دون الدخول إلى تفاصيل تاريخ الأزمات السياسية الحديثة التي عانت منها أوكرانيا بعد إعلان استقلالها في العام 1990م عن الاتحاد السوفيتي السابق، يمكن التأكيد على أنها دخلت وخلال العقد الأخير من القرن 21- أي- خلال فترة لم تتجاوز عقد من الزمن 2004-2014م فقط إلى ثلاث أزمات جيوسياسية وجيواستراتيجية نتجت عن صراع المواجهة والنفوذ بين أمريكا والغرب من جهة وروسيا من جهة أخرى، كان أولها في العام 2004م أثناء ما أطلق عليه بالثورة البرتقالية، ثم في العام 2010م أثناء انقسام قطبي الثورة البرتقالية فيكتور يوشينكو ويوليا تيموشينكو، ثم في العام 2013م على خلفية تعليقها توقيع اتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي، وما تلاه من تدخلات من قبل الولايات المتحدة الأميركية وروسيا في الشأن الداخلي الأوكراني للتأثير على مستقبل الخارطة السياسية الأوكرانية تجاه مصالحهما الجيوسياسية في منطقة اوراسيا.

والمتتبع لتاريخ تلك الأزمات سالفة الذكر يجد أنها مترابطة ومتداخلة بشكل كبير، إلا أن أبرزها، والسبب الرئيسي في الحالة الأوكرانية الراهنة هو تعليقها توقيع اتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي في 12-11-2013م ما ادخلها في تظاهرات واحتجاجات من الأطراف المؤيدة للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، أدت إلى الإطاحة بالرئيس الموالي لروسيا فيكتور تيموشنكو، واتت بالرئيس الأوكراني بترو بوروشنكو الموالي للغرب في مايو من العام 2014م، الأمر الذي نتج عنه إتمام اتفاق الشراكة التاريخي مع الاتحاد الأوروبي الذي تم تعليقه قبل ذلك، وفي هذا السياق علق المحلل السياسي الأميركي كريستيان كاريل في مجلة فورين بوليسي الأميركيّة، بتاريخ 22/11/2013 تحت عنوان "مستقبل أوكرانيا أوروبي"، بان كل الحكومات الأوكرانية عملت على توطيد العلاقات مع أوروبا فان عدم توقيع الشراكة كانت قد خيبت أمل الشعب الأوكراني الذي كان يرى بلده اقرب إلى أوروبا.

وبتوقيع ذلك الاتفاق في بروكسل، تبددت في المقابل آمال بوتين بانضمام أوكرانيا إلى الاتحاد الاقتصادي والجمركي الذي أقامه مع دول أخرى من الاتحاد السوفيتي السابق مع بيلاروسيا وكزاخستان بينما يسعى إلى إعادة نفوذ موسكو في المنطقة، ما أثار ردود فعل روسية، بدأت بتصريح الرئيس فلاديمير بوتين الذي اعتبر أن التوقيع على الاتفاق ووصول الرئيس الموالي للغرب وأمريكا انقلاب، قائلا "أن ما حدث هو انقلاب غير دستوري في كييف ومحاولات فرض خيار مصطنع على الشعب الأوكراني بين أوروبا وروسيا، وسيدفع بالمجتمع نحو الانقسام ومواجهة داخلية مؤلمة"، تلاه عودة أوكرانيا إلى خلاط الأزمات السياسية والمواجهات الأمنية والاضطرابات السياسية والاقتصادية التي أعادت إلى الواجهة الصراع الغربي – الروسي إلى العلن.

أوكرانيا في النظرة الإستراتيجية لمصالح الدول القطبية: ما هي الأهمية الجيوسياسية والجيواستراتيجية للخارطة الأوكرانية على رقعة الشطرنج الاوراسية بوجه عام، وفي النظرة الجيوسياسية الاميركية والغربية من جهة والروسية من جهة أخرى؟ فالإجابة على هذا السؤال ستوضح الكثير من النقاط حول هذه البقعة الجغرافية من العالم وأهميتها بالنسبة للأطراف الدولية وخصوصا الدول الكبرى أولا، وكذلك ستوضح الكثير من ملامح مستقبل الأزمة الأوكرانية الراهنة، وفي هذا السياق تقول المحللة والصحفية الروسية ليليا شيفتسوفا ـ مؤلفة كتاب روسيا بوتين ـ بأنه (طالما حذر المراقبون الروس والغربيين من حتمية التوتر وحتى التنافس بين الولايات المتحدة وروسيا في الحيز الذي كان الاتحاد السوفيتي يشغله سابقا، وهو ما كانت تعتبره موسكو مجال نفوذها.... فيما اعتبرت الولايات المتحدة الأميركية محاولات روسيا لتعزيز تواجدها في الأراضي السوفيتية السابقة عودة إلى التقاليد التوسعية السابقة لروسيا).

