاً).
الفكرة
كما ذكرتُ مؤخّراً في المقالة التي نشرتها فورين أفّيرز، تعتبر فكرة إقامة منتدىً للبحر الأحمر، بالصورة التي تَقدّم بها بعض الدبلوماسيين السبّاقين بفكرهم في المنطقة والغرب، فكرةً جيدة. فبإمكان هذا النوع من التجمّع معالجة مسائلَ متنوّعة مثل التجارة وتطوير البنية التحتية والأمن البحري والهجرة المختلطة وحماية البيئة وإدارة الصراعات. إذ يغادر مثلاً عشرات آلاف المهاجرين غير النظاميين سنويّاً القرنَ الأفريقي باتّجاه الخليج، غالباً عن طريق اليمن. في غضون ذلك، يهرب بالاتّجاه المعاكس عددٌ هائل من اللاجئين اليمنيين التي هجّرتهم الحرب، لينتهي بهم المطاف ليس في أماكن أخرى من شبه الجزيرة العربية فحسب بل في أنحاء القرن الأفريقي أيضاً. وستستفيد الدول في المنطقتَين من محادثةٍ مشتركة حول هذا المشهد الذي يزداد تعقيداً، ولا سيّما في حال قيام مرحلة انتقالية بعد الحرب في اليمن.
غير أنّه من الضروري أن تنضج مسألةٌ واحدة قبل أن يصبح هذا المنتدى الطموح واقعاً ومسألةٌ أخرى قبل التمكّن من الاستفادة من قيمته بالكامل. أوّلاً، يجدر أن تحلّ دولُ الخليج العربية الأزمة الخليجية القائمة (أو تخفّف من حدّتها)، فقد قسّمت هذه الأزمةُ منطقةَ البحر الأحمر إلى أقطاب متخاصمة وستعقّد مشاركة الجهات المتخاصمة وحلفائها الأفريقيين على حدّ سواء. ثانياً، على الدول في القرن الأفريقي أن تنسّق الجهود من أجل إعادة موازنة العلاقات غير المتكافئة إلى حدّ كبير حالياً مع الأنظمة الملكية العربية الصغيرة والثرية. طبعاً، لن يحصل ذلك بين ليلة وضحاها، لكنّ التغيّرات الشاملة السياسية والاقتصادية الجارية حالياً في أثيوبيا وفي أنحاء القرن الأفريقي تشكّل نقطةَ بداية. يجدر التوضيح أنّ القدرة التحويلية لهذه المراحل الانتقالية لا تضاهيها إلّا قدرتها على زعزعة الاستقرار، لكنّ النجاح في إحداث إصلاحات محلّية، مقروناً بالتقدّم نحو تحقيق تكامل إقليمي، يمكن أن يسمح لهذه الدول الأفريقية بأن تشارك في منتدىً للبحر الأحمر على قدمٍ أكبر من المساواة.
الجهود حتّى الآن: نحو منتدىً للبحر الأحمر
واجهت المحاولات السابقة لجمع دول البحر الأحمر عقباتٍ، غير أنّ هذه الجهود ستستمرّ، وهذا أمر ينبغي أن يحصل.
ومؤخّراً بشكل خاص، حاولت المملكة العربية السعودية أن تتولّى زمام الأمور، فدعت وزراء الخارجية إلى الرياض تحت راية “الدول الساحلية العربية والأفريقية المُطلّة على البحر الأحمر وخليج عدن”. غير أنّ نتيجة الاجتماع غير المهمّة لم تعكس عملَ تقدّم دبلوماسي غيرَ كافٍ فحسب، بل أظهرت اختلافاً في وجهات النظر حول التركيبة والأهداف أيضاً. فمثلاً، لم تتمّ دعوة أثيوبيا إلى الاجتماع، وأفيد بأنّ هذا الامتناع أتى بناء على طلب مصر. ولا تعود فعلاً محاولات القاهرة بإقصاء أديس أبابا إلى عدم تمتّع أثيوبيا بواجهة ساحلية، بل إلى المنافسة على النفوذ الإقليمي ومياه النيل التي يتمّ التنازع عليها بضراوة.
وقد بادرت أيضاً مؤسّسات أفريقية إلى بذل جهود نحو إقامة تجمّعٍ في البحر الأحمر، فقد أصدر الاتحاد الأفريقي تفويضاً للوصول إلى إجماع حول إقامة منتدىً، فيما أصدرت إيغاد (الهيئة الحكومية الدولية المعنية بالتنمية، وهي كتلة شرق أفريقية) مؤخّراً بياناً يُلزم أعضاءها بأن “تصيغ معايير متشاطرة” وتضع “أهدافاً مشتركة” وتدرجها في جدول أعمال البحر الأحمر. غير أنّ هذا النوع من التعاون لم يتمّ تطبيقه بعد. فلا تزال دولةٌ أساسية ترفض المشاركة، ألا وهي إريتريا، وهو تصرّف مألوف نظراً إلى كره رئيسها للمنتديات المتعدّدة الأطراف التي قد تدفع إلى التخلّي عن أيّ نوع من السلطات (ولم تحضر تلك الدولة أيضاً الاجتماعَ الوزاري في السعودية).
