هذه التجارب البسيطة والبارعة على الفوتونات المتشابكة كشفت لغزًا عميقًا في صميم واقعنا، فقد شهدت الأعوام الخمسون الماضية اكتشافاتٍ زعزعت تصوراتنا، كان أكثرها إرباكًا أنَّ الكون ليست له طبيعةٌ مُجرَّدة محلية التأثُّر، المقصود بفكرة الطبيعة المُجرَّدة هنا أن تكون للأشياء خصائص محددة، بغض النظر عن كونها مرصودةً أم لا...
بقلم: دانييل جاريستو
شهدت الأعوام الخمسون الماضية اكتشافاتٍ زعزعت تصوراتنا، كان أكثرها إرباكًا أنَّ الكون ليست له طبيعةٌ مُجرَّدة محلية التأثُّر، المقصود بفكرة الطبيعة المُجرَّدة هنا أن تكون للأشياء خصائص محددة، بغض النظر عن كونها مرصودةً أم لا، أي إمكانية أن تكون التفاحة حمراء حتى عندما لا تقع أنظارنا عليها، أمَّا المقصود بمحلية التأثُّر فهو أنَّ الأشياء لا يُمكن أن تتأثر إلَّا بالوسط المحيط بها، وأنَّ التأثيرات المختلفة لا يُمكن أن تنتقل بسرعةٍ أكبر من سرعة الضوء، لكن تبيَّن أنَّ هذه التصورات لا يمكن أن تكون كلها صحيحة، وفق الأبحاث التي تحاول استكشاف المزيد في فيزياء الكم؛ إذ أظهرت الأدلة أنَّ الأشياء لا تتأثر بمحيطها فقط، وأنَّها قد لا تتسم بخصائص محددة قبل قياسها، وقد عبَّر ألبرت أينشتاين عن استنكاره لتلك الفكرة، قائلًا لصديقٍ في واقعةٍ شهيرة: "هل تظن حقًّا أن القمر ينعدم عندما لا يقع نظرك عليه؟".
هذا يتعارض بطبيعة الحال مع ما نُعايشه يوميًّا، وكما عبَّر الكاتب دوجلاس آدامز، فإنَّ انهيار فكرة الطبيعة المُجرَّدة محلية التأثُّر هذه أثار غضبًا شديدًا لدى عددٍ كبيرٍ من الناس، ويراه كثيرٌ منهم خطوةً سيئة.
والآن، يُلقَى باللوم في هذا الإنجاز بوضوح على ثلاثة فيزيائيين: جون كلاوسر، وآلان أسبيه، وأنطون سايلينجر، الذين تقاسموا بالتساوي جائزة نوبل في الفيزياء لعام 2022، لإجرائهم "تجارب على الفوتونات المتشابكة، أثبتوا بها خَرق متباينات بيل، وابتكروا علم المعلومات الكمية"، يشير مصطلح «متباينات بيل» إلى العمل الرائد للفيزيائي الأيرلندي الشمالي جون ستيوارت بيل، الذي أرسى في أوائل الستينيات أسس الأبحاث الفائزة بجائزة نوبل في الفيزياء للعام الحالي، وقد اتفق زملاء الباحثين الثلاثة على أنَّهم جديرون بالجائزة، ويستحقون هذا التقدير؛ لأنَّهم أطاحوا بتصورنا التقليدي عن الواقع، فعن فوزهم قال ساندو بوبيسكو، أستاذ فيزياء الكم في جامعة بريستول: "إنَّه خبرٌ رائع، لقد تأخَّر فوزهم كثيرًا، والجائزة مُستحقَّة تمامًا بلا أدنى شك".
أمَّا تشارلز بينيت، الباحث البارز في مجال الكم لدى شركة «آي بي إم» IBM، فعلَّق على الخبر قائلًا: "بدايةً من أول تجربةٍ أجراها كلاوسر، ومرورًا بالتجارب المستمرة بعدها، تُظهر أبحاثهم أنَّ هذه الأفكار ليست فلسفيةً فحسب، بل حقيقية، وأنَّها كالأفكار الحقيقية الأخرى قد تكون مفيدةً".