وقد لخص المفكر الاستراتيجي ومستشار للأمن القومي لدى الرئيس الأميركي جيمي كارتر بين عامي 1977 و1981 وهو يعمل حاليًا مستشارًا في مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية، وأستاذًا بمادة السياسة الخارجية الأميركية في كلية بول نيتز للدراسات الدولية زبجينيو بريجنسكي في كتابة رقعة الشطرنج الكبرى نظرته لأهمية أوكرانيا في السياسة الروسية بالمقولة التالية: " إن روسيا، بدون أوكرانيا لا تشكل إمبراطورية أوراسية. وروسيا، بدون أوكرانيا، لا تستطيع أن تتابع السعي إلى أن تكون ذات وضع أو هيبة إمبراطورية".

فماذا يعني ذلك بلغة الأرقام؟ يعني أن روسيا مع أوكرانيا، بملايينها الخمسين، ومواردها الكبيرة، ووجودها على البحر الأسود، تستعيد عندئذ، وبشكل أتوماتيكي ثرواتها لتصبح دولة إمبراطورية قوية، ممتدة عبر أوروبا وآسيا، كما (تعد أوكرانيا حجر الزاوية للدفاعات الروسية كما أنها كانت مسرحًا لحرب القواعد الأمريكية الروسية أيضًا، حيث إن تلك الدولة تأوي أكبر تجمع روسي في العالم خارج روسيا، وتعد امتدادًا طبيعيًا للصناعة والزراعة الروسية، كما أنها تعد نقطة عبور لما يقرب من 80% من الغاز الطبيعي الروسي الذي يتم شحنه من روسيا إلى أوروبا، كما أنها تعد همزة الوصل لمعظم البنية التحتية للصناعات الروسية سواء عبر خطوط الأنابيب أو الطرق أو السكك الحديدية التي تسير بين روسيا والغرب).

(وتنبع أهمية أوكرانيا من أنها تعطي روسيا القدرة على مد نفوذها السياسي والعسكري والاقتصادي إلى دول شرق أوروبا والقوقاز والبحر الأسود، وتعد أوكرانيا هي جوهرة التاج لروسيا والتي تمكنها من استعادة نفوذها وسيطرة أسطولها على المنطقة، ومنع تلك الدولة من الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي أو إلى حلف الناتو والسقوط في الفلك الغربي)

أما بالنسبة لأهمية أوكرانيا بالنسبة لأوربا فإنها تنبع من أن أوكرانيا (تعد بمثابة الجدار الفاصل بين روسيا وأوروبا الشرقية، يَعبر من أراضيها إلى أوروبا 80% من الغاز الطبيعي الروسي الذي يشكل ربع الاستهلاك الأوروبي، ولذلك فهي تحوز على أهمية بالغة بالنسبة لأوروبا. وبعد أن أصبحت بولندا عضواً في الاتحاد الأوروبي 2004 ثم انضمت رومانيا وبلغاريا للاتحاد 2007م، أصبحت أوكرانيا جارة لدول الاتحاد الأوروبي، وذات أهمية كبرى بالنسبة للاتحاد الأوروبي، فهي من جانب تعتبر جسراً بين أوروبا وروسيا، ومن الجانب الآخر تعتبر منطقة عازلة فيما بينهما، - كذلك فان أوكرانيا بالنسبة للولايات المتحدة الأميركية تمتاز بأهمية حيوية وجيوسياسية وجيواستراتيجية خاصة تبدأ - بمحاصرة منطقة النفوذ الروسي. وكذلك فإن موانئ أوكرانيا مهمة للحلف الأطلسي وبوارجه عند دخولها البحر الأسود. كما أن النفوذ الأمريكي في أوكرانيا يعني نزيفًا مستمرًّا لخاصرة روسيا ووسيلة ضغط عليها لعدم عرقلة مشاريع أمريكا في المنطقة وبخاصة الشرق الأوسط) ومنطقة اوراسيا ذات الأهمية التاريخية والجيوسياسية على رقعة الشطرنج الدولية.

