عندما نحاول تخيُّل شيءٍ لم نره من قبل، فإننا غالبًا ما نربطه تلقائيًّا بإحدى الصور المألوفة، لهذا السبب عادةً ما نجد أنفسنا في سياق بحثنا عن طبيعة الحياة في الفضاء الخارجي نبحث عن أشكال الحياة التي نعرفها، لكن هل من سبيل إلى أن نطلق العنان لخيالنا ونشرع في تصور الحياة التي لا نعرفها؟...
بقلم آفي لوب
يهتم جانب كبير من علم الأحياء الفلكي بالبحث عن كائنات لها تركيب كيميائي مشابه لنا.. ولكن من الوارد أن تكون هناك كائنات أخرى مختلفة.
في أحد الدروس التي ألقيتها خلال الفصل الدراسي الماضي ضمن مقررات الطلاب الجدد في جامعة هارفارد الأمريكية، ذكرت أن معظم الإشعاعات الصادرة عن أقرب نجم للشمس، الذي يسمى «قنطور الأقرب»Proxima Centauri ، هي الأشعة تحت الحمراء، وأن لهذا النجم كوكبًا تابعًا يسمى «بروكسيما بي» Proxima b، وهو موجود في النطاق الصالح للحياة المحيط بهذا النجم، وفي محاولة لشحذ اهتمام الطلاب سألتهم: "لنفترض أن هناك كائنات تدب على سطح «بروكسيما بي»، كيف تتخيلون شكل عيونها الحساسة للأشعة تحت الحمراء؟"، لم تمض عدة ثوانٍ حتى جاءتني الإجابة من ألمع طالبة في المجموعة، إذ عرضت صورة جمبري فرس النبي، الذي يُرى بالأشعة تحت الحمراء، تبدو عيون هذا المخلوق مثل كرتي تنس طاولة متصلتين برأسه بواسطة حبلين، وأضافت الطالبة هامسةً: "يبدو وكأنه كائنٌ فضائي".
عندما نحاول تخيُّل شيءٍ لم نره من قبل، فإننا غالبًا ما نربطه تلقائيًّا بإحدى الصور المألوفة، لهذا السبب عادةً ما نجد أنفسنا في سياق بحثنا عن طبيعة الحياة في الفضاء الخارجي نبحث عن أشكال الحياة التي نعرفها، لكن هل من سبيل إلى أن نطلق العنان لخيالنا ونشرع في تصور الحياة التي لا نعرفها؟
تم بالفعل اتباع مثل هذه المنهجية في دراسات الفيزياء منذ قرن من الزمان، وأثبتت نجاحها في العديد من السياقات، تتمثل هذه المنهجية في إجراء تجارب معملية بقصد الكشف عن القوانين الأساسية للفيزياء، التي تنطبق بدورها على الكون بأسره، على سبيل المثال، في نحو الوقت نفسه الذي اكتُشف فيه النيوترون داخل مختبر جيمس تشادويك في عام 1932، طرح ليف لينداو فكرة وجود نجوم مكونة من النيوترونات، وبالفعل اكتشف علماء الفلك لاحقًا حوالي 100 مليون نجم نيوتروني في مجرتنا «درب التبانة» Milky Way وحدها، وأكثر من ذلك بمليار ضعف في الكون المرصود، كما التقطت تجربة «مرصد قياس تداخل الموجات الثقالية بالليزر» في الولايات المتحدة (LIGO) مؤخرًا إشاراتٍ لموجات ثقالية ناجمة عن اصطدامات بين النجوم النيوترونية على بُعد سنين ضوئية، ويسود الآن الاعتقاد بأن مثل هذه الاصطدامات هي التي تنتج لنا الذهب الثمين الذي تصاغ منه خواتم الزواج، المغزى من هذه القصة هو أن الفيزيائيين كانوا قادرين على تخيُّل شيء جديد في الكون الممتد، والبحث عنه في السماوات باستخدام الأفكار التي أخذوها من التجارب التي أُجريت على الأرض.
يمكن أن تنتهج عملية البحث عن الحياة في الفضاء الخارجي نهجًا مشابهًا؛ فمن خلال استخدام مواد كيميائية في المختبر يمكننا تخليق أشكال مختلفة من الحياة التركيبية، تجعلنا بدورها قادرين على تخيُّل بيئات جديدة تختلف فيها الحياة عن حياتنا على الأرض، يشبه هذا الأمر عملية إعداد كتاب لوصفات طهي يحتوي على وصفات لخَبز أنواع مختلفة من الكعك، إذ يتطلب تأليف كتاب وصفات فيزيائي حيوي دسم، أن نجرب أنواعًا عديدةً من المواد الكيميائية، وكما أشرت أيضًا في ورقة بحثية كتبتها بالاشتراك مع ماناسفي لينجام، فقد تَستخدم تلك التجارب سوائل أخرى غير الماء، الذي يُعدُّ ضروريًّا للحياة التي نعرفها.
أما الآن فإن أحد زملائي في جامعة هارفارد، جاك جوستاك، الحائز لجائزة نوبل، على وشك النجاح في تخليق حياة تركيبية داخل مختبره، وقد يدلنا نجاح أي وصفة من هذه الوصفات على صيغ أخرى تقودنا إلى مجموعة متنوعة من النتائج، ليتم جمعها في كتاب وصفاتنا للحياة التركيبية، ولو أننا نجحنا من خلال تجاربنا المعملية في تحديد الظروف البيئية المناسبة للحياة في الفضاء الخارجي، فقد يمكننا لاحقًا الانطلاق إلى السماء للبحث عن أجرام حقيقية تتوافر فيها هذه الظروف، تمامًا كما حدث في حالة النجوم النيوترونية.
لكن هذا النهج يحتِّم علينا التعامل بالحذر نفسه الذي نتعامل به مع استخدام الطاقة النووية، ينطوي تخليق أشكال حياة تركيبية مختلفة في مختبراتنا على مخاطر حدوث كارثة بيئية كالتي ترسمها لنا قصة فرانكينشتاين، لذا يجب إجراء مثل هذه التجارب في بيئات معزولة بحيث لا تتسبب أي حوادث مؤسفة قد تقع في نطاق الحياة التي لا نعرفها في الإضرار بالحياة التي نعرفها.
وبالرغم من أن العلماء قادرون على استكشاف أسطح الكواكب والكويكبات عن بُعد بحثًا عن مؤشرات بيولوجية، إلا أن أشكال الحياة في الفضاء الخارجي قد توجد بشكل أكبر تحت أسطح هذه الأجرام وليس على سطحها، فقد تتوافر الظروف الصالحة للحياة في المحيطات الواقعة تحت الأسطح الجليدية السميكة، ليس فقط داخل أقمار مثل قمر «إنسيلادوس» Enceladus التابع لكوكب زحل، أو قمر «يوروبا» Europa التابع لكوكب المشتري، بل أيضًا داخل أيٍّ من الأجسام الحرة السابحة في الفضاء الخارجي، وفي أبحاث أخرى أجريتها مع لينجام، أوضحنا أن عدد الأجرام التي توجد عليها الحياة قد يتجاوز عدة أضعاف عدد الكواكب الصخرية في النطاق الصالح للحياة المحيط بالنجوم.
إن تكيُّف أشكال الحياة مع البيئات القاسية يمكن أن يتخذ صورًا غريبة، كما يتجلى لنا في الكائنات التي تحيا وسط الظروف المتطرفة على كوكب الأرض؛ فعلى سبيل المثال، اكتُشفت مؤخرًا حيوانات متجمدة متناهية الصغر ظلت حية لمدة 24,000 عام في التربة الصقيعية في سيبيريا، كما اكتُشفت كائنات ميكروبية استمرت حيةً مدة 100 مليون سنة تحت قاع البحر، إذ وُلدت خلال العصر الطباشيري الدافئ عندما كانت الديناصورات تسيطر على كوكب الأرض.
أما في النظام الشمسي، فقد اكتُشف أن أكثر الكواكب المجاورة التي تتميز بظروف مشابهة لكوكب الأرض هما كوكبا الزهرة والمريخ، وقد أطلقت وكالة «ناسا» NASA الأمريكية مؤخرًا بعثتين جديدتين لدراسة كوكب الزهرة، بينما يستقصي المتجول الكوكبي التابع لها «بيرسيفيرانس» Perseverance أي آثار للحياة على كوكب المريخ، وإذا عُثر على الحياة في الفضاء الخارجي، فإن السؤال الرئيسي التالي هو عما إذا كانت الحياة الموجودة هناك تشبه صورة "الحياة التي نعرفها"، وإذا لم يكن الأمر كذلك، فسوف ندرك وقتها أن الحياة في الطبيعة يمكن أن تتحقق بفعل مسارات كيميائية متعددة، أما إذا وجدنا دليلًا على أن الحياة في كوكب المريخ أو الزهرة تشبه الحياة على الأرض، فقد يشير هذا إلى أفضلية خاصة "للحياة التي نعرفها"، أو قد يبقى احتمالٌ آخر متمثلًا في أن الحياة قد انتقلت بين الكواكب بواسطة الصخور التي تجوب الفضاء من خلال عملية تسمى التبذر الشامل، وقد اشتركت مع تلميذي أمير سراج في كتابة بحث يوضح أن الأجرام المتاخمة للكواكب ربما تكون قد ساعدت في انتقال الحياة بينها، كما يجب أن نضع في حسباننا الاحتمالية الضعيفة بأن الحياة قد استُزرعت في النظام الشمسي الداخلي بواسطة "فاعل من خارج المجموعة الشمسية"، أي من خلال "التبذر الشامل الموجه".
من أكثر ذكريات طفولتي وضوحًا وزهاءً المحادثات التي كانت تدور على العشاء حين كان الكبار يتظاهرون بأنهم يعرفون أكثر بكثير مما يعرفون في الواقع، كان هذا بلا شك شكلًا من أشكال "التجمّل الفكري" الذي استخدموه لتحسين مظهرهم، وعندما كنت أسأل سؤالًا لا يعرف إجابته أيٌّ من هؤلاء المدّعين، كانوا ينصرفون عنه باعتباره غير ذي أهمية، لا تختلف تجربتي كعالِم متمرس عن هذه التجارب، خاصةً عندما أطرح السؤال: "هل نحن أذكى طفل في الحي الكوني؟".
يمنحنا العلم مزية الاحتفاظ بفضول الأطفال؛ إذ إن عملية تقدُّم المعرفة العلمية من خلال التجريب مستمرة ولا يمكن تعطيلها، فلنأمل إذًا أن نجد وصفةً للحياة الاصطناعية تتيح لنا أن نتخيل وجود كائنات يفوق ذكاؤها الحياة الطبيعية التي عرفناها حتى الآن، وهي تجربة سوف نتعلم منها أننا نجهل أمورًا كثيرة، ولكن حتى لو لم نتمكن من اكتشاف هذا الذكاء الفائق من داخل مختبراتنا، فقد تظهر إحدى علاماته في سمائنا كرسالة أرسلها أحد الجيران الذين يسكنون أحد الأحياء النائية في مجرة «درب التبانة»، وقتها سنبحث عن هذا المكان مستخدمين تلسكوبات «مشروع جاليليو» Galileo Project الذي أُعلنَ عنه مؤخرًا.
اضف تعليق