q
تحل البطاطس في المرتبة الثالثة بين أكثر ما يُستهلك من المحاصيل الغذائية على مستوى العالم، بعد القمح والأرز، فمن شأن تعيين التسلسل الجينومي بدقة كبيرة لـ44 صنفًا من البطاطس البرية والمزروعة أن يتيح للباحثين فرصة أفضل لدراسة تطوُّر هذا المحصول الأساسي، ولاستحداث أصناف منه تستطيع الصمود في وجه الحرارة والجفاف الناجمين عن التغيُّر المناخي....
بقلم: خوانيتا جوتيريز-فالنسيا، وتانجا سلوتي

تحل البطاطس في المرتبة الثالثة بين أكثر ما يُستهلك من المحاصيل الغذائية على مستوى العالم، بعد القمح والأرز. وتتطلب1 حمايةُ غلّات هذا المحصول في مواجهة التغيُّر المناخي تحسينَ أصنافه. من هنا، في بحث نُشر مؤخرًا في دورية Nature، أوردت الباحثة دي تانْج وفريقها البحثي2 توصيفًا وتحليلًا عالي الدقة للتسلسلات الجينومية لأنواع من البطاطس البرية والمزروعة. ويُتوقع أن تعزز هذه الخريطة الجينومية الشاملة فهمنا للسمات البيولوجية الأساسية لأنواع البطاطس، وأن تُرْشد ممارسات زراعة هذا المحصول.

وتجدر الإشارة في هذا السياق، إلى أن تحسين بعض أنواع البطاطس المزروعة لأغراض تجارية تعوقه بعض السمات الفطرية التي تميز تلك الأنواع. فعلى سبيل المثال، تحتوي هذه الأنواع عادةً على أربع مجموعات من الكروموسومات، ولا ينتج عن زراعتها نسل نقي (بعبارة أخرى، لا تنتقل السمات نفسها من المحصول إلى النسل المنحدر عنه). ومن ثم، فإن استحداث أصناف جديدة يتسم بالتعقيد ويستغرق وقتًا طويلًا.

وقد تؤدي زراعة البطاطس ثنائية الصيغة الصبغية (أي التي تحتوي على مجموعتين من الكروموسومات) إلى إسراع وتيرة تطوير أصناف مُحَسَّنة من البطاطس4،3 قادرة على تحمُّل الجفاف والأمراض. كما قد يتيح ذلك استحداث سلالات نقية نسبيًا، تنتج من تزاوج الأنواع القريبة تطوريًا بعضها من بعض، وتفتقر إلى التنوُّع الجيني، بحيث يمكن تهجينها لإنتاج صورة واحدة من الهجائن عالية الغلة4،3. وقد يحقق عدد من أصناف البطاطس، سواء البرية، أو القائمة على أنماط زراعية محلية (شكل 1)، فائدةً كبيرة في هذا الصدد، بالنظر إلى أن معظم هذه الأصناف ثنائي الصيغة الصبغية، ويتمتع بثراء جيني غير مُستَغَل، يمكن الاستعانة به في الاستراتيجيات الجديدة لزراعة هذا المحصول.

من هنا عمدتْ تانْج وفريقها البحثي إلى تجميع بيانات عالية الدقة بخصوص التسلسل الجينومي لـ44 صنفًا من البطاطس، سواء من الأصناف البرية، أو القائمة على أنماط الزراعة المحلية. وكان تجميع بيانات التسلسل الجينومي لأنواع ناتجة من تزاوُج سلالات متباعدة تطوُريًا، ومتباينة جينيًا، كأنواع البطاطس، قد ثبتتْ صعوبته. بيد أن واضعي الدراسة تغلبوا على هذه العقبة بفضل أحدث أساليب تعيين التسلسل الجينومي، التي تكشف بدقة عن تسلسلات طويلة من الحمض النووي، يمكن تجميعها للوصول إلى تركيب قطع السلاسل الكروموسومية. كذلك، فإن مجموعة البيانات الضخمة التي استعان بها الباحثون، سمحتْ لهم بالوقوف على المناطق الجينومية التي يختلف فيها الحمض النووي في كل كروموسوم مفرد من الأزواج الكروموسومية عن الآخر (أي على الحالات التي يكون فيها الحمض النووي متغاير الزيجوت) أو التي يتشابه فيها الحمض بين كروموسومي كل زوج (الحالات التي يكون فيها متماثلَ الزيجوت). ويُعد جمع بيانات العديد من التسلسلات الجينومية، لمجموعة متنوعة من الأصناف المهجنة من تزاوُج سلالات متباعدة تطوريًا وعالية التغاير الزيجوتي إنجازًا مذهلًا.

