ان معضلات التحول الديموقراطي لن تُحل إلا بالمزيد من الديمقراطية، وفي طريقة التعاطي مع أسس وقيم هذه الديمقراطية، من كونها حلاً اضطرارياً إلى كونها قيمة ثابتة، ومن اعتبارها استثناء إلى قاعدة، وهذا يعني توفُّر البُـنى التحتية لتلك المفاهيم حتى تجد طريقها إلى الممارسة والتطبيق...
لا يخلو تاريخ الشعوب والأمم من محطات تاريخية مـُفصلية، هي بمثابة مفترق طرق في حياة هذه الشعوب، وعادةً ما يترتب على ذلك تحولات مصيرية، سياسية، واقتصادية، واجتماعية، سيكون لها أثر واضح في حاضر ومستقبل أبنائها. وهذا الحال ينطبق تماماً على ما جرى ويجري الآن في العراق، فبعد سقوط الصنم ورفع الكابوس، الذي خيَّم على هذه البلاد لعقود، كان لا بد من اتخاذ الإجراءات والقرارات الجريئة والمدروسة لتصفية التركة الثقيلة التي أورثها النظام المباد، وهذا الأمر كان ولم يزل يمثل أولوية على اعتبار ان أي عمل أو تطور لاحق لايتحقق إلا بتحقيق هذه الأولوية، لذلك أصبح من البداهة التي لا تقبل المساومة أو التأجيل.
واليوم وبعد مضي أكثر من عقدين على أسقاط النظام، لا يزال النقاش مُحتدماً بين أهل العراق حول ماحصل في التاسع من نيسان عام 2003، وهل ماحصل هو تحرير يفترض الاحتفال به أم احتلال يجب مقاومته، ويبدو أن هذا الجدل البيزنطي سوف يستمر ويتجدد مع حلول هذه الذكرى.
لكن ما يهمنا في هذه المناسبة هو واقع الديمقراطية بعد عملية التغيير، وكيف تبلور هذا المفهوم في النهج والسلوك السياسي والاجتماعي. ومن خلال قراءة مستفيضة للواقع السياسي، والاجتماعي، والثقافي، يبدو لنا بوضوح أن الديمقراطية بكل ما تعنيه من مفاهيم وقيم مدنية وحضارية لم تختمر بعد في أذهان بعض القوى السياسية، وكذلك الحال مع فئات اجتماعية مختلفة، وهذا ما ظهر جليّاً من خلال الحراك السياسي الذي أعقب عملية التغيير.
فقد اتسمت الديمقراطية لدى هذه القوى بالارتباك في الممارسة السياسية، حتى أخذت تتناقض أحياناً مع المفاهيم الديمقراطية المعروفة، والتي هي عبارة عن نسق متكامل من القيم والمبادئ والحقوق، تُـترجم إلى ممارسات عملية بين الأفراد والجماعات والأحزاب، جوهرها الحرية والمساوات.
ومن الملاحظ أن معضلات التحول الديموقراطي لن تُحل إلا بالمزيد من الديمقراطية، وفي طريقة التعاطي مع أسس وقيم هذه الديمقراطية، من كونها حلاً اضطرارياً إلى كونها قيمة ثابتة، ومن اعتبارها استثناء إلى قاعدة، وهذا يعني توفُّر البُـنى التحتية لتلك المفاهيم حتى تجد طريقها إلى الممارسة والتطبيق.
وفي الحالة العراقية نجد أن هذه البُـنى لم تصل بعد إلى تلك الصلابة، التي يمكن من خلال بناء قواعد ثابتة وراسخة، ومن ثم الانطلاق لاستكمال المشروع الديمقراطي.
ولا شك أن هذا الأمر لم يأتِ من فراغ، بل تقف وراءه عدة عوامل ومبررات، وفي مقدمتها ذلك الإرث المتواصل من الاستبداد والديكتاتورية للنظام السياسي، الذي رافق نشوء الدولة العراقية الحديثة، والذي كان له الدور المؤثر في تقويض الأسس الديمقراطية في العراق عموماً، إضافةً إلى غياب المؤسسات والدوائر المعنية بنشر الثقافة الديمقراطية بين الأوساط المجتمعية.
كل هذه العوامل وغيرها أدت إلى نتائج غير متكاملة على الصعيد السياسي والاجتماعي، على اعتبار أن الديمقراطية هي مسارات تاريخية تراكمية، سياسية، واقتصادية، وثقافية، واجتماعية، تلتقي جميعاً لتكون نواة صلبة، يتمركز حولها الجميع، مهما اختلفت أو تنوعت اتجاهاتهم السياسية والفكرية.
إن المرحلة التي يمر بها العراق اليوم يمكن تسميتها بمرحلة التحول الديمقراطي، وهذه المرحلة كما هو معروف من أصعب المراحل التاريخية التي تمر بها الشعوب والأمم، لذا على النخب السياسية والثقافية والتربوية، نقل التصورات القيمية للديمقراطية إلى الممارسات العملية، وتطبيقها على أرض الواقع، ولكن هذا يتطلب بناء مؤسسات ونـُظم قادرة على نقل هذه التجربة الناشئة والوليدة، وكيفية الحفاظ عليها، لأن جذور الاستبداد لا تزال تعشعش في عقول البعض، وهذا البعض غير قادرعلى هظم المفاهيم الديمقراطية الحديثة، مما ينعكس سلباً على جميع مرافق الحياة، وعلى الواقع السياسي على وجه الخصوص، وبالمحصلة نحن بحاجة إلى إعادة إنتاج القيم الديمقراطية لدى هؤلاء بما يتلاءم والتحولات
الديمقراطية.
إن توطين الديموقراطية لا يتم من خلال الترويج للشعار الديموقراطي، على الرغم من أهمية هذا الشعار، بل عبر الكشف عن العوائق الحقيقية التي تقف أمام تعميق الديموقراطية، وهو مشروع ثقافي ينزع إلى إعادة إنتاج الديموقراطية في إطار الثقافة والقيم الوطنية، ويقوم بإعادة الدور إلى الناس باعتبارهم وسيلة التحول الديموقراطي وغايته الأساسية.
ومن الواضح أن تجربتنا الديمقراطية ورغم مرور أكثر من عقدين على عملية التغيير لا تزال في بداية المخاض، وأمامنا الكثير من العقبات قبل بلوغ قمة الهرم، لكن هناك من يعتقد أن ما تحقق من بناء ديمقراطي في هذه المرحلة يُعد إنجازاً مهماً يجب أن يُعتز به، بالرغم من كل المآخذ على هذه التجربة، خصوصاً إذا ما قـُـرنت هذه المرحلة مع مراحل التحولات الديمقراطية العريقة في العالم وسلم تطورها التاريخي، والتي استمرت لعدة عقود وحقب، قبل أن تستقر في النفوس، ولكن بعد أن دفعت ضريبة هذا الاستقرار.
وبطبيعة الحال فإن تحقيق هذا الهدف ليس بالأمر الهيِّن، بل يتطلب أسساً قانونية ودستورية واضحة، إضافةً إلى أرضية صالحة حتى تتبلور تلك المفاهيم الديمقراطية في بلادنا، ونعتقد أن أفضل بيئة ملائمة يمكن أن تُستثمر بشكل صحيح هي المؤسسات الإعلامية، والثقافية، والتربوية.
اضف تعليق