ويعترف بريجنسكي أن الغرب، وخاصة الولايات المتحدة، قد تأخر في إدراك الأهمية الجيوبوليتيكة لأوكرانيا كدولة منفصلة، وبقي ذلك حتى منتصف التسعينيات حيث أصبحت أميركا وألمانيا من الداعمين الأقوياء لهوية كييف المنفصلة. فبدون أوكرانيا، لا يمكن لروسيا إعادة أمجاد الإمبراطورية الروسية او أمجاد الاتحاد السوفيتي كما أن الطوق الاوراسي لن يكن خيارًا قابلا للحياة، يقول بريجنسكي (إن الوقت ليس مبكرًا جدًا للغرب الذي يحسن ويعزز ارتباطاته الاقتصادية والأمنية بكييف ليبدأ بتحديد العقد-أي-الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وتاليا إلى حلف شمال الأطلسي بين العامين 2005 و ٢٠١٥ على أنه الإطار الزمني المعقول لبدء الضم التدريجي لأوكرانيا، مما يقلل المخاطرة المتمثلة بأن الأوكرانيين يمكن أن يخشوا من أن توسع أوروبا سوف يتوقف عند الحدود البولونية الأوكرانية.

وتطرقت في دراسة لي تحت عنوان قراءة في إستراتيجية الأمن القومى الروسي (2011 – 2020) إلى تحليل إستراتيجية الأمن القومي الروسي للفترة من 2011 – 2020 م وهي وثيقة اعتمدها رسميا وصادق على محتوياتها وبنودها وتوجهاتها الرئيس الروسي ديميتري ميدفيديف بمرسوم صدر بتاريخ 12 / 5 / 2009م، وهي تقريبا نسخة شبه معدلة ومنقحة عن السياسة القومية الروسية للعام 1997م، كما يمكن الرجوع في هذا السياق إلى دارسة لنا تحت عنوان: رؤية إلى العقيدة العسكرية الروسية (2011 ـ 2015) والمنشورة في العام 2010م.

وأشارت تلك الدراسات إلى ما مفاده: أن روسيا الاتحادية لا تخفي في هذه الوثيقة – إستراتيجية الأمن القومي - قلقها المتزايد والمستمر من الهيمنة الأميركية ومساعيها الدائمة لاستفزازها في مناطق نفوذها ومصالحها الإستراتيجية العالمية، وكذلك دور الشركات النفطية الأميركية والأوربية العابرة للقارات في تلك البقعة من العالم، والتي لا تمثل أكثر من أسلوب للهيمنة والسيطرة الجيوسياسية لتلك الدول التابعة لها، وانعكاس كل ذلك على منطقة اوراسيا ما يمكن أن يؤدي إلى تفاقم النزاعات الإقليمية الموجودة أصلا، والإخلال بتوازن القوى القائم بالقرب من حدود روسيا الاتحادية وحلفائها، وبالتالي احتمال نشوء نزاعات سياسية وعسكرية جديدة.

وتؤكد هذا التوجه العقيدة العسكرية الروسية 2011-2015م سالفة الذكر والتي تشير إلى: تبني مختلف الأفكار التي كانت حاضرة في الإستراتيجية العسكرية الروسية الثانية (2005 ـ 2009)، إلا أن الإستراتيجية الجديدة قد تبنت بعض الخيارات الإستراتيجية العسكرية الاستثنائية كخيار إقدام روسيا على توجيه ضربات نووية استباقية، وإمكانية استخدام القوات العسكرية الروسية خارج الدولة، وتوسيع المناطق الحدودية لروسيا من مسافة خمسة كيلومترات إلى خمس عشرة كيلومتر وخاصة في الجهات الغربية لروسيا، وبهذا تعود المنطقة الحدودية الروسية إلى ما كانت عليه في زمن الاتحاد السوفييتي، وقد أحدث هذا القرار ردود فعل قوية لدى واشنطن ولدى دول أوروبا الشرقية المجاورة لروسيا، ويدور النقاش أيضا حول البند الذي يجيز استخدام الأسلحة النووية في النزاعات المحلية في حالة وجود تهديد بالغ الخطورة على الأمن القومي الروسي.