وعلَّق أيضًا ديفيد كايزر، الفيزيائي والمؤرخ في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، قائلًا عن فوزهم: "في كل عامٍ كنتُ أقول لنفسي: ربما يكون هذا هو العام المنتظر، وقد تحقَّق الأمر هذا العام بالفعل، تأثرتُ بفوزهم بشدة، وكان الخبر مثيرًا للغاية".
مرَّت أسس نظرية الكم برحلةٍ طويلة، حتى توقف الناس عن التشكيك فيها واستنكارها وبدأت تحظى بالاهتمام، فمنذ حوالي عام 1940 وحتى أواخر عام 1990، كان الموضوع غالبًا ما يُعتبر فلسفةً في أحسن الأحوال، وجنونًا في أسوئها، وكانت العديد من الدوريات العلمية ترفض نشر الأوراق البحثية المتعلقة بأسس نظرية الكم، وكان من شبه المستحيل أن تجد أكاديميين يُجرون مثل هذه الأبحاث، ففي عام 1985 مثلًا، تلقَّى بوبيسكو نصيحةً من المشرف على رسالة الدكتوراة التي يُعدها، مُحذِّرًا إياه من أن يخصص رسالته لهذا الموضوع، وعن ذلك يقول بوبيسكو: "قال لي مشرفي: انتبه، إذا فعلت ذلك، ستتسلَّى خمس سنوات، ثم ستصبح عاطلًا عن العمل".
أمَّا اليوم، فقد صار علم المعلومات الكمية واحدًا من أكثر المجالات الفرعية حيويةً وأشدها تأثيرًا بين جميع مجالات الفيزياء؛ فهو يربط النظرية النسبية العامة لأينشتاين بميكانيكا الكم، عبر سلوك الثقوب السوداء الذي ما زال يتسم بالغموض، ويحدد لنا أيضًا تصميمات ووظائف المستشعرات الكمية، التي يتزايد استخدامها لدراسة كل شيء، بدءًا من الزلازل وحتى المادة المظلمة، وفوق ذلك، يوضِّح لنا ذلك العلم طبيعة ظاهرةٍ تُحيِّرنا في كثيرٍ من الأحيان، وهي ظاهرة التشابك الكمي، التي تُعد شديدة الأهمية لعلم المواد الحديث، وتقوم عليها أسس الحوسبة الكمية.
وعن أهمية تلك الظاهرة تقول الباحثة نيكول يونجر هالبرن، أستاذ الفيزياء في المعهد الوطني الأمريكي للمعايير والتكنولوجيا: "ما الذي يجعل الحواسيب الكمية 'كميَّةً'؟ إحدى الإجابات الأكثر شيوعًا عن هذا السؤال هي ظاهرة التشابك، والفضل في قدرتنا على فهمها يرجع إلى العمل العظيم الذي شارك فيه بيل وهؤلاء الفائزون الثلاثة بجائزة نوبل، فمن دون فهم التشابك، ربما لم نكن لنستطيع تطوير الحواسيب الكمية".
بيل ينادي... ويرد عليه الصدى
لم تكن مشكلة ميكانيكا الكم قَط في صحة تنبؤاتها؛ ففي الحقيقة، وصفت النظرية عالَمنا الميكروي بدقةٍ مذهلة، منذ وضعها الفيزيائيون في العقود الأولى من القرن العشرين.
