إنسانيات - حقوق

الجار ثم الدار

لرابطة حسن الجوار دور كبير في حركة المجتمع التكاملية، فهي تأتي في المرتبة الثانية من بعد رابطة الأرحام، إذ للجوار تأثير متبادل على سير الأسرة، فهو المحيط الاجتماعي المصغر الذي تعيش فيه الأسرة وتنعكس عليها مظاهره وممارساته التربوية والسلوكية، ولذا قرن القرآن الكريم عبادة الله تعالى والإحسان إلى الوالدين...

من المواضيع البالغة الأهمية في منظار أهل البيت (عليهم السلام) والتي أولوها عناية فائقة هو موضوع حسن الجوار لما له من المدخلية الكبرى في تماسك المجتمع.

دور حسن الجوار على المجتمع

لرابطة حسن الجوار دور كبير في حركة المجتمع التكاملية، فهي تأتي في المرتبة الثانية من بعد رابطة الأرحام، إذ للجوار تأثير متبادل على سير الأسرة، فهو المحيط الاجتماعي المصغر الذي تعيش فيه الأسرة وتنعكس عليها مظاهره وممارساته التربوية والسلوكية، ولذا قرن القرآن الكريم عبادة الله تعالى والإحسان إلى الوالدين بالإحسان إلى الجار، فقال عز من قائل: (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل) (1).

واعتبر رسول الله (صلى الله عليه وآله) إكرام الجار من علائم الإيمان، فقال: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره (2).

من هو الجار؟

الجار هو من يسكن في الجوار، سواء أكان من الأرحام والأقرباء أم لا، وسواء أكان من نفس الديانة والعقيدة أو لا، فلا مدخلية للعقيدة والقرابة بانطباق مفهوم الجار.

وقد حدّد الإسلام الجار بمن يقرب من منزل الإنسان بأربعين داراً من كل الجهات، ففي الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: أربعون دارا جار (3).

وعن أميرالمؤمنين (عليه السلام) قال: حريم المسجد أربعون ذراعاً، والجوار أربعون دارا من أربعة جوانبها (4).

أقسام الجيران

قسّم رسول الله (صلى الله عليه وآله) الجيران إلى ثلاثة أقسام حسب حقوقهم، فقال: الجيران‏ ثلاثة: فمنهم من له ثلاثة حقوق حق الإسلام وحق الجوار وحق القرابة، ومنهم من له حقان حق الإسلام وحق الجوار، ومنهم من له حق واحد الكافر له حق الجوار (5).

اختر من تجاور

قبل أن يسكن الإنسان منطقة ما ينبغي له أن يحقّق ويدقّق في أحوال الذين سيجاورهم لكي لا يبتلى بجار السوء، وقد أشار رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى المعنى لما سأله بعض أراد أن يشتري دارا فقال: الجار قبل الدار (6).

وكثيرا ما يندم الإنسان لاختياره المنطقة السيئة لسكناه، ولذا لابد أن نتحرّى عن الجيران، ولنعم ما قال لقمان الحكيم في وصيّته لابنه: يابُني، حملت الحجارة والحديد، فلم أر شيئاً أثقل من جار السوء (7).

حسن الجوار في منظومة أهل البيت (عليهم السلام) 

أكد أهل البيت (عليهم السلام) في أحاديثهم الشريفة على حسن الجوار وأولوه عناية فائقة حتى قال أميرالمؤمنين (عليه السلام) في وصيته الأخيرة: الله الله في جيرانكم، فإنّ النبي (صلى الله عليه وآله) أوصى بهم، ومازال رسول الله (صلى الله عليه وآله) يوصي بهم حتى ظننا أنه سيورثهم (8).

وقال الإمام الحسن (عليه السلام): رأيت أمي فاطمة (عليها السلام) قامت في محرابها ليلة جمعتها، فلم تزل راكعة ساجدة حتى اتضح عمود الصبح، وسمعتها تدعو للمؤمنين والمؤمنات وتسمّيهم وتكثر الدعاء لهم ولا تدعو لنفسها بشيء، فقلت لها: يا أماه لم لا تدعين لنفسك كما تدعين لغيرك؟

فقالت: يا بني الجار ثم‏ الدار (9).