وفي هذا السياق كتب إيليا كرامنيك، المعلق العسكري لوكالة نوفوستي الروسية للأنباء حول نوعية تلك النزاعات التي تمثل تهديدا بالغ الخطورة للأمن القومي الروسي؟ وعلى أساسها فقد تم تبني العقيدة العسكرية الإستراتيجية الروسية الثالثة التحليل التالي: (بإلقاء نظرة إلى جيران روسيا في الساحة السوفيتية سابقا نستطيع أن نتخيل نشوب نزاع مع جمهوريات البلطيق السوفيتية سابقا لأنها أصبحت أعضاء في حلف شمال الأطلسي، غير أن احتمال نشوب مثل هذا النزاع ضئيل جدا، وإذا افترضنا أن يندلع نزاع بين روسيا وهذه الجمهوريات فلن نستطيع أن نتخيل أن تستخدم روسيا السلاح النووي في ضرب هدف ما في أراضي بلدان الجوار القريب، وبالتالي فإن أهداف السلاح النووي الروسي في الحرب الافتراضية ستكون ـ على الأرجح ـ خارج منطقة البلطيق، والأغلب ظنا أنه لا يمكن إلا لحرب واسعة النطاق أن تمثل تهديدا حرجا لأمن روسيا يستوجب اللجوء إلى استعمال السلاح النووي دفاعا عن الذات، علما بأنه بعدما شن الناتو عمليته الحربية على يوغوسلافيا استقر رأي روسيا على أنها لن تقدر على صد عدوان محتمل يأتي من الغرب إلا عندما تستخدم السلاح النووي).

وفي الواقع، فإن علاقة أوكرانيا بأوروبا والولايات المتحدة الأميركية يمكن أن تكون نقطة الانعطاف لروسيا ذاتها. وعلاقتها الجيوسياسية المستقبلية مع جميع أطراف النزاع، سواء المباشرة او غير المباشرة، وهو ما صرّح به رئيس مجلس الأمن القومي الروسي نيقولاي باتروشيف بقوله: أن واشنطن تستخدم الأحداث في أوكرانيا لجرّ روسيا إلى نزاع عالمي وإضعافها وتفكيكها. بمعنى أن خيار أوكرانيا لصالح أوروبا سوف يحدد قرار روسيا في ما يتعلق بالمرحلة التالية من تاريخها: فإما أن تكون جزءًا من أوروبا أيضًا أو تصبح دولة أوراسية، فلا هي من أوروبا ولا هي من آسيا، بل تغوص في وحل نزاعات " الخارج القريب " وهو مصطلح أطلقه بريجينسكي على الدول الآسيوية القريبة من روسيا والتي كانت ضمن الاتحاد السوفيتي السابق.

وتدخل الروسي في اوكرانيا لصالح اوسيتيا الجنوبية هو اقرب مثال على ذلك في العام 2008م، ما عد رسالة واضحة لرفض النفوذ والتدخل الغربي في هذه البقعة من العالم، وعدم قبول روسيا لحشرها في زاوية التهميش او اللامبالاة بمصالحها الجيوسياسية، وهو أمر نبه لها في حينها وقبل ذلك الكثير من المراقبين والمحللين الدوليين كهنري كيسنجر وجورج شولتز، وزيرا الخارجية الأميركيين الأسبق على صفحات الرأي بجريدة واشنطن بوست بقولهما: يجب ألا ” تقوم الولايات المتحدة الأميركية بعزل ‏روسيا ” أو جرها إلى ” المواجهة “، وهي حقيقة لا بد أن تدركها الولايات المتحدة الأميركية وبقية دول العالم ‏المعنية كأوربا مثلا، وإلا فإن النتيجة بالطبع لن تكون مقبولة للعالم عموما، والولايات المتحدة الأميركية بوجه ‏خاص، فهناك في روسيا تحديدا من ينتظر أي ثغرة لإشعال المواجهة والصدام بين الدولتين النوويتين، ‏وتحديدا المتشددين الروس المؤيدين لفكرة القوة العظمى، والذين طالما رفعوا أصواتهم وهم ينشدون أناشيدهم ‏القديمة والمتعلقة بعدم الجدوى من التعاون مع الولايات المتحدة الأميركية، والتي وصفوها في أكثر من موقع ‏ببائعة الهواء ـ مقالنا: رسائل روسية ولكن ليست من ورق.