نشأتْ عدة تغيرات جينية لدى أصناف البطاطس، سواء القائمة على أنماط الزراعة المحلية، أو البرية؛ وذلك مع تكيُّفها مع التحديات البيئية المختلفة. ومن ثَمّ، فإن وضع توصيف للعمليات التطورية التي تبرر هذا التبايُن الجينومي قد يكون ذا أهمية لمربي المحاصيل. وقد استعانتْ تانْج وفريقها البحثي ببيانات التسلسل الجينومي تلك لبناء تصوُّر للتاريخ التطوري للبطاطس، والأنواع القريبة تطوريًا منها، مثل الطماطم والأنواع التي تنتمي إلى مجموعة النباتات المعروفة باسم Etuberosum، التي تتميز بسيقان غير درنية تحت الأرض. وقد أشارتْ نتائج الدراسة إلى أن الطماطم هي الأقرب تطوريًا إلى البطاطس، على عكس توقعات تانْج وفريقها البحثي.

ومع ذلك، عندما أعاد واضعو الدراسة تصوُّر التاريخ التطوري لجينات محددة، ظهر اختلاف كبير بين شجرتي تطور النوعين. وفي السابق، نُسبت الأنماط الجينية المختلفة للأنواع محل الدراسة إلى عمليات التهجين5 إلا أن الفريق البحثي أثبت أن جزءًا من هذا التباين الجيني وُجد بالفعل في الأسلاف المشتركة لهذه الأنواع. والتحليل العشوائي لصور التباين الجيني لدى الأسلاف ولانتقاله إلى الأنواع السليلة قد يكشف عن تباين حدث في الشجرة الجينية للنسل دون تهجين؛ إذ برهنتْ تانْج وفريقها البحثي على شيوع حدوث ذلك خلال التاريخ التطوري للبطاطس والأنواع الأقرب تطوريًا لها.

كذلك وضعتْ تانْج وفريقها البحثي قائمة بجوانب مختلفة من التباين الجيني في الجينومات التي عكفوا على دراستها، والتي بلغ عددها 44 جينومًا، من أمثلتها تبايُن المحتوى الجيني، والبنية الجينومية، وتوزيع القطع متماثلة الزيجوت، وصور التبايُن في تسلسلات الحمض النووي الثابتة على مدى تطوُّر النوع، والتي قد تنظم التعبير الجيني. وقد وجدوا مستوى مذهلًا من التباين بين الجينومات في المحتوى الجيني والبنية الجينية. كما أوضح واضعو الدراسة أن جينومات البطاطس، مقارنةً بالطماطم والمجموعة Etuberosum، تتمتع بوفرة من الجينات المقاومة للأمراض، من بينها جينات معروفة بقدرتها على إكساب مقاومة للمُمرِض Phytophthora 6infestans، الذي تسبب في مجاعة البطاطس الأيرلندية المدمِّرة في منتصف القرن التاسع عشر. ويُتوقع أن تساعد هذه القائمة إلى حد بعيد في الوقوف على ملامح هذا التباين الجينومي، وتسخيره لتحسين أصناف البطاطس المزروعة.

