إن فَهْم الكيفية التي تحصل بها المجتمعات البشرية على الموارد المحلية، وإدارتها، خاصة النباتات المستخدمة في الطعام والدواء، يُعَدّ عاملًا حاسمًا في التأكيد على أن هذه المجتمعات بإمكانها العيش والاستفادة من نظامها البيئي المحلي بطريقة مستدامة. وتُعَدّ دراسة تلك التفاعلات المعقدة بين النباتات والبشر هدف التخصص العلمي المعروف باسم النبات العرقي...
إن فَهْم الكيفية التي تحصل بها المجتمعات البشرية على الموارد المحلية، وإدارتها، خاصة النباتات المستخدمة في الطعام والدواء، يُعَدّ عاملًا حاسمًا في التأكيد على أن هذه المجتمعات بإمكانها العيش والاستفادة من نظامها البيئي المحلي بطريقة مستدامة. وتُعَدّ دراسة تلك التفاعلات المعقدة بين النباتات والبشر هدف التخصص العلمي المعروف باسم "النبات العرقي" ethnobotany، الذي يستند إلى أساليب مشتقة بشكل رئيس من علم النبات وعلم الأنثربولوجيا. وتكشف أكثر الدراسات المنتمية إلى هذا التخصص العلمي أن المعرفة المحلية بمصادر المأكل والدواء تشهد تراجعًا خطيرًا، خاصة في أوروبا.
ورغم ذلك.. ذكر كويف وبيروني في ورقة بحثية نشرت بدورية Nature Plants أن النباتات البرية ما زالت تلعب دورًا أساسيًّا في المجتمعات التي تعيش على جبال كوكس، أحد أفقر مناطق ألبانيا. كما تظهر أيضًا نتائج أبحاثهم أن الحفاظ على المعرفة المحلية يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالحفاظ على التنوع الحيوي.
تقع جبال كوكس في البلقان، وهي بقعة ساخنة ذات تنوع حيوي وثقافي، عانت كثيرًا من التحولات السياسية والاقتصادية عبر العقود الثلاثة الماضية. وقد درس كويف وبيروني مجموعتين عرقيّتين مسلمتين، تسكنان منطقة ريفية، وتتمايزان لغويًّا (جماعة الغوراني والألبان)، ورغم معيشتهما متقاربتين، ومواجهتهما للظروف الاقتصادية والبيئية نفسها، ظلّتَا منعزِلَتيْن نسبيًّا عن بعضهما البعض، حيث تستخدم المجموعتان النباتات البرية بطرق مختلفة، مما أعطى الباحثين فرصة للتحقيق في دور العوامل الثقافية في تشكيل كيفية فهم واستخدام النباتات المحلية في الحياة اليومية، والممارسة العلاجية، وبشكل أساسي في البقاء على قيد الحياة. ومن بين التقنيات الكَمِّية المتنوعة التي استُخدمت في الدراسة، صمَّم الباحثون أداة بسيطة مبتكرة لمقارنة التشابهات والاختلافات الثقافية بين استخدام المجموعتين للأنواع النباتية.
وقد أفاد الباحثون بوجود تفاوت كبير في أنواع النباتات المستخدَمة لأغراض طبية منِ قِبَل المجموعتين. وقد يرجع هذا إلى أن نشر الخبرات العلاجية يتطلب درجة عالية من القرب بين الأشخاص؛ لأن تجربة علاج جديد تتطلب ثقة متبادلة. فالصحة أمر حساس؛ ولذلك.. يتقبل الناس النصح بشكل أساسي من الأقارب أصحاب المعرفة، أو الأصدقاء المنتمين إلى المجموعة العرقية نفسها. كما أن هناك طرق علاج تقليدية كثيرة تحتوي على عنصر عالي الرمزية. والآليات التي يعتقدون أنه عن طريقها يتم الشفاء يمكن أن تقع ـ كليًّا أو جزئيًّا ـ في المعنى الثقافي للعلاج المستخدَم.
