للعفو الدور الأبرز في بناء وشائج المجتمع بقطع دابر العداوة بين أفراده وإعادة الألفة والانسجام بينهم وبالوقت عينه يمكن للعفو ان يسهم في لم شمل الأسر وتخفيف الأعباء التي تلقى على عاتق بعض الأفراد بسبب غياب المعيل، ومن شأنه ان يقلل من نفقات الدولة التي تخصص لإقامة السجون والمحابس...
يعرف العفو على أنه تنازل الهيئة الاجتماعية عن حقها في فرض العقوبة على الجاني، ويتم ما تقدم بالعادة بقانون يصدر عن ممثلي الهيئة الاجتماعية أي البرلمان، فيؤدي ذلك إلى رفع صفة الجنائية أو الحظر عن الفعل (الموصوف بأنه جريمة) ويصبح مباحاً لمن وقع منه ذلك.
وقد اشترط المشرع في العراق والكثير من دول العالم ان يصدر العفو بقانون ولما كانت الجريمة تهدد كيان المجتمع ومصالحه العليا وتخل بنظامه الاجتماعي والإنساني فان المجتمع نفسه أو من يمثله مخول بإصداره وتحديد نطاقه الشخصي أو الموضوعي وامتداده إلى الجرائم المكتشفة أو غير المكتشفة بعد.
أضف لما تقدم هو الذي يحدد شمول أحكام الإدانة والأمر بوقف الإجراءات الجزائية، والأصل ان قانون العفو العام يفضي إلى إلغاء العقوبات الجزائية التي سبق ان صدرت قبل نفاذه، ومنها العقوبات الأصلية والتبعية والتكميلية وحتى التدابير الاحترازية، بمعنى ان قانون العفو من شأنه أن يزيل صفة التجريم عن الفعل المخالف لأحكام القانون فيصبح فعلاً مباحاً.
كما ينتج عن العفو العديد من الآثار ومنها إعادة الأشياء التي تم حجزها باستثناء ما يعد حيازتها جريمة بحد ذاتها كالمخدرات أو الأسلحة غير المرخصة بيد ان العفو لا يمتد ليشمل ما تم تنفيذه من العقوبات أو الآثار المدنية التي تتمثل بدفع التعويضات أو إعادة الحال إلى ما كان عليه قبل ارتكاب الجريمة لتعلق ما سبق بحقوق الأفراد التي لا تملك الدولة التنازل عنها، والى هذا المعنى أشارت المادة (153) من قانون العقوبات العراقي رقم (111) لسنة 1969 المعدل بالنص على ((العفو العام يصدر بقانون ويترتب عليه انقضاء الدعوى ومحو حكم الإدانة الذي يكون قد صدر فيها، وسقوط جميع العقوبات الأصلية والتبعية والتكميلية والتدابير الاحترازية، ولا يكون له أثر على ما سبق تنفيذه من العقوبات، ما لم ينص قانون العفو على غير ذلك، ولا يمس العفو العام الحقوق الشخصية للغير)).
بمعنى ان المتضرر من الجريمة التي تم شمولها بقانون العفو العام يمكنه مراجعة المحاكم المدنية للحصول على التعويض، وقد حرصت الأديان السماوية لاسيما الدين الإسلامي على إرساء معالم العفو والرحمة والتسامح بين أبناء المجتمع الواحد، فالإسلام دين العفو حيث أكدت الآيات القرآنية الكريمة على ذلك لأهميته في بناء أسس المجتمع الإسلامي الذي يقوم على السلم الاجتماعي والأمن الإنساني.
وقد ضرب لنا الرسول الأكرم محمد صلى الله عليه واله وسلم المثال الأبرز في العفو عندما عفو منذ اليوم الأول عن المشركين وسأل الله لهم الهداية لجهلهم، ثم بعد معركة بدر أعلن العفو عن الأسرى في حال تولوا تعليم عشرة من المسلمين القراءة والكتابة وهكذا في مناسبات عدة أبرزها عند فتح مكة المكرمة حين أعلن العفو والأمن لجميع الناس حتى من أرتكب أبشع الجرائم كقاتل الحمزة عم النبي ما أسهم في بناء شخصية الإنسان المسلم التي تدرك أهمية العفو عن الناس لصيانة مصلحة أكثر أهمية تتمثل في العيش المشترك، وعلى النهج ذاته سار الإمام علي عليه السلام حيث يذكر عامله على مصر الصحابي الجليل مالك الأشتر رضوان الله تعالى عليه بأهمية العفو فيقول ((اعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب وترضى ان يعطيك الله من عفوه وصفحه)).