ما اعترض عليه أينشتاين وبوريس بودولسكي وناثان روزن في ورقتهم البحثية الشهيرة، المنشورة عام 1935، كان نتائجها المُزعزِعة لتصوراتنا عن الواقع؛ فتحليلهم المعروف باسم EPR، نسبةً إلى الأحرف الأولى من أسمائهم، ركَّز على تجربةٍ فكرية تهدف إلى توضيح عبثية ميكانيكا الكم، أي كيف يمكن أن تنهار النظرية في ظروفٍ معينة، أو أن تكون لها نتائج غير منطقية، تتعارض مع كل ما نعرفه عن الواقع، ولو صمَّمنا نسخةً مبسطة وحديثة من تلك التجربة فستكون كالتالي: أن نطلق أزواجًا من الجسيمات من مصدرٍ مشترك في اتجاهاتٍ مختلفة نحو راصدَيْن، لنسمِّهما أليس وبوب، يوجد كل واحدٍ منهما عند طرفٍ مختلف من طرفي المجموعة الشمسية، في هذه الحالة، وفق ميكانيكا الكم، يستحيل علينا قبل القياس أن نعرف اللف المغزلي لكل جسيم، والذي يُعد خاصيةً من الخواص الكمية التي تتسم بها الجسيمات المفردة، وعندما تقيس أليس أحد جسيماتها، ستجد أنَّ اتجاه اللف المغزلي لديه إمَّا إلى أعلى أو إلى أسفل، صحيح أنَّ نتائجها عشوائية، لكنَّها عندما تقيس اللف المغزلي، وتجد أنَّ اتجاهه إلى أعلى، تعرف فورًا أنَّ اتجاه اللف المغزلي للجسيم الآخر المنتمي إلى الزوج نفسه، والذي انطلق نحو بوب، لا بد أن يكون إلى الأسفل، وللوهلة الأولى، قد يبدو هذا منطقيًّا بعض الشيء؛ إذ ربما تكون الجسيمات كأزواج الجوارب، وبهذا حين تحصل أليس على فردة الجورب اليمنى، لا بد أن يحصل بوب على اليسرى.
لكن وفق ميكانيكا الكم أيضًا، فإنَّ الجسيمات ليست كالجوارب، ولا يتحدد اتجاه اللف المغزلي لديها إلى أعلى أو إلى أسفل إلَّا عند قياسها، وهذا هو اللغز الرئيسي في تجربة EPR: فإذا كانت جسيمات أليس لا يتحدد لفها المغزلي حتى قياسها، فكيف إذًا لتلك الجسيمات وهي تتخطى كوكب نبتون بسرعةٍ هائلة أن تعرف وضع جسيمات بوب وهي تحلِّق عبر المجموعة الشمسية في الاتجاه الآخر؟ لكن في كل مرةٍ تقيس فيها أليس جسيماتها، تكون كما لو أنها تسألها عن الاتجاه الذي سيحصل عليه بوب إذا رمى مثلًا عملةً معدنية في الهواء: إلى أعلى أم إلى أسفل؟ واحتمالات التنبؤ الصحيح بهذا الاتجاه، حتى عند التخمين لمئتي مرة على التوالي، تبلغ 1 لكل 6010 مرة، وهو رقمٌ أكبر من عدد جميع الذرات في المجموعة الشمسية، لكن بالرغم من مليارات الكيلومترات التي تفصل بين أزواج الجسيمات، فإنَّ ميكانيكا الكم تقضي بأنَّ جسيمات أليس يمكنها أن تتنبأ بالاتجاه الصحيح في كل مرة، كما لو كانت متصلةً مع جسيمات بوب عن طريق التخاطُر.
ومع أنَّ الهدف من هذه التجربة الفكرية كان الكشف عن عيوب نظرية ميكانيكا الكم، فإنَّ إجراءها على أرض الواقع يُسفر عن نتائج تدعم أكثر مبادئ تلك النظرية إثارةً للحيرة؛ فبموجب ميكانيكا الكم، ليست للطبيعة ماهيةٌ مُجرَّدة محلية التأثُّر؛ فالجسيمات قبل القياس لا تكون لها خصائص محددة، مثل اللف المغزلي إلى أعلى أو إلى أسفل، ويبدو أنَّها تتواصل معًا بغض النظر عن المسافة.
وهنا طرح الفيزيائيون المشككون في ميكانيكا الكم فرضية وجود "متغيراتٍ خفية"، أي عوامل توجد في مستوىً غير مُدرَك من الواقع، أدنى من العالَم دون الذري، يحتوي على معلوماتٍ عن حالة الجسيم المستقبلية، وكانوا يأملون أنَّ نظريات المتغيرات الخفية هذه ستُعيد إلى الطبيعة ماهيتها المُجرَّدة محلية التأثُّر التي حرمتها منها ميكانيكا الكم.