وفي النهاية، استخدم الباحثون موارد بيانات استحدثوها لبحث الأساس الجيني لنشوء الدرنات في البطاطس. فبالاستعانة بتحليلات للبيانات الجينية وتقنية التحرير الجيني «كريسبر–كاس-9»، اكتشفوا جينًا غير معروف من قبل، يُسهم في تكوين الدرنات، أطلقوا عليه اسم Identity of tuber (اختصارًا IT1) ومن هنا، مضوا إلى إثبات أن بروتين IT1 يتفاعل مع جزيء تأشير يُسمى SELF-PRUNING 6A (اختصارًا SP6A)، ويشارك في تكوين الدرنات7. وعلى الرغم من أن النتائج التي أوردتْها تانْج وفريقها البحثي لا تذهب إلى حد إثبات أن البروتينين IT1 وSP6A وحدهما يمكنهما التحكم في تكوين الدرنات، فهذه النتائج تمهد الطريق أمام مزيد من التحليل لنشوء هذه العملية وآلياتها الجينية.

وهذه الخريطة الجينومية الشاملة التي وضعتْها تانْج وفريقها البحثي توسِّع بدرجة كبيرة نطاق موارد البيانات الجينومية المتاحة عن البطاطس8-11. ولا شك أن قائمة أوجه التبايُن الجيني التي يعكفون على إعدادها ذاتُ أهمية كبيرة للبحوث الأساسية والتطبيقية. وكما تُبرز الدراسة، يمكن أن تكشف هذه الخريطة الشاملة لجينوم البطاطس العملياتِ التطورية التي تشكل تبايُن هذا المحصول. ومن خلال اكتشاف الجينات المشاركة في عمليات مثل تكوين الدرنات، ومقاومة الأمراض، يمكن أيضًا استخدام هذه الخريطة في استحداث أصناف مُحَسَّنة. على سبيل المثال، يمكن أن تساعد المعارف المكتسبة عن الجينات المشاركة في تكوين الدرنات مربي المحاصيل على استحداث أصناف بطاطس وفيرة الغلة، ويمكن أن يسفر إدخال جينات محددة إلى الأنواع البرية عن تحسين مقاومتها للأمراض.

ومستقبلًا، يمكن للدراسات حول كيفية تأقلم الأنواع البرية، والأنواع القائمة على أنماط الزراعة المحلية مع عوامل الضغط المختلفة، أن تسهم في كشف النقاب عن بعض أوجه الارتباط بين الخصائص الجينية للمحاصيل وسماتها، على نحو يتيح إرشاد تحسين الأصناف المستزرعة، كما هو الحال مع محاصيل أساسية أخرى12. ويُتوقع أن تنتفع أيضًا برامج الزراعة القائمة على علم الجينوم من هذا المورد. على سبيل المثال، يمكن لبعض التغيرات البنيوية في تسلسل الحمض النووي، التي تسمى بالانقلابات، أن تعرقل الجهود الزراعية عن طريق منع انتخاب بعض السمات ذات الأهمية. ويمكن أن تساعد القائمة التي وضعها الفريق البحثي المزارعين في استهداف زراعة الأنواع التي لا تحدث فيها هذه الانقلابات، وهي أنواع تُعد مثيرة للاهتمام فيما يخص عمليات التهجين. وثمة حاجة إلى مزيد من الجهود، للوصول إلى فهم أفضل لمدى شيوع التغيرات الجينية ضعيفة الضرر، وما إذا كانت قد تعرقل الجهود الزراعية. وقد يساعد تحديد المناطق الجينومية متماثلة الزيجوت، التي من المستبعَد أن تحتوي على تغيرات جينية شديدة الضرر، مربي المحاصيل على تجنُّب تراكم هذه التغيرات.

ولا تزال الزراعة المُسترشدة بعلم الجينوم تفجر ثورة على صعيد تحسين المحاصيل. وفيضوءتأثيرتقنيات تعيين التسلسل الجينومي على نحو لا يمكن إنكاره في مجال الزراعة، سيكون من الضروري ضمان تحقق العدل والإنصاف في توفيرالأدواتوموارد البيانات الجينومية على نطاق واسع 13. ويُعد الإعلان عن الخريطة الجينوميةالشاملةالتيوضعتْهاتانْج وفريقها البحثي خطوةً أولى مهمةعلى الطريق إلىتحقيقهذاالإنصاف. وسيكون تسهيل توفير أصناف البطاطس التي يجري تطويرها بفضل ذلك، وعن طريق موارد جينومية أخرى، على القدر نفسه من الأهمية.

اضف تعليق