فللعفو الدور الأبرز في بناء وشائج المجتمع بقطع دابر العداوة بين أفراده وإعادة الألفة والانسجام بينهم وبالوقت عينه يمكن للعفو ان يسهم في لم شمل الأسر وتخفيف الأعباء التي تلقى على عاتق بعض الأفراد بسبب غياب المعيل، أضف لكل ما تقدم فإن من شأنه ان يقلل من نفقات الدولة التي تخصص لإقامة السجون والمحابس، وما ينتج عن الاختلاط بين الموقوفين والمحكومين في تلك السجون إذ يكون ذلك سبباً في انحراف البعض أو إمعانهم في عالم الجريمة فالمحكوم بجريمة بسيطة أو غير عمدية قد يحترف الإجرام فيما بعد بسبب معايشته لعتاة المجرمين.
ويمكن لقانون العفو العام بهذا ان يلعب دوراً مكملاً للسياسة الجنائية القائمة على تبني بدائل للعقوبات الجزائية السالبة للحرية لاسيما تلك التي تعد قصيرة المدة أو تلك التي من شأنها ان توجب للمحكوم النظرة الاجتماعية السلبية التي قد تلاحقه بقية أيام حياته أو توجب له الاحتقار بين أبناء مجتمعه كالحكم على الإناث بالعقوبات الجزائية السالبة للحرية أو بعض الأشخاص ممن يملك سجلاً مدنياً نظيفاً خالياً من المخالفات.
وفي الوقت ذاته هنالك محاذير في إقرار قانون العفو فمن شأنه ان يطلق سراح بعض المجرمين أو المدانين بجرائم تعد خطيرة لذا يتحتم ان يتم تحديد نطاق العفو العام ليستهدف الجرائم الأقل خطورة على المصلحة العامة والمدانين الذين يرجى إصلاحهم بعيداً عن المؤسسات الإصلاحية المخصصة لاحتجاز الأشخاص والتغلب على بعض العقبات المالية والإدارية ولمنع الإفلات من العقاب، فهنالك العديد من الجرائم يفترض عدم شمولها لخطورتها على المجتمع ومنها الإرهابية أو المخلة بالشرف أو الجرائم الدولية كالإتجار بالمخدرات أو الأعضاء البشرية أو الجنس أو غيرها.
إضافة إلى ما تقدم فإن العقوبات الانضباطية أو التأديبية يفترض ان يكون شمولها بالعفو من عدمه محل دراسة وتمعن وتكمن الفلسفة وراء ذلك في الانفصال بين الجريمة الجنائية والمخالفة التأديبية فليس كل جريمة جنائية تعد مخالفة تأديبية أو العكس، بيد ان بعض الأفعال يمكن ان تشكل مخالفة وظيفية وجزائية في الوقت عينه كما لو أقدم موظف على السرقة فالفعل هذا يشكل جريمة مخلة بالشرف لا يستقيم بقاءه معها بالوظيفة العامة حتى لو تم شمولها بقانون العفو العام والسبب بسيط ان هذا الشخص فقد الثقة والاعتبار الذي يعد محور وشرط أساس لاختيار الإدارة لموظفيها ولا يمكن بحال من الأحوال التفكير في عودته إلى الخدمة العامة كونه لا يؤمن جانبه في المستقبل، فقد يعود إلى ذات الأفعال كما ان الإدارة العامة تتمتع بالاعتبار ولا يستقيم معه ان يكون ممثلها من ذوي الأخلاق السيئة أو المعروف بالسوابق الجنائية ما يجعل الأفراد يحاذرون في التعامل معه، علما ان اقتران العقوبة الانضباطية بالجزائية يكون وفق الآتي:
الحالة الأولى: حين يكون الاقتران بحكم القانون حيث ينص قرار مجلس قيادة الثورة المنحل رقم (18) لسنة 1993 على أنه ((الحكم بالعقوبة في جرائم الرشوة أو الاختلاس أو السرقة يستتبعه بحكم القانون عزل الموظف من الخدمة وعدم جواز تعيينه في دوائر الدولة والقطاع العام)).
الحالة الثانية: حين يكون الاقتران بحكم الواقع بمعنى ان الواقعة المسندة إلى الشخص تشكل جريمة جنائية وانضباطية بالوقت عينه فيصدر عنها حكم جزائي وتقوم الإدارة من جانبها بمعاقبته تأديبياً فان شمول الجريمة الجزائية بالعفو ليس من شأنه ان يشمل العقوبة الانضباطية، إلا ان وجد نص خاص بذلك وهذا ما انتهت إليه محكمة قضاء الموظفين في العراق في أكثر من مناسبة، في الوقت الذي أشار فيه قرار مجلس قيادة الثورة المنحل رقم (997) لسنة 1978 إلى إمكانية عودة المحكوم عليه بعد انتهاء مده محكوميته إلى الخدمة ما لم يفقد شرطا من شروط التعيين، ونرى لصيانة السلم الاجتماعي أهمية قيام مجلس النواب العراقي بسن قانون رد الاعتبار والذي كان نافذا فيما سبق في العراق بموجب القانون رقم (3) لسنة 1967، إلا ان النظام البائد قام بإلغائه فارتكاب الجريمة أو صدور الحكم على الشخص لا يعني نهاية العالم بل يمكن ان يصلح شأن هذا الشخص فيكون مؤهلاً لخدمة بلده أضف لذلك لضمان العيش الكريم له ولأسرته يحتاج إلى ما تقدم.
ومن الواضح ان القرآن الكريم يعد العفو عن الناس أصل وليس حالة استثنائية يقول تعالى ((خذ العفو وأأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين))، كما أن المواثيق الدولية وجهود المنظمات الدولية في الوقت الحاضر تنصب على الدعوة إلى العفو لضمان الاستقرار في المجتمعات المضطربة ليكون مقدمة للمصالحة الوطنية لضمان العودة مجددا لحالة السلام أو الوئام المجتمعي، والعيش المشترك وتعزيزاً للسلم المجتمعي، كما ان بعض التطبيقات القانونية المعاصرة تشير إلى السماح للمحكوم عليهم أو المتهمين بجرائم الاستيلاء غير المشروع على الأموال العامة بضرورة تسليم ما لديهم من أموال لأجل شمولهم بالعفو عنهم.
وما تقدم ضروري لبناء حالة من الثقة بين الحكومة وبين الأفراد وسبباً للتخفيف من حالات الإدانة واكتظاظ المعتقلات أو السجون وتشجيعاً للفارين من وجه العدالة على تسليم أنفسهم إلى المحاكم المختصة من لأجل شمولهم بالقانون وتسوية أوضاعهم القانونية.
ومما تجدر الإشارة إليه ان التشريع العراقي تضمن أنماطاً عدة من العفو عن المتهمين أو المحكومين ومن أهمها:
1- العفو الخاص: وهو ما أشار إليه الدستور العراقي للعام 2005 بالمادة (73) ضمن اختصاصات رئيس الجمهورية المتمثل في ((إصدار العفو الخاص بتوصية من رئيس مجلس الوزراء باستثناء ما يتعلق بالحق الخاص والمحكومين بارتكاب الجرائم الدولية والإرهاب والفساد المالي والإداري)).
2- عرض العفو على المتهم في مرحلة التحقيق بموجب المادة (129) من قانون أصول المحاكمات الجزائية النافذ رقم (23) لسنة 1971 والتي تنص ((لقاضي التحقيق ان يعرض العفو بموافقة محكمة الجزاء لأسباب يدونها في المحضر على أي متهم بجناية بقصد الحصول على شهادته ضد مرتكبيها الآخرين بشرط ان يقدم المتهم بياناً صحيحاً كاملاً عنها فإذا قبل هذا العرض تسمع شهادته وتبقى صفته متهماً حتى يصدر القرار في الدعوى))، وما تقدم أسلوب قضائي الهدف منه اكتشاف الجرائم الخطيرة والغامضة التي تهدد أمن واستقرار المجتمع، وبالتالي يمكن ان يحقق فائدة كبيرة تعود على المجتمع وعلى الأفراد، كما ان عرض العفو على المتهم يختلف عن العفو القضائي الذي يحدث بصور منها الإخبار عن بعض الجرائم، فقد أشارت المادة (303) من قانون العقوبات العراقي رقم (111) لسنة 1969 المعدل إلى ((يعفى من العقوبة من ارتكب جريمة من جرائم تقليد أو تزوير الأختام أو السندات أو الطوابع أو تزييف العملة وتزوير أوراق النقد والسندات المالية وتزوير المحررات الرسمية إذا أخبر بها السلطات العامة قبل تمامها وقبل قيام تلك السلطات بالبحث والاستقصاء عن مرتكبها وعرفها بفاعليها الآخرين، أما إذا حصل الإخبار بعد قيام تلك السلطات بذلك فلن يعفى من العقوبة إلا إذا كان الإخبار قد سهل القبض على أولئك الجناة))، والعفو بسبب سن الفاعل والعفو عن الأجنبي عند جهلة بالقانون فكلها صور لعفو جوازي لا تتصل بصفة الإلزام وهي تنصب على شخص الذي ارتكب الجريمة دون المساهمين معه ممن ساهموا في ارتكاب الجريمة.
اضف تعليق