وجد كويفي وبيروني أن المجموعتين استَخدمتا بشكل واسع نوعين فقط من النباتات Urtica dioica وRosa canina ، وكلاهما صالح للأكل. وبشكل عام، كان هناك تشابه في النباتات الغذائية التي استخدمتها المجموعتان. وقد اقترح الباحثون أن هذا يمكن إيعازه إلى أهمية الأنواع البرية الصالحة للأكل في تأكيد الأمن الغذائي. والمعرفة المحلية القوية الخاصة بهذه النباتات تمثل المخزون المعرفي لجماعة ما؛ حيث يساعد أفرادها على مواجهة فترات المجاعة، وشح المواد الغذائية الأساسية. وعندما يكون الغذاء شحيحًا، تبدو الحدود الثقافية أقل حدة، لأن بقاء المجموعة على قيد الحياة يكون على المحك.
وتشير الدراسة إلى أن إحدى المجموعتين تستخدم بعض الأنواع النباتية للتداوي، بينما تتاجر بها الأخرى. ويُقدِّر الناس أنواع النباتات التي يستخدمونها في الحياة اليومية أكثر من تلك التي تُحصد لأجل تسويقها، وهو أمر ـ كما يشير الباحثون ـ قد يكون له عظيم الأثر في المحافظة على تلك الأنواع، وهكذا تكون علاقة المجموعة الأولى بالأنواع النباتية وثيقة بشكل أكبر. والواقع أن أنواعًا كثيرة من النباتات المستخدَمة بانتظام لها أهمية ثقافية كبيرة، ومكان بارز في الذاكرة الجماعية المحلية؛ فهي تُعَدّ جزءًا من القصص والروايات المحلية، ممثِّلةً جوهر مجتمعها، وشخصيته، وهويّته.
توضح هذه الدراسة أن القيم الثقافية لها عظيم الأثر على المعرفة المحلية التقليدية. والانتفاع المستديم من التنوع الحيوي المحلي يكون من خلال استخدام الموارد التي تُقدَّر قيمتها وجدانيًّا أكثر من تلك التي تُستخدم لأغراض غير شخصية، كأن تكون مصدرًا للدخل. وفي تقرير نُشر في العام الماضي افترض أن كثيرًا من المجتمعات الأصلية التي حافظت بنجاح على التنوع الحيوي في مجتمعاتها، فعلت ذلك عن طريق الجمع بين المعرفة الشاملة والتجريبية، في ظل إبداء احترام عميق وارتباط عاطفي بالطبيعة. ويوضح التقرير أن ميلنا إلى الحفاظ على التنوع الحيوي مردّه إلى عدد وكثافة ارتباطاتنا العاطفية. ولذلك.. إذا أُهملت الثقافة التقليدية؛ سيصبح التنوع الحيوي كذلك في خطر، كما يحدث في بعض الغابات والبيئات المقدسة التي أصبحت في طور التحول والانحلال.
ويمكن لدراسات معينة، مثل دراسة كويف وبيروني أن تساعد في دمج المعرفة الثقافية الشعبية مع الجهود الرامية إلى الحفاظ على التنوع الثقافي الحيوي. وعن طريق التركيز على وجهة نظر الناس المعتمدين بشدة على استغلال مواردهم المحلية، يمكن لهذه الدراسات أن تدعم استراتيجيات تنمية مستدامة مقبولة ثقافيًّا. ولسوء الحظ فهذا التكامل يلقى دعمًا قليلًا، كما لم يتم تقييم الآثار المترتبة عليه بشكل جيد. يتعيّن على الدراسات المستقبلية تبنِّي منهج كويف وبيروني لدى اختبار دور العوامل الثقافية في انتشار المعرفة الثقافية المحلية والحفاظ عليها، عن طريق مقارنة ماتوصّل إليه الباحثون بقواعد بيانات كبيرة مُجمَّعة من مصادر ومجتمعات في مناطق أخرى من العالم.
وأخيرًا، فقد دلَّل الباحثون على أن الطرق الكمية في تحليل البيانات الخاصة بعلم النبات العرقي يمكن أن تقود إلى فهم أعمق داخل هذا التخصص العلمي. ونقترح أن تُستَكشَف الطرق الكمية في البحث بشكل أكبر. فعلم النبات العرقي يلعب دورا رئيسًا في الدراسات حول كيفية استفادة المجموعات العرقية وتعايشها مع نظامها البيئي. وينبغي على السياسيين وصنّاع القرار أن يهتموا بوجهات نظر وتقاليد المجتمعات المحلية خاصة في المناطق الريفية التي تعاني من عدم الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي.
اضف تعليق