وکان الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) يدعو لجيرانه فيقول: اللهم صل على محمد وآله، وتولني في جيراني وموالي العارفين بحقنا... ووفقهم لإقامة سنّتك، والأخذ بمحاسن أدبك في إرفاق ضعيفهم، وسد خلتهم، وعيادة مريضهم، وهداية مسترشدهم، ومناصحة مستشيرهم، وتعهد قادمهم، وكتمان أسرارهم، وستر عوراتهم، ونصرة مظلومهم، وحسن مواساتهم بالماعون، والعود عليهم بالجدة والإفضال، وإعطاء ما يجب لهم قبل السؤال.

واجعلني اللهم أجزي بالإحسان مسيئهم، وأعرض بالتجاوز عن ظالمهم، وأستعمل حسن الظن في كافتهم، وأتولى بالبر عامتهم، وأغض بصري عنهم عفة، وألين جانبي لهم تواضعا، وأرق على أهل البلاء منهم رحمة، وأسر لهم بالغيب مودة، وأحب بقاء النعمة عندهم نصحا، وأوجب لهم ما أوجب لحامتي، وأرعى لهم ما أرعى لخاصتي.

 اللهم صل على محمد و آله، وارزقني مثل ذلك منهم، واجعل لي أوفى الحظوظ فيما عندهم، وزدهم بصيرة في حقي، ومعرفة بفضلي حتى يسعدوا بي وأسعد بهم، آمين رب العالمين (10).

حريم الجار في الإسلام

جعل الإسلام للجار حريما وحصنا منيعا يحول دون تجاوز الآخرين عليه وذلك لدور حسن الجوار الخاص على المجتمع.

فقد ورد في الحديث أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) كتب كتابا بين المهاجرين والأنصار ومن لحق بهم من أهل المدينة جاء فيه: إن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم، وحرمة الجار على الجار كحرمة أمه (11).

ليس منّا من آذى جاره

إلى جانب دعوة أهل البيت (عليهم السلام) إلى حسن الجوار فإنهم نهوا وبشدة عن أذية الجار والإساءة إليه، ففي الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): ومن آذى جاره حرّم الله عليه ريح الجنة (12).

وعن الإمام الصادق (عليه السلام): لا إيمان لمن لم يأمن جاره بوائقه (13).

وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من آذى جاره، حرّم الله عليه ريح الجنة، ومأواه جهنم وبئس المصير، ومن ضيّع حق جاره فليس منّا، ومازال جبرئيل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورّثه (14).

وقال الإمام الصادق (عليه السلام): ليس منا من لم يحسن مجاورة من جاوره (15). 

وأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) أميرالمؤمنين (عليه السلام) وسلمان وأباذر والمقداد أن ينادوا في المسجد بأعلى أصواتهم بأن: لا إيمان لمن يأمن جاره بوائقه، فنادوا بها ثلاثا، ثم أومأ بيده إلى كل أربعين دارا من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله (16).

المفهوم الصحيح لحسن الجوار

بالرغم أنّ مفهوم حسن الجوار مفهوم واسع وعام يشمل مصاديق كثيرة إلا أنّ أئمة أهل البيت (عليه السلام) حدّدوا مفهوما راقيا لحسن الجوار، وإلى ذلك يشير الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام): ليس حسن الجوار كف الأذى ولكن حسن الجوار صبرك على الأذى (17).

وهذا التصوير الرائع لحسن يشمل يقوم على ركنين مهمين: 

رفع المفهوم الخاطئ لحسن الجوار

أول عمل عمد إليه الإمام (عليه السلام) لدى بيان مفهوم حسن الجوار-كما في الحديث- هو دفع شبهة من أذهان كثير من الناس ممّن يعتقدون أنّ مفهوم حسن الجوار هو كف أذى الجار، فنفى الإمام (عليه السلام) هذه الشبهة بقوله: ليس حسن الجوار كفّ الأذى.

وبعد أن دفع الإمام (عليه السلام) الشبهة المذكورة عن أذهان الناس بيّن المعنى الصحيح لحسن الجوار، فقال: ولكن حسن الجوار صبرك على الأذى.

جاري يؤذيني

ولم يقتصر أهل البيت (عليهم السلام) على بيان المفهوم الصحيح لحسن الجوار بل دعوا الموالين إلى الالتزام به في حياتهم الاجتماعية.

فقد روي أنه جاء رجل إلى النبي (صلى الله عليه وآله) وقال: فلانا جاري يؤذيني، قال: اصبر على أذاه وكف أذاك عنه، فما لبث أن جاء وقال: يانبي الله إن جاري قد مات، فقال (صلى الله عليه وآله): كفى بالدهر واعظا وكفى بالموت مفرقا (18).

