الإيمان بالإمام المهدي في فترة الغيبة يجب ان يقترن بعمل دؤوب يترجم إلى خطوات عملية من شأنها ان تجعل الفرد المسلم إنسانا صالحاً وإيجابياً مؤثراً في أسرته ومجتمعه يحمل مسؤولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للتصدي للانحراف أياً كان صورته أو من يقف خلفه، وإنكار المنكر والفساد والتجبر والغرور...
لما كان الإمام المهدي سليل بيت النبوة ووارث النبي الأكرم محمد صلى الله عليه واله وسلم، وأبن الأئمة الطيبين المطهرين فكيف لنا ان نتصور الحقوق والحريات في دولته الكريمة؟
سؤال يراود مخيلة جميع بني البشر فقد شهدت الأرض ومن عليها على أربع سنوات ونيف حكم فيها أمير المؤمنين علي أبن أبي طالب الدولة الإسلامية في خواتيمها أضحى عمال الدولة يطوفون على قمم الجبال ليضعوا الطعام للطيور والهوام فكيف بك لو أعيدت الكرة وولي الأمر الإمام المهدي المنتظر عليه السلام في ظل التطور العلمي والتقني المنظور في يومنا هذا؟
يحتفل المسلمون في كل عام بذكرى ولادة الإمام الثاني عشر من أئمة الحق ليلة الخامس عشر من شهر شعبان التي توافق ليلة ولادة المهدي المنتظر عام 255 هجرية الموافق (869) ميلادية في مدينة سامراء أبان حكم الدولة العباسية للأمة الإسلامية، وورد عن أئمة الهدى عليهم السلام ان الله أعده ليكون المنقذ والمخلص من الظلم والاستبداد والمجدد للدين الإسلامي الخاتم للشرائع والديانات، ولما تقدم يبدو لنا جلياً أن وظيفته الأهم هي التأسيس للدولة العادلة والقضاء على مظاهر وأسباب الظلم والطغيان.
فمن المنطقي قولنا ان أنعمنا النظر في الآية المباركة التي تفيد المعنى المتقدم بقولها ((ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ)) والحق قرين العدل بأن تعطي كل ذي حق حقه فيكون لكل منا ولكل الموجودات حقوق وحريات ويعيش الإنسان في هذه الحياة وهو مطمئن على نفسه وعرضه وماله، فمن أخص واجبات الدولة والقائمين على شؤونها لاسيما إن كانوا معدين لهذا الغرض تكوينياً ونفسياً وثقافياً ان تصون ما تقدم لكل الأفراد لقوله تعالى ((وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ))، ما يدل على ان الملائكة توقعت أن الإنسان قد يعتدي على الحقوق فخمنت انه سيفسد في الأرض بمعنى ينتهك الحقوق والحريات بيد ان الله تعالى اخبرهم بعلمه بما لم يعلموا بجعل بعض الأناس من الصالحين خلفاء لله في الأرض ليعمروها ويحقوا الحق بالقول والعمل يقول جل جلاله ((وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ)).
فلله حقوق على الإنسان ولأخيه الإنسان وللبيئة أو الوطن الذي يعيش فيه حقوق وتتفرع عما تقدم حقوق للوالدين والأقربين والزوج والولد والجار وغيرهم كثير، وهو ما اختصره الإمام السجاد في رسالة الحقوق التي تمثل ميثاق مدني متكامل يؤسس لحياة بعيدة عن كل صور الظلم والطغيان والاستبداد لاسيما في علاقة الحاكم بالمحكوم، والحقوق في مدرسة أهل البيت هي الركن القانوني المتين في العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والدينية فالمسلم والحاكم المسلم مسؤول عن صيانة وتعزيز الحقوق والحريات حتى الدينية منها لقوله تعالى ((لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ))، بعبارة أخرى حرص النبي الأكرم والأئمة من بعده عليهم السلام على تكريس حقيقة ان الحقوق هي عهد الله لدى الحاكم فلابد ان يفي بها ويحفظها ويؤديها إلى أهلها وإلا كان خائناً للأمانة وغير جدير بالثقة والمسؤولية يقول أمير المؤمنين علي عليه السلام ((أفضل الجود إيصال الحقوق إلى أهلها)).
فظهوره المرتقب يمثل بارقة أمل للجميع لاسيما لتجديد الشرائع السماوية التي طمست معالمها ودرست مفاهيمها لذا ورد في الدعاء ((اللّهُمّ اظهر به دينك، وسنّة نبيّك عليه وآله السلام)) وورد في دعاء الافتتاح قول المعصوم عليه السلام ((اللّهُمّ إنّا نرغب إليك في دولة كريمة، تعزّ بها الإسلام وأهله، وتذلّ بها النفاق وأهله))، فالإمام الموعود يمثل القيادة الإسلامية القادرة على إحياء المفاهيم الدينية والإنسانية بجميع جوانبها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ومجرد تبني فكرة الإمام الموعود تدل على عظيم الاعتقاد بوجوب الاحترام للحقوق والحريات التي سيسخر لها الله تعالى جنوداً يدافعون عنها.
ولابد من التذكير أنه عليه السلام سيسعى إلى بث روح وثقافة السلم والسلام والحوار وتقبل الآخر إذ ورد في الأثر عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال ((هو والله المضطر في كتاب الله في قوله "أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ ۗ أَإِلَٰهٌ مَّعَ اللَّهِ ۚ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ")).
