تمكَّن علماء من مختبر بروكهافن الأمريكي التابع لوزارة الطاقة الأمريكية من تقديم أدلة تجريبية ونظرية تحل لغزًا من ألغاز علوم المواد، ألا وهو لماذا تتقلص بعض المواد البلورية عند تسخينها؟ على عكس المواد التقليدية التي تتمدد بالحرارة وتنكمش بالبرودة، ويُمكن أن يؤدي حل ذلك اللغز إلى العديد من التطبيقات في مجالات عدة...
بقلم: محمد منصور
تمكَّن علماء من مختبر "بروكهافن الأمريكي" التابع لوزارة الطاقة الأمريكية من تقديم أدلة تجريبية ونظرية تحل لغزًا من ألغاز علوم المواد، ألا وهو لماذا تتقلص بعض المواد البلورية عند تسخينها؟ على عكس المواد التقليدية التي تتمدد بالحرارة وتنكمش بالبرودة.
ويُمكن أن يؤدي حل ذلك اللغز إلى العديد من التطبيقات في مجالات عدة، كالطب، والإلكترونيات، وغيرها من المجالات، وربما يوفر أيضًا نظرة جديدة إلى الطريقة التي تعمل بها الموصلات الفائقة (وهي المواد التي تنقل التيار الكهربائي دون أي فقد في الطاقة).
قام العلماء بقياس المسافات بين الذرات في بلورات فلوريد السكانديوم –وهي مادة يُعرف أنها تنكمش بالحرارة- ليكتشفوا وجود نوع جديد من الحركة الاهتزازية التي تربط جوانب البلورات ذات الشكل المكعب –والتي تبدو صلبة- عند تسخينها. مما يجعل تلك الذرات يقترب بعضها من بعض، فينكمش فلوريد السكانديوم عنده تسخينه.
تقول قاعدة علمية معروفة إن المواد تتمدد بالحرارة وتنكمش بالبرودة، فعادةً، مع ارتفاع درجات الحرارة تكتسب المادة طاقة، ما يؤدي إلى تزايُد الاهتزازات في المسافات البينية الذرية، ما يجعل الحجم الكلي للمواد يتمدد لاستيعاب تلك الحركة الاهتزازية.
ومع ذلك لا تنطبق تلك القاعدة على بعض المواد المرنة، بما في ذلك البوليمرات كالبلاستيك والمطاط. ففي تلك المواد، المكونة من مجموعة من السلاسل تُسمى كل واحدة منها بالبوليمر، تزيد الحرارة من الاهتزازات بشكل عمودي على طول سلسلة البوليمر، ما يؤدي إلى اقتراب الوحدات البنائية للمادة بعضها من بعض، الأمر الذي يجعلها تنكمش بالحرارة (لاحظ قطعة البلاستيك حين إشعال النار فيها).
ولكن، ماذا عن فلوريد السكانديوم، وهي مادة ذات بنية بلورية صلبة ومكعبة؟ لا يُمكن أن نعتبر تلك المادة من البولميرات على الإطلاق، فالمواد الصلبة –معظمها على الأقل- تُحافظ ذراتها المرتبة داخل بلورات على حركتها في جميع الاتجاهات (عمودية ومائلة وأفقية) حين تكتسب الحرارة، فلماذا يتقلص فلوريد السكانديوم عند تسخينه؟
"السر في مرونة الإنتروبيا" يقول الدكتور "أيجور زاليزنيك" -أحد الباحثين في تلك الدراسة- في تصريحات خاصة لـ"للعلم"، وهو فيزيائي يعمل في قسم علوم الفيزياء والمواد المكثفة بمعهد بروكهافن الأمريكي.
يقول "أيجور" إن الورقة العلمية –المنشورة في دورية ساينس أدفانس Science Advances- تكشف عن الآليات الفيزيائية وراء ظاهرة التمدد الحراري السلبي NTE، والتي تُعرف بكونها الانكماش الناتج عن الاحترار، في فئة مهمة من المواد. ويُشير الباحث إلى أن ذلك الأمر يحدث نتيجة تأثير يُشبه إلى حدٍّ بعيد تأثير انكماش البوليمرات بالحرارة.
يمتلك "فلوريد السكانديوم" بنية بلورية مكعبة، يُمكن أن نُشبهها بمجموعة من العصي الخشبية التي تكوِّن مكعبًا، على رأس كل مكعب توجد ذرة واحدة، وتمثل تلك العصي الروابط الذرية فيما بين الذرات. حين تتزايد الاهتزازات الذرية الناجمة عن تخزين الحرارة الموردة –أي حين تكتسب المادة حرارة من مصدر خارجي- فإن الاهتزازات تحدث في العصي (التي تربط الذرات بعضها ببعض)، وبالتالي تقترب أطراف السلسلة المفصلية من بعضها بحرية وبشكل أوثق.
بعد ذلك يتتابع حدوث الاهتزازات الذرية بطريقة منظمة، وتشكل أنماطًا تُشبه الموج، تُسمى بالفونونات phonon. لكن يبقى السؤال: كيف يُمكن أن تقترب بعض الذرات من بعضها لملاحظة أن المادة تنكمش بالفعل حين تكتسب الحرارة؟
يقول "أيجور" إن ذلك السلوك الغريب يرجع إلى عدم تناسق حركة الفونونات، وهو ما يحدث بالضبط في حالة البولميرات؛ إذ يؤدي اكتساب أي بولمير للحرارة إلى حدوث اهتزازات عمودية في المادة تُقرب بين مكوناتها.. لكن في حالة فلوريد السكانديوم توجد اهتزازات عمودية وأفقية ومائلة، تُقرب هي الأخرى من المسافات البينية بين الذرات؛ بسبب "الطبيعة الخاصة بعشوائية الاهتزازات في حالة فلوريد السكانديوم".
قبل عقود، شرح العالم الفذّ "آينشتاين" قوة الإنتروبيا، وهي تلك الظاهرة الناشئة عن ميل الأنظمة إلى زيادة العشوائية. تُفيد الإنتروبيا في فهم التمدد السلبي للمواد؛ إذ توضح أن هناك قوة عشوائية كامنة وموجودة على المقياس الذري تُفسر تلك الظاهرة. شرح "آينشتاين" القدرة الحرارية للمواد الصلبة من خلال النظر في حركة الذرات على نحو مستقل، فبدلًا من النظر إلى الحركة الإجمالية الناجمة عن تحركات الذرات بعضها مع بعض، قام بدراسة تلك الحركة لكل ذرة مفردة بشكل مستقل تمامًا.
ما اكتشفه الباحثون في تلك الدراسة هو أن أفكار "آينشتاين" يُمكن تطبيقها على المواد الصلبة التي تتمدد سلبيًّا. "كان ذلك هو بداية الخيط الذي مشينا وراءه"، وفق تصريحات أيجور الخاصة لـ"للعلم".
فبدلاً من التركيز على الحركة الإجمالية –سواء كانت تمددًا أو انكماشًا للمواد- فحص الباحثون في تلك الدراسة الحركة المفردة لكل ذرة على حدة، "وهو الأمر الذي مثَّل نقلة نوعية في محاولة فهم التمدد السلبي للمواد"، على حد قول "أيجور".
لدراسة الحركة المُفردة للذرات، استخدم الباحثون نهجًا علميًّا معروفًا لفهم التركيب الذري والحركات في المواد، ألا وهو "تشتت النيوترون". يُمكن اعتبار ذلك النهج بشكل مبسط مجهرًا نيوترونيًّا يقوم بتحليل أماكن وجود الذرات المفردة. ثم رصد الباحثون حركة الذرات حال وجود "فلوريد السكانديوم" في درجة حرارة الغرفة، وحال تعريضه لدرجات حرارة عالية.
أظهرت القياسات أن الروابط بين السكانديوم والفلور (ما أطلقنا عليه أعلاه العصي) لا تتغير بالفعل مع التدفئة، لكن المسافات البينية بين ذرات الفلور هي التي تتغير بشدة مع ارتفاع درجة الحرارة. فعلى عكس المتوقع، بقيت المسافات في ترتيب ذرات الخليط (فلور-سكانديوم) ثابتة، في حين تغيرت تمامًا بين ذرات الفلور وحدها. إذ تتحرك ذرات الفلور غير المقيدة في تذبذبات مستعرضة في اتجاه عمودي على روابط الشبكة المكعبة، ليقترب بعضها من بعض، مما يؤدي إلى حدوث الانكماش بصورة مماثلة لما يحدث في البوليمرات.
سيؤدي هذا الفهم الجديد إلى تحسين قدرة العلماء على التنبؤ بالاستجابة الحرارية للمادة، والأخذ في الاعتبار حدوث تغييرات في درجات الحرارة فيها في أثناء استخدامها في التطبيقات المختلفة. فعلى سبيل المثال: تُظهر المواد المستخدمة في الآلات الدقيقة تغييرًا بسيطًا في الاستجابة للحرارة أو البرودة، وبالتالي يجب حساب تلك التغييرات بدقة، خاصةً في التطبيقات الطبية، مثل حشوات الأسنان أو المفاصل المعدنية؛ إذ يجب أن تكون خواص التمدد الحرارى متوافقةً مع التركيبات البيولوجية (دعنا نتخيل مقدار الألم إذا تمددت حشوة أسنان بالحرارة في أثناء شرب قهوة ساخنة). كما يُمكن أيضًا أن يُستخدم ذلك الفهم في تطوير الموصلات الفائقة؛ إذ يُعتقد أن اهتزازات الشبكة البلورية يُمكن أن تؤدي دورًا في قدرة تلك المواد على حمل التيار الكهربي وتوصيله.
اضف تعليق