وشكا رجل إلى النبي (صلى الله عليه وآله) أذى جاره، فقال له: اصبر، ثم أتاه ثانية، فقال له: اصبر (19).

إياك وهذه الأمور

بالرغم أنّ إيذاء الجار منهي عنه بشكل عام إلا أنّ هناك أمورا نهى عنها المعصومون (عليهم السلام) بشكل خاص ومن ذلك: 

1- الإطلاع على بيت الجار: نهى رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن الاطلاع على بين الجيران وتتبع عوراته، فقال: ومن اطلع في بيت جاره فنظر إلى عورة رجل أو شعر امرأة أو شيء من جسدها كان حقا على الله أن يدخله النار مع المنافقين الذين كانوا يتبعون عورات الناس في الدنيا ولا يخرج من الدنيا حتى يفضحه الله ويبدي عورته للناس في الآخرة (20).

2- الاعتداء على ممتلكات الجار: ومن الأمور التي نهى عنها الشارع بالنسبة للجار هو التجاوز على ممتلكاته، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ومن خان جاره شبراً من الأرض طوفه الله يوم القيامة إلى سبع أرضين نارا حتى يدخله جهنم (21).

حقوق الجار في رسالة الحقوق

حدّد الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) حقوق الجار في رسالته العظيمة المعروفة برسالة الحقوق فقال: (وأما حق‏ الجار فحفظه غائبا و كرامته شاهدا ونصرته ومعونته في الحالين جميعا لا تتبع له عورة ولا تبحث له عن سوءة لتعرفها فإن عرفتها منه عن غير إرادة منك ولا تكلف كنت لما علمت حصنا حصينا وسترا ستيرا لو بحثت الأسنة عنه ضميرا لم تتصل إليه لانطوائه عليه لا تستمع عليه من حيث لا يعلم لا تسلمه عند شديدة ولا تحسده عند نعمة تقيل عثرته وتغفر زلته ولا تدخر حلمك عنه إذا جهل عليك ولا تخرج أن تكون سلما له ترد عنه لسان الشتيمة وتبطل فيه كيد حامل النصيحة وتعاشره معاشرة كريمة ولا حول ولا قوة إلا بالله‏ وأما حق الصاحب فأن تصحبه بالفضل ما وجدت إليه سبيلا وإلا فلا أقل من الإنصاف وأن تكرمه كما يكرمك وتحفظه كما يحفظك ولا يسبقك فيما بينك وبينه إلى مكرمة فإن سبقك كافأته ولا تقصر به عما يستحق من المودة تلزم نفسك)‏ (22).

من آثار حسن الجوار

هناك أكثر من أثر لمراعات حسن الجوار ومنها: 

الأثر الأول: عمارة الديار: يبدو من الأخبار الشريفة من آثار مراعاة حسن الجوار هي عمارة الديار، فإن المجتمع الذي يحسن أهله الجوار تزهو ديارهم وتعمر.

يقول الإمام الصادق (عليه السلام): صلة الرحم وحسن الجوار يعمران الديار (23).

الأثر الثاني: زيادة الرزق: يقول (عليه السلام): حسن الجوار يزيد في الرزق (24).

الأثر الثالث: طول العمر: قال حسن الجوار يعمر الديار وينسئ في الأعمار (25).

..........................................

 (1) سورة النساء: 36.

 (2) بحار الأنوار: 8 /144.

 (3) الجامع الصغير للسيوطي: 1/144.

 (4) الخصال: 2/544.

 (5) مشكاة الأنوار: 213.

 (6) الکافي: 8/24.

 (7) أمالي الشيخ الصدوق (رحمه الله): 669.

 (8) الكافي: 7/51.

 (9) علل الشرائع: 1/182.

 (10) الصحيفة السجادية: 126.

 (11) الكافي: 2/666.

 (12) من لا يحضره الفقيه: 4/13.

 (13) الزهد: 42.

 (14) دعائم الإسلام: 2/88.

 (15) الكافي: 2/637.

 (16) الكافي: 2/666.

 (17) الکافی: 2/667.

 (18) الدعوات للراوندي: 240.

 (19) الكافي: 2/668 ح13.

 (20) ثواب الأعمال: 282.

 (21) من لا يحضره الفقيه: 4/12.

 (22) تحف العقول: 266.

 (23) الكافي: 2/152.

 (24) الزهد: 43.

 (25) الكافي: 2/667.

اضف تعليق