لا شك أن هاتف «آيفون» الذي تنتجه شركة «آبل» Apple قد غيَّر وجه عالم، حتى إنه يستحق عرضه في متحف، لكن من بين 38 طرازًا أُنتج منه حتى اليوم، ومليارات هواتف «آيفون» المُباعة، ترى، أيها يجب أن يعرضه مُتحف؟ وعلى أي أساس يختار أمناء المتاحف المعروضات؟...
بقلم: آنا نوفيتسكي
لا شك أن هاتف «آيفون» الذي تنتجه شركة «آبل» Apple قد غيَّر وجه عالم، حتى إنه يستحق عرضه في متحف، لكن من بين 38 طرازًا أُنتج منه حتى اليوم، ومليارات هواتف «آيفون» المُباعة، ترى، أيها يجب أن يعرضه مُتحف؟ وعلى أي أساس يختار أمناء المتاحف المعروضات؟ وما الانطباع الذي يعطيه ذلك الاختيار عنهم، وعن المُتحف الذي يعملون به، ودولتهم، والعلم؟
في ذلك الصدد، يؤكد صمويل ألبرتي، القائم على إدارة المقتنيات في هيئة المتاحف الوطنية الاسكتلندية بإدنبرة، أنه على الرغم من سعى معظم متاحف العلوم لالتزام الحياد هذه الأيام، إلا أن قراراتها بشأن مقتنياتها من التحف دائمًا ما تمثل تيارات سياسية، تعكس وجهات نظر عالمية وأولويات اجتماعية، وتوجهات مصادر تمويل المتحف.
ويتعمق ألبرتي في كتابه «تحف أدواتية مهيبة: رحلة استكشافية بين أروقة المتاحف العلمية» Curious Devices and Mighty Machines: Exploring Science Museums في هذه المفارقة وغيرها من مفارقات المتاحف الغربية. فالمتاحف يجب أن تحتفظ بطابع مُشوق وأن تُفتح أبوابها للجميع، وأن تعبر في الوقت ذاته عن مفاهيم معقدة. كما يتعين عليها أن تقدم سردًا للتاريخ مع التحلي بروح العصر ومواكبته لاستقطاب الجماهير. وبالنظر إلى أنه بإمكانها الاحتفاظ بأعداد محدودة من الأغراض، والاعتناء بها وعرضها، يتعين عليها أيضًا استخدام هذه الأغراض لتمثيل الخطى الواسعة التي سلكها التقدم العلمي.
من هنا، ينطلق ألبرتي في أسفار عبر أوروبا وأمريكا الشمالية، ليزور مؤسسات مصنفة كمتاحف علوم (وليس متاحف للتاريخ الطبيعي)، ويجري محادثات مع أمنائها. ومن خلال تسليط الضوء على عشرات من القطع الأثرية ضمن مجموعات من عشرات هذه القطع، أو مئات الآلاف منها في المتاحف، يسعى ألبرتي إلى استكشاف تاريخ هذه المؤسسات، وإجراءاتها في اقتناء التحف، وحفظها، وصيانتها، وتخطيط فعاليات المعارض وتنظيمها، فضلًا عن آليات تفاعل المتاحف مع زوارها وعامة الجمهور. فعلى سبيل المثال، لدى استعراض مقتنيات المتاحف من الفئران المعدلة وراثيًا المجففة بالتجميد، ينتقل ألبرتي إلى مناقشة بعض الإشكاليات الأخلاقية وقضايا الملكية الفكرية. ومن خلال لوحة تحكم خاصة بمُعَجِّل للجسيمات، لا تزال إلى اليوم مغطاة بأوراق ملاحظات لاصقة وأقلام متبقية من فترة عملها، يتيح لنا ألبرتي الإطلال على الطبيعة البشرية وراء الأنشطة العلمية. كما يتطرق إلى الصراعات التي تخوضها مؤسسات عديدة اليوم مع قضايا شائكة من ماضيها.
التفاعُل مع الجمهور
كانت بداية ظهور متاحف العلوم بطيئة؛ إذ بدأت من حجرات العجائب في أوروبا في القرن السادس عشر، وأُتيحت فقط للأثرياء، وذوي المعارف من أصحاب النفوذ، مثل كوزيمو الأول دي ميديشي، دوق فلورنسا، الذي احتفظ بمجموعة من أدوات علم الرياضيات في قصره. ويعود نهج أشمل في عرض التحف العلمية إلى الثورة الفرنسية. ففي عام 1794، أسس الأسقف الكاثوليكي المُناصر للمساواة هنري جريجوار متحف الفنون والحرف في باريس، الذي فُتحت أبوابه للجميع، وهدف إلى إظهار النقلة الثورية التي تحققت على صعيد انتعاش أحوال العمال من خلال "نماذج وأدوات ورسومات وشروح وكتب". بيد أن ثورة أخرى تسببت في كبرى حركات الازدهار التي شهدتها متاحف العلوم، ألا وهي الثورة الصناعية.
تتيح المعروضات التفاعلية للزوار طرق بعض الأفكار، مثل هذه القطعة المعروضة عن حركة الرواسب في متحف «إكسبلوراتوريوم» في مدينة سان فرانسيسكو في ولاية كاليفورنيا الأمريكية، تتيح المعروضات التفاعلية للزوار طرق بعض الأفكار، مثل هذه القطعة المعروضة عن حركة الرواسب في متحف «إكسبلوراتوريوم» في مدينة سان فرانسيسكو في ولاية كاليفورنيا الأمريكية.
إذ لما فطنت الحكومات وجهات الأعمال الخيرية في القرن التاسع عشر للمكاسب المالية التي يمكن جنيها من ثمار العلم والهندسة، ظهرت المؤسسات المُكرسة لتدريس العلوم في الدول الغنية. ومعظم هذه المؤسسات الحكومية والخيرية كان، ولا يزال، مهتمًا بأدوات الصناعة المادية، مثل المحركات البخارية ونماذج السفن، أكثر من اهتمامه بالتعقيدات التي تكتنف الأبحاث الأساسية وراء هذه الابتكارات. كذلك سعت هذه المؤسسات حتى منتصف القرن العشرين إلى تسليط الضوء على المستقبل والتفاخر بالإنجازات الوطنية (وإن كانت هذه المساعي قد شابتها فترات من التوقف خلال الحربين العالميتين).
بيد أن وتيرة التقدم السريعة، إلى جانب الانقطاعات التي تخللت حركة جمع التُحف واقتنائها، لم تلبث أن جعلت الآلات المتطورة الجذابة الحديثة، من غرائب الماضي. فأصبحت متاحف العلوم مزارات مملة لسرد تاريخ العلوم تعرض آلات السُدس وأداة الأَسطُرلاب، لكن في الستينيات، ذاعت وانتشرت صيحة "مراكز العلوم" التي أمكن للزوار استقاء المعارف فيها بتجربة استخدام القطع الأثرية عمليًا بدلا من مطالعتها في خزانات عرض، لا سيما في متحف «إكسبلوراتوريوم» في ولاية سان فرانسيسكو الأمريكية في كاليفورنيا. وتسعى متاحف العلوم اليوم إلى جعل تجربة استعراض تاريخ العلوم تمزج بين التعلم والتفاعل الجماهيري.
وقد تعين على أمناء المتاحف في العقود الأخيرة مواجهة صعوبات جمع الوسائط الرقمية وعرضها. على سبيل المثال، يوضح ألبرتي في كتابه أن لعبة الفيديو «جراند ثيفت أوتو» Grand Theft Auto لها أهمية ثقافية، لكن القرص المرن الذي تأتي به يخلو من الجاذبية، إذ يجعلها تبدو كقطعة عرض محنطة. ويمكن أن تُحبط مشكلات لوجيستية محاولات بث الحياة في برمجية هذه اللعبة. إذ تحتاج المتاحف إلى أجهزة لتشغيل القرص المرن، بالإضافة إلى الوسائل اللازمة لتحويل محتوياته إلى صيغ برمجية أخرى عندما تصبح صيغته البرمجية الأصلية تقنية عفا عليها الزمن. علاوة على ذلك، قد تحتاج المتاحف إلى إعداد كُتيب عن اللعبة، حتى إن بعض المتاحف يطبع التعليمات البرمجية الأساسية للعب المماثلة.
بناء جسور
تُعد تأملات ألبرتي للعمليات الحسابية الدقيقة التي تنطوي عليها أنشطة العناية بالمتاحف واقعية ومذهلة. إذ يقر بأن "أمين المتحف العلمي البارع" المعني بتخزين القطع الأثرية وتكاليفها وآجالها يركز على جمع "المواد المتقادمة التي عفا على استخدامها الزمن، لكن يمكن اقتناؤها في الوقت نفسه". كذلك قد يغدو توصيف القطع الأثرية زاخرًا بدرجة مفرطة بالتفاصيل الفنية. على سبيل المثال، من المثير للاهتمام معرفة أن بعض الأغراض قد تحتوي غازات متفجرة، لكن هل نحتاج إلى معرفة أي علامة تجارية للصمغ يُفضلها القائمون على عمليات الترميم؟
يتطرق ألبرتي أيضًا إلى إقرار بعض المتاحف بالضرر الذي تسببت فيه في الماضي ومحاولتها التعويض عنه. على سبيل المثال، خدمت الكثير من المتاحف العقلية الاستعمارية ودافعت دون تمحيص عن التفوق التكنولوجي والأخلاقي الغربي، إذ نشأت متنعمة بـ"غنائم الإمبريالية". فضلًا عن ذلك، تبين أن هذه المتاحف استولت على أغراض من مناطق مُستعمَرة. ومن خلال معروضاتها، "تواطأت مع التأسيس لتصنيف هرمي ثقافي مادي يدعم الفكر العنصري"، حتى القرن العشرين على أقل تقدير.
كذلك تجدر الإشارة إلى أن بعض المتاحف الآن يسعى إلى تسليط الضوء على هذا الماضي. علي سبيل المثال، اكتشف متحف العلوم والصناعة في مانشستر بالمملكة المتحدة روابط بين تجارة العبيد وتجارة القطن التي اشتهرت بها المدينة على مدى تاريخها في إطار مشروع «إعادة نسج المنسوجات» Textiles Respun لعام 2018. كما أن المعرض المتواصل الذي يستضيفه متحف مينيسوتا للعلوم في مدينة سانت بول بعنوان «الأعراق البشرية: هل نحن حقًا على هذا القدر من الاختلاف؟»RACE: Are We So Different? يدعو إلى إجراء محادثات للتوعية بالحقائق والخرافات البيولوجية والاجتماعية عن التنوع البشري. بيد أن نقاش ألبرتي حول محاولات تحسين تمثيل الأطياف البشرية على اختلافها في ما تطرحه المتاحف من معروضات ومجموعات أثرية وفي عمليات التوظيف بها كان مقتضبًا إلى حد مُحبِط.
ويشير ألبرتي إلى أن المتاحف "تحظى بثقة أكبر من معظم وسائل الإعلام الأخرى" حيث تُحترم خبراتها بوجه عام وتُعد ذات مصداقية، وهو ما يسمح لها بتنظيم حملات لقضايا محددة، من مناهضة الاستعمار، إلى التخفيف من آثار التغير المناخي، وتبديد المعلومات المضللة. غير أن ألبيرتي يرى أن النبرات الصارمة في هذه الأنشطة قد تهدد أو تنفر الأشخاص في المعسكرات المقابِلة، وبدلًا من حملات الضغط، يؤيد دعم جهود محو الأمية العلمية والدعوة إلى النقاش، ويُضيف ألبرتي أن المتاحف يمكن أن تساعد الأشخاص في اتخاذ قرارات أفضل من خلال "إثارة الفضول، وإتاحة أدوات تعين على الفصل في الحقائق". ويجب على هذه المؤسسات ألا تتظاهر بأنها لا تلزم الحياد أبدًا. بالأحرى، عليها استخدام قوتها لبناء الجسور.
اضف تعليق