إذا فردود فعل وتصرفات روسيا بوتين حيال أوكرانيا وشبه جزيرة القرم لا يجب أن تعد بالخطوات المفاجأة او المستبعدة أبدا، فبوتين وبطريقة أخرى يسعى لإعادة بناء أنقاض إمبراطورية منهارة من جهة ويقف في محاولات الغربية بوجه عام والإمبراطورية الأميركية على وجه الخصوص للتوغل في البيت الروسي القديم من جهة أخرى، ولا نتصور أن يتراجع بوتين عن توجهه هذا لا اليوم ولا في المستقبل، بل ونتصور انه سيقف سواء بالقوة العسكرية او السياسية في مواجهة كل دول الاتحاد السوفيتي السابق والتي تحاول الاندماج مع أوروبا او وضع الجلباب الأميركي ـ الأوروبي عليها. وبعد كل ما تقدم عن أهمية أوكرانيا فلن يكون مفاجئا أن تتعامل روسيا مع هذا الملف كما لم تتعامل مع غيره، وبالمقابل فان الولايات المتحدة لن تترك وسيلة دون أن تكسب الصراع على أوكرانيا حتى لو اقتضى ذلك أن يعتلي كرسي الحكم هناك أقصى القوميين المتطرفين (حزب القطاع الأيمن) بل وحتى النازيين الجدد (سفوبودا).

عقبات ما بعد اتفاقات مينسك:

بالرغم من توصل القادة الأوروبيون والرئيسان الروسي والأوكراني إلى الاتفاق في مينسك على فرض وقف إطلاق نار، وإقامة منطقة منزوعة السلاح موسعة في أوكرانيا غير أن المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل حذَّرت من عقبات كبرى لا تزال قائمة في ختام مفاوضات ماراثونية، أما الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند، فاعتبر أن اتفاق مينسك لا يضمن نجاحاً دائماً مؤكداً أن الساعات المقبلة حاسمة بالنسبة لمصير الاتفاق، وقال رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون: إن العقوبات التي يفرضها الاتحاد الأوروبي على روسيا بسبب الصراع في أوكرانيا لا يجب رفعها إلا في حال غير الرئيس الروسي سلوكه، مؤكداً أن ما يعنينا أكثر من أي شيء هو في الواقع الأعمال على الأرض، وليس مجرد كلمات على قطعة ورق.

وقد شبه المحلل السياسي الروسي المستقل سيرغي ميخييف، ميركل وهولاند ومعهما وزير الخارجية الأميركي جون كيري ورئيس الوزراء البريطاني بفرقة إطفاء هرعت لإنقاذ الرئيس الأوكراني بيترو بوروشينكو. ويؤكد ميخييف أن أسبوعين أو ثلاثة أخرى من المعارك الناجحة، ستكون كافية لانهيار النظام الجديد في كييف. وهو ما يجعل من ذلك الاتفاق أشبه بمريض في غرفة الإنعاش احتمال موته اقرب بكثير من استمراره في الحياة، إذا أين تكمن تلك العقبات في طريق الاتفاق الهش والمريض سالف الذكر؟

العقبة الأولى: أن الرئيس الروسي لم يوقّع شيئاً عملياً، واقتصر الأمر بينه وبين الأوروبيين وكييف على إعلان دعم للنص الذي وقّعه المتمردون الانفصاليون وموفدو كييف برعاية روسيا ومنظمة الأمن والتعاون في أوروبا، وتكتيكياً، بوتين ـ وبفضل المبادرة الفرنسية الألمانية ـ يربح الوقت، على أي حال، بانتظار أن تصبح الحالة الاقتصادية في أوكرانيا على شفا الانهيار، ما سيؤدي عاجلاً أو آجلاً إلى اندلاع انتفاضة جديدة ضد السلطات الأوكرانية الحالية.

العقبة الثانية: استمرار الخلاف بين الأوروبيين بشأن العقوبات التي فرضها الاتحاد الأوروبي على روسيا؛ فإسبانيا مثلاً، وبعكس بولندا وبريطانيا، اللتين تؤيدان تأجيج النزاع في دونباس وتوريد الأسلحة إلى القوات الأوكرانية، تقف ضد العقوبات، التي كلفت القارة العجوز 21 مليار دولار من الخسائر، وفق وزير الخارجية الإسباني.