وأعرب أيضاً الشركاء الأوروبيون عن اهتمامهم في دعم قيام منتدىً، نظراً إلى الاستثمارات الهائلة في المنطقة ورغبة منهم في إقامة خطوط شحن آمنة وتدفّقات هجرة مستقرّة. فدعت أوّلاً ألمانيا، العضو الجديد في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، مع مسؤولي الاتحاد الأوروبي، دولَ البحر الأحمر إلى اجتماعٍ على هوامش انعقاد الجمعية العامّة للأمم المتحدة في سبتمبر 2018. غير أنّ هذا الاجتماع لم ينعقد أيضاً، فقد أفشلته ليس الخلافات حول تحديد الأطراف المشارِكة فحسب بل الجدالات في ما إذا يجدر أن يكون الغرب منخرطاً في المسألة على الإطلاق أيضاً.
وهذه المحاولات المتقطّعة متوقَّعةٌ نظراً إلى أنّ مجموعة متنوّعة من الدول تحاول أن تضع إطار عمل دبلوماسياً جديداً، خصوصاً أنّ نطاق هذه المنطقة الجديدة لا يزال قيد التحديد. في غضون ذلك، يتابع داعمو منتدى البحر الأحمر العملَ التحضيري، وهم على حقّ في تصرّفهم، مقلّصين الثغرات ومرسّخين الأسس حتّى يحين الوقت المناسب. ويمكن أيضاً استخلاص الدروس من خلال النظر إلى منتديات أخرى، فقد برز فضولٌ مثلاً إزاء آسيان (رابطة أمم جنوب شرق آسيا) ومنتدى بحر البلطيق. ومع نضوج الجهود وتعديل المخطّطات، على دول البحر الأحمر والشركاء المهتمّين أن يأخذوا بعين الاعتبار العناصر الأربعة الآتية.
عناصر التصميم
يجدر أن تشكّل أثيوبيا طرفاً في أيّ منتدى. فواقع أنّ هذا البلد الذي يضمّ مئة مليون شخص والذي يفتقر عملياً إلى أيّ خطّ ساحلي يطلّ على البحر الأحمر ليس بسببٍ كافٍ لإقصاء أحد أهم اللاعبين في المنطقة، إذ يشكّل هذا البلد موضعَ اهتمامٍ للجهات الفاعلة الخليجية وأساساً للسياسة والاقتصاد وتطوير البنية التحتية في أنحاء القرن الأفريقي. وينبغي أن تشارك بطريقة من الطرق الدولُ “المجاورة” الأخرى التي لها مصالح وعلاقات مهمّة في البحر الأحمر وخليج عدن. وتضمّ هذه الدول الإمارات العربية المتحدة وقطر وعُمان.
لا ينبغي إساءة استخدام هذه الآلية المهمّة للغاية ككتلة عسكرية ضدّ إيران. (يعتقد بعضهم أنّ هذا الأمر قد شكّل أحد دوافع الرياض في يناير). فمن الضروري أن يمثّل الأمن الإقليمي مرساةً للحوار في البحر الأحمر، لكن لا يجدر به أن يهيمن على جدول الأعمال أو يشتّت الانتباه عن مجموعة أوسع من المصالح المتشاطرة أو يخاطر بزيادة الاستقطاب في المنطقة.
على دول البحر الأحمر أن تضع في المنتدى آليّةً للتنسيق مع جهات شريكة ثالثة من خارج المنطقة، بما فيها الولايات المتحدة وأوروبا والصين. فسواء أكانت المليارات في التجارة البحرية أم كانت الحرب الجارية في اليمن أم كانت الموازنات الإنمائية المتدفّقة إلى المنطقة أم كان الاهتمام بالملاحة في هذا الممرّ، لكلّ من هذه الدول الفاعلة الخارجية مصالحُ في البحر الأحمر، وقد سبق أن أمّنت حضورها فيه. ومن المستحيل أن يشمل منتدىً الجميعَ وليس عليه بذلك، خوفاً من أن يضطرّ إلى الخضوع للقواسم المشتركة العامّة الدنيا التي أفشلت الكثير من الأحاديث المتعدّدة الأطراف. لكن أيضاً لا يجدر بأعضائه الأساسيين إنكار أنّ للدول الفاعلة الخارجية مصالحَ مكتسبة أو رفض الشراكات والاستثمارات الرأسمالية التي من المحتمل أن ترافق التعاون الجديد.
بإمكان الآلية أن تتّصف بالمرونة، لا بل عليها أن تكون كذلك، فتشكّل “ملتقىً” أكثر منها “منظّمةً”. ومن غير الضروري أن يجتمع كلّ بلد لمناقشة كلّ مسألة، فمن الممكن أن تعالج مجموعةٌ فرعية تابعة للدول بعضَ المسائل بفعالية أكبر، فيما تستفيد مسائل أخرى من مشاركة واسعة من الأعضاء والشركاء.
أمام مهندسي منتدى البحر الأحمر ومنفّذيه المزيدُ من العمل، وقد تساعدهم عناصر التصميم هذه. ومن المحتمل أن يبرز المزيد من العقبات، غير أنّ الاستقرار والازدهار في محيط يزداد تعقيداً يعتمدان على مشروعهم.
اضف تعليق