وليس غريباً عن الإمام المهدي المعنى المتقدم فهو ابن من بعث رحمة للعالمين فكان في حركاته وسكناته رؤوفاً رحيماً بالمؤمنين وان الفلسفة من وجوده وقيامه المبارك تتوج جهود جميع الأنبياء والمرسلين والصالحين وهدفه الأهم انتشال الإنسانية من براثن الطمع والتوسع على حساب المقهورين والمستضعفين، فانتسابه عليه السلام إلى النبي الأكرم وأهل البيت عليهم السلام دليل قطعي أنه امتداد طبيعي للنهج الإنساني القويم الذي انتهجه آنذاك جده رسول الله يوم فتح مكة بعد أن سمع أحدهم ينادي بأن اليوم يوم الملحمة أمر أمير المؤمنين علي عليه السلام بأخذ الراية والنداء بالمرحمة وصيانة الحرمات.
الإمام المهدي وريث هذه الشجرة الطيبة المباركة وجهوده في بناء دولة العدل من شأنها ان تكمل النهج والأسلوب والفكر المحمدي الأصيل، ولذا ورد في الأثر عن صادق العترة الطاهرة أنه قال ((إذا أذن الله عز وجل للقائم في الخروج، صعد المنبر، ودعا الناس إلى نفسه وناشدهم بالله ودعاهم إلى حقه، وأن يسير فيهم بسيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ويعمل فيهم بعمله)) وهو بالمحصلة ابن الإمام الحسين عليه السلام الذي بكى رحمة بالقوم الذين يقتلونه ودعاهم ونصحهم بالرشد وترك الغي والعدوان، ولذا يتوقع منه عليه السلام الرحمة بالناس واللطف بهم وصيانة حقوقهم وحرماتهم أمتثالاً لقوله تعالى ((وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ، إِنَّ فِي هذَا لَبَلاغًا لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ)).
ونعتقد ان الإيمان بالإمام المهدي عليه السلام في فترة الغيبة يجب ان يقترن بعمل دؤوب يترجم إلى خطوات عملية من شأنها ان تجعل الفرد المسلم إنسانا صالحاً وإيجابياً مؤثراً في أسرته ومجتمعه يحمل مسؤولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للتصدي للانحراف أياً كان صورته أو من يقف خلفه، وان من مصاديق الإيمان بالأئمة عليهم السلام إنكار المنكر وأخصه الفساد المالي والإداري والتجبر والغرور الذي يعيشه اليوم الكثير من الأفراد في مجتمعاتنا الإسلامية وكذا نظيرتها الغربية، وان مقاومة الذوبان في الثقافات المستوردة هدف يستحق العمل لأجله.
لذا التذكير بولادة الإمام المنقذ تذكير للمجتمع بالفضيلة التي حملها أهل البيت وضحوا من أجلها وان فكرة وجود إمام مسلم غائب مترقب للإحداث تعد دافعا معنويا كبيرا للمسلمين لاستذكار القيم السمحاء التي رسختها الشريعة الإسلامية وان الدولة المنشودة هي مشروع عالمي أممي متكامل هدفه الإنسان ونصرة الحقوق والحريات الحقة، فلا فرق بين الناس بسبب الجنس أو اللون أو العرق، يقول الله تعالى في محكم كتابه المجيد ((إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُم))، وان الإمام عليه السلام سيسير بسيرة أهله وأجداده الكرام في السعي إلى العدالة والمساواة المطلقة ونبذ العنف والعدوان فيكون هذا المنهج القويم سبب ميل القلوب إلى دعوته المباركة رغم ان الكثيرين انبروا إلى الإساءة لعقيدة المسلمين بوجود المخلص في أخر الزمان إلا ان كل محاولاتهم باءت بالفشل، بدليل لازال الزمان والمؤمنون في كل أصقاع الأرض يحتفلون بميلاده المبارك ليلة النصف من شعبان ويحيون هذه المناسبة بوصفها صرخة حق بوجه الطغيان أياً كان يقول الله تعالى ((يرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ)).
ومن نافلة القول ان نفي التشاؤم الذي يسود بعض الأوساط اليوم واليأس من إصلاح الأوضاع العامة وان أبوب الحلول استحكم إغلاقها وفتحت أبواب الظلم والطغيان الممنهج، إذ بلغ مستويات خطيرة وغير مسبوقة، بيد ان الأمل المعقود بدولة الحق الإلهي تعطي للإنسان الأمل بغد مشرق يزول فيه الظلم والجور والبغي، حيث يعدنا القرآن الكريم بذلك بقوله تعالى ((وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا))، فالله سبحانه وتعالى يعد في محكم كتابه العزيز أهل الإيمان ان العاقبة لهم وان الظلم والجور إلى زوال مهما طال بقائه إذ ورد في الروايات الشريفة المسندة إلى النبي الأكرم أنه ((لن تذهب الدنيا حتى يخرج رجل منا أهل البيت يحكم بحكم داود وآل داود لا يسأل الناس البيّنة))، فمن المعروف قرآنياً ان النبي داود عليه السلام وابنه النبي سليمان عليه السلام كانا يحكمان بين الخصوم بالاعتماد على الأدلة القطعية المبنية على الحقيقة الكاملة بدل الاعتماد على الإثبات بوسائل الإثبات الظنية التي تستند إلى القياس أو الاستدلال المنطقي، وما تقدم يعد من أهم ضمانات الحقوق والحريات بل هو دعامة أساسية لحل المنازعات على نحو من العدالة بما يقطع دابر المشاكل والنزاعات.
اضف تعليق