العقبة الثالثة: كما سبق واشرنا فانه لا ينبغي نسيان استمرار محاولات الجانب الأميركي والتي لن تكل لتسعير النزاع في البيت الأوروبي، ولا سيما أن التبادل التجاري بين الولايات المتحدة والاتحاد الروسي لا يتعدى 10 مليارات دولار، وزحف الناتو شرقاً لا يزال جارياً على قدم وساق إلى حدود روسيا، وفي ضوء ذلك، صرّح رئيس مجلس الأمن القومي الروسي نيقولاي باتروشيف أمس بأن واشنطن تستخدم الأحداث في أوكرانيا لجرّ روسيا إلى نزاع عالمي وإضعافها وتفكيكها، وربما لذلك جاءت مبادرة ميركل وهولاند في هذا الوقت بالذات، لأن السياسيين الأوروبيين أدركوا في نهاية الأمر أن الوضع الدولي قد يخرج عن السيطرة بفعل الغرور الأميركي، وبخاصة في ضوء تذكير بوتين غير مرة بأن روسيا دولة نووية ولن تخضع للابتزاز، وأن الأوروبيين هم الذين سيدفعون الثمن.

العقبة الرابعة: انقسام الداخل الأوكراني وضعف قدرته على التوحد من جهة، وسيطرة الانفصاليين على الحدود بين أوكرانيا وروسيا – شرق اوكرانيا خصوصا - والتي يقول الغرب إنها معبر لتمرير السلاح لهم، ووجود عدد كبير من الأسرى من العسكريين والجيش الأوكراني لدى الانفصاليين.

العقبة الخامسة: استمرار الدعم الأمريكي والروسي المتواصل بطرق مباشرة او غير مباشرة لطرفي النزاع معنويا وعسكريا او من خلال ممارسة الضغوط عليهما في الداخل او الخارج الأوكراني، وخصوصا الجانب الروسي، مع محدودية الدعم العسكري الأمريكي للجانب الأوكراني، فليس هناك ما يمكن لواشنطن أو الناتو القيام به لأوكرانيا لمنحها قدرة مستقلة على طرد الانفصاليين الأوكرانيين المدعومين من روسيا. ومحاولة الإقدام على ذلك سيتبعها تدخل خارجي على الجانبين.

رؤية استشرافية لمستقبل الصراع في اوكرانيا:

من خلال ما سبق ذكره، ونتيجة لتضارب المصالح والنفوذ الجيوسياسي على رقعة الشطرنج الاوراسي بوجه عام والأوكرانية خصوصا، حيث تعد الأزمة الأوكرانية فتيل ساخن وملتهب في حرب تعيد إلى الأجواء ما يشبه الحرب الباردة بين قطبي الصراع العالمي الولايات المتحدة الأميركية والغرب من جهة وروسيا من جهة أخرى، وفي ظل وجود عقبات حقيقية سواء سياسية او عسكرية او غير ذلك، ورغم أنني لا استبعد على المدى القصير حدوث انقلاب عسكري جديد في البيت الأوكراني على السلطة التي وصلت إلى الحكم بانقلاب هي الأخرى نتيجة استمرار الصراع رغم التدخلات والوساطة الدولية، واستمرار سيطرة الانفصاليين على مناطق ونفوذ واسع في شرق اوكرانيا، تحول دون التوصل إلى هدنة سريعة او قابلة للاستمرار طويلا في ظل التشنج وانعدام الثقة بين جميع أطراف الأزمة الأوكرانية في الداخل والخارج، فإننا نغلب وفي أحسن الظروف طغيان الحلول السلمية في الأزمة الأوكرانية على الحسم العسكري او التدخل الروسي او الغربي المباشر لما لذلك من انعكاسات خطيرة على المنطقة العالم بأسره، ولكن من خلال تغليب مطالب ومصالح الانفصاليين بشكل او بآخر في المناطق الشرقية من اوكرانيا سواء كان ذلك بالانفصال والحكم الذاتي، إلا انه وعلى المدى المتوسط فان أزمات اوكرانيا ستستمر وتتفاقم، وستستمر التدخلات الروسية الأمريكية في شانها الداخلي.

* باحث في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق