سياسات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تقوِّض المنظومة العلمية الأمريكية، وتنهش في كيان عدد من المؤسسات الدولية. في ضوء ذلك، يتحتم على مجتمعات البحث العلمي في شتى أنحاء العالم أن تتبنى موقفًا حازمًا إزاء هذه الهجمة...

سياسات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تقوِّض المنظومة العلمية الأمريكية، وتنهش في كيان عدد من المؤسسات الدولية. في ضوء ذلك، يتحتم على مجتمعات البحث العلمي في شتى أنحاء العالم أن تتبنى موقفًا حازمًا إزاء هذه الهجمة.

مضى شهر على بدء ولاية دونالد ترامب الثانية كرئيس للولايات المتحدة. وفي خطاب موجه للرئيس الجديد ولإدارته، حثتهما دورية Nature، على البناء على إرث الولايات المتحدة وإنجازاتها في مجال العلوم، وعلى زيادة الدعم الموجه للبحث العلمي من أجل تحقيق الرخاء والأمن (Nature 637, 517; 2025). إلا أنَّ الإدارة الجديدة آثرت أن تسلك مسلكًا مغايرًا؛ شنت فيه هجمة منقطعة النظير على المجتمع العلمي، والمؤسسات البحثية، وعلى عدد من المبادرات والمنظمات الدولية الحيوية.

فبعد تأدية ترامب اليمين الدستوري رئيسًا للولايات المتحدة في العشرين من يناير الماضي، ما لبث أن وقع على العديد من الأوامر التنفيذية التي تقضي بإلغاء أو تعليق تمويلات تقدر بعشرات المليارات من الدولارات المخصصة للأبحاث العلمية والمساعدات الخارجية، فضلًا عن التصديق على عمليات تسريح للآلاف من لموظفين. كذلك فرضت إدارة ترامب قيودًا قمعية على الأبحاث العلمية، منها حظر الدراسات التي ترد فيها كلمات محددة متعلقة بالهوية الجنسية والهوية الجندرية، والانتماء العرقي، والإعاقة، وغيرها من جوانب هويات الأفراد التي تخضع للحماية من التمييز بموجب قانون المساواة.

وقد ضربت الجامعات والوكالات الفيدرالية الأمريكية فوضى، إذ يعيش الآلاف من الباحثين حالة من الارتباك والتوجس، فيما ينتظرون إلغاء قرارات ثار بشأنها الكثير من الجدل بتعليق عدد من التمويلات البحثية. كذلك جرى إيقاف عدد من برامج المساعدات الأمريكية التي يستفيد منها ملايين الأشخاص حول العالم.

ويصعب على الكلمات وصف مدي الضرر الذي بدأ يلحق بالمشروعات البحثية الأمريكية بما تمثله من قيمة لا تقدر تقريبًا بثمن للدولة والعالم بأسره. من هنا، بدأت تتوالى ردود أفعال من بعض المنظمات الممثلة للمجتمعات العلمية حول العالم. لكن يتعين على المزيد من أفراد المجتمع العلمي إبداء الدعم لأقرانهم في الولايات المتحدة. ولا بد أن تعي المجتمعات العلمية والتعليمية الأمريكية أنها ليست وحدها في هذا المأزق. إذ إنَّ أي اعتداء على العلم والعلماء في أي بقعة من العالم، هو اعتداء على المنظومة العلمية في جميع أنحاء العالم.

لذا، أخذت منظمات وأفراد في الطعن في بعض إجراءات إدارة ترامب في المحاكم القضائية، ولعل البيت الأبيض يُرغم في نهاية المطاف على تخفيف وطأة بعض قراراته أو العدول عنها. إلا أنَّ إدارة ترامب تسلك مسارًا واضحًا، دافعه الحط من قيمة الأدلة العلمية المستقلة، إن لم يكن القضاء تمامًا على الارتكاز عليها وعلى مشورة الخبراء، وتجاهل الاتفاقيات الدولية وضرب عرض الحائط بها.

جحيم على المؤسسة العلمية

أخذت الإدارة الأمريكية في فصل موظفي الحكومة الفيدرالية العاملين في وكالات وطنية محددة، بما فيها الوكالات التي توظف الباحثين وتعتمد على الأبحاث العلمية، غالبًا في التخصصات التي تلعب دورًا محوريًا في حماية الصحة العامة، والبيئة، وأمن الأفراد، وأمانهم. وعلاوة على ذلك، شرعت الإدارة في اتخاذ إجراءات مفاجئة وحاسمة لتقليص الإنفاق الحكومي، ما أثر على جهات تشمل مؤسسات مرموقة عالميًا، مثل هيئة المراكز الأمريكية لمكافحة الأمراض والوقاية منها، ووكالة حماية البيئة الأمريكية، وهيئة معاهد الصحة الوطنية الأمريكية (NIH). كما قضت الإدارة بتعليق اجتماعات لجان النظر في طلبات المنح البحثية المقدمة إلى هيئة معاهد الصحة الوطنية مع بداية رئاسة ترامب، ولا تزال معلقة حتى يومنا هذا. كذلك طال تأثير تلك الإجراءات إدارة المحفوظات والسجلات الوطنية الأمريكية، المسؤولة عن حفظ السجلات الرسمية للدولة، وامتد أيضًا ليشمل المتاحف والمكتبات العامة.

أما على الصعيد الدولي، فقد تنجم عواقب وخيمة عن قرارات الإدارة بالانسحاب من عدد من الالتزامات طويلة الأمد أو تقليص هذه الالتزامات إلى حد كبير. فالولايات المتحدة هي، في العادة، المساهم الأكبر في المبادرات العالمية المرتبطة مباشرةً بأهداف الأمم المتحدة للتنمية المستدامة (وهي الخطة العالمية للقضاء على الفقر وتحقيق الاستدامة البيئية). وإضافة إلى ذلك، تسهم الدولة بحوالي خُمس الميزانية الأساسية لمنظمة الصحة العالمية، التي أخطرها ترامب بالفعل باعتزامه الانسحاب منها. ورغم أنَّ انسحاب الولايات المتحدة من هذه المنظمة لن يصبح رسميًا قبل العام القادم، أمر المدير العام لها، تيدروس أدهانوم جيبريسوس، بتعليق أي رحلات غير ضرورية لأكثر من 8000 موظف في المنظمة.

ألغى ترامب أيضًا الدعم الفيدرالي الأمريكي المخصص لتمويل مشروعات العمل المناخي الدولية، والذي كان حجمه قد بلغ نحو 11 مليار دولار أمريكي في عام 2024، ما يمثل حوالي 10% من حجم التمويلات السنوية الحكومية العالمية الممنوحة لهذه المشروعات. وقد شكل هذا القرار، إلى جانب قرار الرئيس بانسحاب بلده من اتفاق باريس للمناخ لعام 2015، ضربة قوية لجهود التصدي للتغيرات المناخية، كما أنّه سيعرقل الجهود الرامية إلى زيادة التمويل الذي تتلقاه الدول الأكثر تأثرًا بالاحترار العالمي.

تجميد المساعدات

ما لا يقل عن مليون سيدة حول العالم فقدن حق الحصول على خدمات الرعاية المرتبطة بمنع الحمل، بسبب التجميد "المؤقت" للتمويل الذي تقدمه الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID) لفترة تبلغ 90 يومًا. وجدير بالذكر أن الوكالة هي أكبر جهة ممثلة للبلد في منح المساعدات العالمية، بما في ذلك المساعدات العلمية. فعلى سبيل المثال، عام 2023، رصدت الولايات المتحدة مساعدات دولية قدرها 72 مليار دولار أمريكي، أسهمت الوكالة فيها بنحو 60% من قيمة هذه المساعدات.

وأغلب أعضاء طاقم الوكالة، الذين يتجاوز عددهم 10 آلاف موظف، أُعفوا من مهامهم. كما أصبحت معظم مبانيها، إن لم تكن كلها، مغلقة الآن، وكذلك موقعها الإلكتروني. ورغم أنًّ البرامج المعنية بإنقاذ الأرواح في الوكالة، من الناحية التقنية، لم تطالها مباشرة أي تغييرات، فمن الناحية العملية، ما يضمن استمرار تدفقات التمويلات التي تغذيها، من العمالة أو الأنظمة المالية الفاعلة، يكاد يكون منعدمًا. والتمويلات التي تُقدم في إطار «خطة الرئيس الأمريكي الطارئة للإغاثة من مرض الإيدز» - التي رَصَدت أكثر من 100 مليار دولار أمريكي منذ عام 2003 للوقاية من فيروس نقص المناعة البشرية ومرض الإيدز وعلاجهما - لم يُحسم أمرها بعد.

وقد تسهم تلك الإجراءات، مجتمعةً، في الحد من ازدهار المجتمع الأمريكي ومجتمعات أخرى حول العالم وتعزز مخاطر تهددهما.