وعن ذلك يقول بوبيسكو: "لو كنا عاصرنا تلك الفترة لحسبنا أنَّ آراء أينشتاين وبودولسكي وروزن ستُحدِث ثورةً، وأنَّ الكل سيبدأ في دراسة تلك المتغيرات الخفية".
غير أنَّ "هجوم" أينشتاين على ميكانيكا الكم لم يلقَ رواجًا بين الفيزيائيين، الذين تقبَّل معظمهم ميكانيكا الكم كما هي، وهذا التقبُّل في أغلب الأحيان لم يكن تبنِّيًا مدروسًا لفكرة الطبيعة المُجرَّدة غير محلية التأثُّر بقدرِ ما كان رغبةً في تجنُّب التفكير المُفرِط في أثناء إجراء الأبحاث الفيزيائية، أي أنَّ موقفهم كان تجاهُل المسألة، وهو ما لخَّصه الفيزيائي ديفيد مِرمِن بتشبيهه بأنَّه دعوةٌ إلى "الصمت وإجراء الحسابات".
ترجع هذه الحالة من عدم الاهتمام جزئيًّا إلى أنَّ العالِم المرموق جون فون نيومان كان قد نشر في عام 1932 برهانًا رياضيًّا يستبعد نظريات المتغيرات الخفية (ينبغي أن نذكر هنا أنَّ عالِمة الرياضيات الشابة جريت هيرمان دحضت برهان فون نيومان بعدها بثلاث سنواتٍ فقط، لكن يبدو أنَّه لا أحد لاحظ ذلك حينها).
ولمدة ثلاثة عقودٍ أخرى، ظلَّت معضلة الطبيعة المُجرَّدة غير محلية التأثُّر في ميكانيكا الكم في حالةٍ من الخمود لرضا الباحثين بها، حتى سحقها بيل تمامًا؛ فمنذ بداية حياته المهنية، كان بيل يجد صعوبةً في تقبُّل الأفكار المُسلَّم بها في نظرية الكم، ويميل إلى الإيمان بنظريات المتغيرات الخفية، وقد جاءه الإلهام في عام 1952، حين علم بتفسيرٍ مُحتَمَل لميكانيكا الكم يقوم على وجود متغيراتٍ خفية غير محلية، طرحه زميله الفيزيائي ديفيد بوم، وهو تفسيرٌ كان فون نيومان يدَّعي استحالته، وظلَّ بيل يُقلِّب تلك الأفكار في رأسه على مرِّ سنوات، إلى جانب وظيفته الرئيسية بصفته فيزيائيًّا متخصصًا في الجسيمات بمركز «سيرن» CERN.
وفي عام 1964، اكتشف بيل في برهان فون نيومان العيوب نفسها التي اكتشفتها هيرمان من قبل، وبعد ذلك، حقَّق انتصارًا لمعسكر التفكير المنهجي الدقيق، بأن وضع نظريةً انتشلت مسألة المتغيرات الخفية من مستنقعها الميتافيزيقي إلى عالم التجربة في الواقع.
فعادةً ما تتنبأ كلٌّ من نظريات المتغيرات الخفية وميكانيكا الكم بنتائج تجريبية لا يمكن تمييز بعضها عن بعض، وما أدركه بيل أنَّه يمكن أن يظهر تناقضٌ تجريبي بينهما في ظروفٍ محددة، ففي اختبار بيل الذي يحمل اسمه، والذي يُعَد بمنزلة تطورٍ لتجربة EPR الفكرية، يتلقى أليس وبوب أزواج الجسيمات نفسها، بحيث تكون إعدادات الرصد مختلفةً لدى كل واحدٍ منهما: ولتكن مثلًا A وa، وB وb، تتيح هذه الإعدادات لأليس وبوب طرح أسئلةٍ مختلفة على الجسيمات، فيما يمكن اعتباره حيلةً إضافيةً لإرباك حالة التخاطر التي بدت بين كل زوجٍ منها في المرة السابقة، وبهذا، في نظريات المتغيرات الخفية المحلية، حيث تكون حالة الجسيمات مُقررة سلفًا ولا يوجد ما يربط بينها، لا يمكن للجسيمات أن تحتال على هذه الخطوة الإضافية، ولا يمكنها دائمًا تحقيق حالة الارتباط المثالية، التي تجد فيها أليس أنَّ اللف المغزلي لجسيمها متجه إلى أعلى، ويجد فيها بوب في الوقت نفسه أنَّ اللف المغزلي لجسيمه متجه إلى أسفل (والعكس بالعكس)، لكن في ميكانيكا الكم، تظلُّ الجسيمات متصلةً، وأشد ارتباطًا بكثير مما يُمكن أن يحدث على الإطلاق في حالة نظريات المتغيرات الخفية المحلية، أيَّ أن الجسيمات تكون متشابكةً ببساطة.
وبذلك، لو قسنا مدى الارتباط بين العديد من أزواج الجسيمات عدة مرات، يمكن أن يُثبت لنا هذا أيهما النظرية الصحيحة، فإذا ظل الارتباط دون حدٍّ معين مُستنبَط من نظرية بيل، قد يشير هذا إلى أنَّ هناك متغيراتٍ خفيةً بالفعل، أمَّا إذا تجاوز الارتباط حد نظرية بيل، فستنتصر مبادئ ميكانيكا الكم المحيِّرة، لكن بالرغم من قدرة نظرية بيل على المساعدة في تحديد طبيعة الواقع بدقِّة، فإنَّها ظلَّت سنواتٍ لا تجذب انتباهًا كبيرًا، بعد أن نُشِرَت في دوريةٍ مغمورة نسبيًّا.
أحدهم رد النداء
في عام 1967، قادت الصدفة جون كلاوسر، الذي كان طالبًا في مرحلة الدراسات العليا بجامعة كولومبيا آنذاك، إلى العثور على نسخةٍ من ورقة بيل البحثية في المكتبة، وأصبح مفتونًا بإمكانية إثبات صحة نظريات المتغيرات الخفية، وبعد ذلك بعامين أرسل كلاوسر رسالةً إلى بيل، يسأله فيها عمَّا إذا كان أي شخصٍ قد أجرى الاختبار بالفعل، وكانت تلك الرسالة بين أوائل التعليقات التي تلقاها بيل على بحثه.
وبعد خمس سنوات، بتشجيعٍ من بيل، أقدم كلاوسر ومعه ستيوارت فريدمان، طالبه في مرحلة الدراسات العُليا، على إجراء أول نسخةٍ فعلية من الاختبار، كان كلاوسر في تلك التجربة قد حصل على إذنٍ من مُشرفيه، لكنَّه لم يتلقَّ إلا تمويلًا ضئيلًا، لذا أصبح -كما قال في مقابلةٍ شخصيةٍ لاحقة- خبيرًا في "البحث وسط المخلفات" للحصول على المعدات، التي اضطر مع فريدمان إلى لصق بعضها بشريطٍ لاصق، وفي التجربة التي أعدها، والتي قامت على جهازٍ بحجم قوارب الكاياك يتطلب ضبطًا يدويًّا دقيقًا، أطلِقَت أزواجٌ من الفوتونات في اتجاهين متقابلين، نحو كواشف قادرة على قياس حالتها، أو تحديد استقطابها.
لكنَّ النتائج جاءت مخيبةً لآمال كلاوسر ولشغفه بالمتغيرات الخفية، فحالما أكمل هو وفريدمان تحليلهما، لم يسعهما سوى ملاحظة أدلةٍ قوية تعارض وجود تلك المتغيرات، غير أنَّ النتيجة لم تكن حاسمةً إطلاقًا، بسبب "ثغراتٍ" مختلفة في التجربة، ربما تكون قد جعلتهما يفشلان في رصد تأثيراتها، وأهم تلك الثغرات هي ثغرة المحلية؛ فلو كان مصدر الفوتونات أو الكواشف قد استطاعت تشارُك المعلومات بطريقةٍ ما (وهو أمرٌ معقول في حيز جسمٍ بحجم قوارب الكاياك)، فإنَّ الارتباطات المقيسة حينها قد تكون نتيجة بعض المتغيرات الخفية، أو كما عبَّر كايزر بدقةٍ وإيجاز، لو بعثت أليس بتغريدةٍ إلى بوب تخبره بإعدادات الرصد الخاصة بها، فإنَّ ذلك التداخل يجعل استبعاد وجود المتغيرات الخفية أمرًا مستحيلًا.