إلغاء السياسات الداعمة للتنوع الطيفي

يقضي أمر تنفيذي آخر للإدارة بإلغاء سياسات ومبادرات تحقيق التنوع الطيفي والإنصاف واستيعاب شتى الطوائف، وهي سياسات وصفتها الإدارة بأنها غير قانونية وراديكالية، ومهدرة لموارد الدولة، في وصف يجافي الصواب. فإلغاء المبادرات الحكومية، التي تهدف إلى خلق بيئة تتسع لجميع الطوائف وترحب بها، ووقف التمويل الفيدرالي المخصص لدراسة هذه القضايا، قد يكون مما لا يحمد عقباه. وبالمثل، ليس هناك ما يسوغ إلغاء السياسات والتمويلات الموجهة لمساندة المبادرات التي تقر بمدى تعقيد قضايا النوع الجنسي والجندر، وهي سياسات نعتتها إدارة الرئيس بأنها ضرب من "التطرف الأيدولوجي فيما يخص النوع الجندري"، وهذا بدوره وصف يجانب الصواب.

وتمثل هذه القرارات انتهاكًا غير مقبول لحقوق المواطنين وللحرية الأكاديمية، إذ إنَّها تكبح، إن لم تمح، مسيرة قوامها عقود من التقدم في الأبحاث العلمية. وفي جميع أنحاء العالم، يتفق الباحثون على أهمية البيانات الأكثر دقةً وتفصيلًا لتحقيق أهداف التنمية المستدامة. كما إننا نعي أن تضمين قضايا النوع الجنسي والجندر في تصميم الأبحاث يسهم في تقدم المجالات العلمية والطبية، بما في ذلك مجالي التشخيص والعلاج.

وتتباين آراء الباحثين في كافة المجالات العلمية. ولذلك، فإنَّ الحل الأمثل للوصول إلى فهم مشترك هو إجراء نقاش علمي والمزيد من الدراسات. ومن ثم، فإن وقف المنح الدراسية لا يشكل حلًا.

كيف لنا أن نتصدى لهذه القرارات؟

كيف إذن للكيانات التي تعد جزءًا من المنظومة العالمية للتعليم والصحة والعلوم والهندسة أن تتصدى لتلك القرارات؟ إحدى الأولويات في هذا الإطار تتمثل في ضرورة التنديد بهذه الإجراءات، وفضح آثارها السلبية، ودعم الباحثين وحماية حقهم في العمل وإجراء الأبحاث دون خوف على مستقبلهم الوظيفي. فمما يمكن تفهمه أن يشعر العاملون في الوكالات الفيدرالية، أو حتى القائمون على إداراتها، بعدم القدرة على التعبير عن آرائهم، إلا أنَّ الباحثين المنتمين لمنظمات أخرى، مثل الجامعات، والجمعيات العلمية، والشركات، والنقابات العمالية، والجماعات الحقوقية يتمتعون بحرية أكبر. ولذلك، عليهم استخدام هذه الحرية لإظهار الدعم لزملائهم المتأثرين بهذه القرارات.

وعلى المنظمات العلمية العالمية - بما فيها تلك الممثلة لشباب الباحثين والأكاديميات العلمية والباحثين الذين يواجهون تهديدات حول العالم- أن تبدي الدعم في هذا الإطار. فنحن نحث جميع هذه الجهات على إعلان دعمها لنظيراتها في الولايات المتحدة، والدفاع عن أهمية الأبحاث التي تجريها، كعهدها في الدفاع عن الباحثين المعرضين لتهديدات في مناطق أخرى من العالم.

إن رسالة دورية Nature هي "أن تدعم الباحثين من خلال النشر السريع للإنجازات العلمية البارزة في مختلف الفروع العلمية، وأن تخدم كملتقًى لعرض الأخبار والقضايا العلمية ومناقشتها". فعلى مدار تاريخنا الذي يمتد إلى 155 عامًا مضت، كانت الولايات المتحدة هي الرائدة عالميًا في مجال البحث العلمي، بما تقدمه من دعم مالي للبرامج التعليمية وتدريب في مجال العلوم، ما أسفر عن منافع جمة لها وللعالم أجمع. وفي ظل التغييرات الجارية الآن، يبدو أنَّ الإدارة الجديدة تميل إلى طمس هذا التاريخ، غير مكترثة بأهميته. ونحن في دورية Nature، ندين هذا الهجوم على العلم، ونحث المجتمعات البحثية العالمية، متى أمكنها، على التعبير عن معارضتها له.

هذا ترجمة المقال الإنجليزي المنشور في دورية Nature بتاريخ 25 فبراير عام 2025.

اضف تعليق