غير أنَّ سدَّ ثغرة المحلية ليس سهلًا في الواقع؛ إذ يتطلب ذلك تغيير إعدادات الكواشف سريعًا في أثناء انطلاق الفوتونات، والمقصود بكلمة "سريعًا" هنا أن يحدث ذلك في غضون أجزاء من المليار من الثانية، وفي عام 1976، اقترح خبيرٌ فرنسي شاب في مجال البصريات، وهو آلان أسبيه، طريقةً لإجراء هذا التغيير فائق السرعة، إلَّا أنَّ نتائج تجارب فريقه البحثي التي نُشرت في عام 1982 لم تُسفر عن شيءٍ سوى أنَّها عززت نتائج كلاوسر، إذ بدا منها أنَّ فكرة المتغيرات الخفية المحلية مُستبعدةٌ للغاية، وقد كتب بيل ردًّا على نتائج أسبيه الأولية: "ربما لا تكون الطبيعة شاذةً بقدرِ ميكانيكا الكم، لكنَّ نتائج التجارب ليست مشجعةً من وجهة النظر هذه".
وظلَّت هناك ثغراتٌ أخرى غيرها، ومع الأسف، مات بيل في عام 1990 دون أن يشهد سد تلك الثغرات، وحتى تجربة أسبيه لم تستبعد التأثيرات المحلية استبعادًا تامًّا؛ لأنَّها أُجرِيَت على مدى مسافةٍ أقصر مما ينبغي، فكما أدرك كلاوسر وغيره من قبل، إذا لم تضمَن التجارب أن يرصد كلٌّ من أليس وبوب عيناتٍ مُمثِّلةً للجسيمات وغير متحيزة، يمكن أن يصل الباحثون إلى الاستنتاجات الخطأ.
ولم يهُب أحدٌ لسد هذه الثغرات بحماسةٍ أكبر من حماسة أنطون سايلينجر، الفيزيائي النمساوي الاجتماعي الطموح؛ ففي عام 1998، أضفى مع فريقه تحسيناتٍ على تجربة أسبيه الأولية، وذلك بإجراء اختبار بيل على مسافةٍ تبلغ حوالي نصف كيلومتر، وهي مسافة كانت غير مسبوقة آنذاك، وبذلك انتهى عصر استنباط عدم محلية طبيعة الواقع اعتمادًا على اختباراتٍ بأجهزة تمتد لمسافاتٍ صغيرة، ثم في عام 2013 اتخذ فريق سايلينجر أخيرًا الخطوة المنطقية التالية، بمعالجة عدة ثغراتٍ في آنٍ واحد.
في هذا الصدد تقول ماريسا جوستينا، الباحثة المتخصصة في مجال الكم بشركة «جوجل» Google، والتي عملت مع سايلينجر: "قبل ميكانيكا الكم، كنتُ في الواقع مهتمةً بالهندسة، أحب بناء الأشياء بيدي، وحين أنظر إلى الأمر الآن، يبدو لي أنَّ إجراء نسخةٍ من تجربة بيل تخلو من أي ثغرات هو مشروعٌ عملاق من مشروعات هندسة الأنظمة"، فتجربةٌ مثل هذه كانت تتطلب العثور على نفقٍ خالٍ مستقيمٍ تمامًا، طوله 60 مترًا، تتوافر فيه كابلات الألياف البصرية، وكما اتضح، فقبو قصر هوفبورغ في فيينا كان مكانًا شبه مثالي لذلك، بصرف النظر عن أنَّه كان مغطىً بطبقةٍ سميكةٍ من الغبار، تراكمت طوال قرنٍ من الزمان، وقد تزامنت نتائجهم، التي نُشرت في عام 2015، مع تجربتين مشابهتين أجراهما فريقان بحثيان آخران، وجدتا أنَّ ميكانيكا الكم لا عيوب فيها كما كانت دائمًا.
اختبار بيل يصل إلى النجوم
بقيت ثغرةٌ كبرى أخيرة ينبغي سدها، أو على الأقل تضييقها، فأيُّ اتصالٍ مادي سابق بين المكونات، مهما مرَّ عليه من زمن، كان من الممكن أن يتداخل مع صحة نتائج اختبار بيل؛ فعلى سبيل المثال، لو صافحت أليس يدي بوب قبل مغادرته على متن سفينةٍ فضائية، سيكون هناك ماضٍ يجمعهما بتلك الطريقة، وصحيحٌ أنَّه من غير المعقول أن تستغل إحدى نظريات المتغيرات الخفية المحلية مثل هذه الثغرات، لكنَّ ذلك يظل ممكنًا.
لذا، في عام 2017، أجرى فريقٌ يضم كايزر وسايلينجر نسخةً كونيةً من اختبار بيل، وباستخدام تليسكوباتٍ في جزر الكناري، بنى الفريق قراراته العشوائية المتعلقة بإعدادات الرصد على نجومٍ سماوية متباعدة بما يكفي، بحيث لا يصل الضوء من أحدها إلى الآخر قبل مرور مئات السنين، وبذلك ضمن الباحثون وجود فجوةٍ تمتد قرونًا في الماضي الكوني المشترك بين تلك النجوم، وحتى عندئذٍ انتصرت ميكانيكا الكم مجددًا.
إحدى الصعوبات الرئيسية في شرح أهمية اختبارات بيل لعموم الناس، وكذلك لعلماء الفيزياء المتشككين، هي تصوُّرهم أنَّ صحة ميكانيكا الكم كانت نتيجةً حتمية؛ فرغم كل الاعتراضات، قاس الباحثون العديد من الجوانب الرئيسية لميكانيكا الكم بدقةٍ تزيد على 10 أجزاء في المليار، وعن ذلك تقول جوستينا: "في الواقع، لم أكن أرغب في العمل على تلك المسألة، قلت لنفسي: كوني منطقيةً، هذه مبادئ قديمة راسخة في الفيزياء، وكلنا نعرف ما سيحدث"، لكنَّ دقة ميكانيكا الكم لم تكن تستطيع استبعاد احتمالية وجود متغيراتٍ خفية محلية، ووحدها اختبارات بيل كانت قادرةً على ذلك.
وعلَّق كايزر على هذا قائلًا: "من المؤكَّد أنَّ ما جذب كل واحدٍ من هؤلاء الفائزين بجائزة نوبل إلى الموضوع، وما جذب جون بيل نفسه إليه، كان هذا السؤال: 'هل يمكن أن تكون هذه هي طريقة سير العالم؟'، وكيف لنا أن نتيقن حقًّا؟"، وفي هذا الصدد، فإنَّ اختبارات بيل تتيح للفيزيائيين استبعاد التحيُّز الناجم عن الأحكام المستساغة، المؤمنة بأنَّ الإنسان هو مركز الكون، ليطهروا أبحاثهم بذلك من التصورات البشرية التي تُشعرنا بالخوف من إمكانية وجود تشابكٍ غامض وغريب لا يمكن تفسيره، أو تلك التي تسخر من نظريات المتغيرات الخفية مُعتبرةً إيَّاها مزيدًا من الجدالات الفكرية الفارغة، وصحيحٌ أنَّ الجائزة تُكرِّم كلاوسر، وأسبيه، وسايلينجر، لكنَّها أيضًا إشادةٌ بجميع الباحثين الذين لم يقنعوا بالتفسيرات السطحية لميكانيكا الكم، وطرحوا تساؤلاتهم حتى عندما لم يستحسنها الآخرون.
لهذا فإنَّ اختبارات بيل، حسبما وصفتها جوستينا، تُعد "طريقةً مفيدةً جدًّا للنظر إلى الواقع".
اضف تعليق