ان عصراً جديداً قد بدأ في سوريا ولابد لجميع أبناء هذا البلد الكريم المساهمة في بناء المستقبل والحياة الكريمة للجميع بعيداً عن الرغبة في الانتقام أو الخروج عن مقتضى القانون والعدالة الاجتماعية، وان ملف من ساهم في المعاناة الحالية يمكن ان يوكل إلى الهيئات القضائية بموجب قوانين تنظم العدالة...
عاش الشعب السوري الشقيق عقود من الزمن تحت نير الحكم الدكتاتوري والنظام الشمولي وعقد ونيف من الحرب الأهلية التي تجرع منها الأمرين واليوم يعيش لحظات حاسمة باتجاه تقرير المصير إما الانتقال الحر إلى فضاء الحكم الديمقراطي والتعايش السلمي، أو لا سمح الله البقاء في دائرة العنف.
فقد راكم الصراع سجلا مروعاً حافلاً بالانتهاكات المريرة لحقوق الإنسان وارتكبت الفظائع ولا تزال الآلاف من الأسر والأفراد مشردين خارج أو داخل البلاد ويفتقد السوريون العديد من أبناءهم ممن غيبوا قسراً من قبل أطراف النزاع، واستعملت أنواع من الأسلحة المحرمة دولياً كان أخرها الأسلحة الكيميائية وسلاح الجوع والحرمان والهجمات العشوائية.
وفي يوم 27 تشرين الثاني 2024 شنت جماعات مسلحة سورية هجوماً خاطفاً أسقط نظام الحكم في البلاد فبات الطريق ممهداً لصيانة وتعزيز حقوق الإنسان والحيلولة دون استمرار المعاناة الإنسانية، بيد أن في الأفق تلوح العديد من المخاطر على رأسها خطر الجماعات الأصولية المتطرفة والصراع الإقليمي وامتداداته على الأرض السورية والأطماع الإسرائيلية في الجولان والعديد من المناطق في العمق السوري.
لذا نعتقد ان عصراً جديداً قد بدأ في سوريا ولابد لجميع أبناء هذا البلد الكريم المساهمة في بناء المستقبل والحياة الكريمة للجميع بعيداً عن الرغبة في الانتقام أو الخروج عن مقتضى القانون والعدالة الاجتماعية، وان ملف من ساهم في المعاناة الحالية يمكن ان يوكل إلى الهيئات القضائية بموجب قوانين تنظم العدالة الحقة لمعاقبة المسيء وتعويض أو إنصاف الضحايا ويستلزم ما تقدم الحفاظ على الهيئات النظامية لتتمكن الجهات المختصة من توثيق كل ما جرى خلال السنوات المنصرمة.
فثمة حاجة ملحة لحماية الأدلة على ما ارتكب من فظائع بالحفاظ على السجلات والأرشيف الرسمي للجهات الحكومية السورية والبدء بعملية إعادة الثقة بالسلطة القضائية من بوابة صيانة استقلاليتها وضمان مهنيتها وموضوعيتها وإبعادها عن ساحة التنافس السياسي، لتكون الكفيل بإعادة الحقوق إلى أصحابها ولتتمكن من محاسبة الجناة على نحو من المشروعية في الإجراءات والقرارات والأحكام المحققة لما تقدم.
ويبرز واضحا أهمية إشراك المنظمات الدولية في عملية التوثيق لضمان الحياد والمسؤولية لاسيما أجهزة الأمم المتحدة المعنية بحقوق الإنسان بإشراك خبراء الأمم المتحدة في التحقيقات ومواكبة الإجراءات وإبداء التعاون معهم والتزام الشفافية إزاء تلك الجهات الدولية لاسيما ان علمنا ان بعض تلك المخالفات والانتهاكات كانت بسبب تدخلات خارجية ما يتطلب تشكيل لجنة تحقيق تابعة للأمم المتحدة بشأنها، أضف لما تقدم ان الحاجة اليوم ملحة للتعاون مع الأجهزة الأممية لتوضيح ما حدث للمختفين قسرياً ليتسنى لأفراد أسرهم معرفة مصير أبناءهم بإشراك منظمات إنسانية في التحقيق والتقصي وجمع البيانات والإحصاءات واتخاذ اللازم بشأنها.
والسلطة الحاكمة في سوريا مدعوة إلى إنفاذ العدالة في سوريا على نحو فاعل بالمصادقة على اتفاقية "نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية" ومنح المحكمة المذكورة ولاية قضائية بأثر رجعي يعود إلى ما قبل العام 2011 لتقصي الحقائق ومعرفة المتسببين بمعاناة الشعب السوري لعقود طويلة بما يتح الفرصة لاستعادة الهارب منهم إلى خارج البلاد، ومن الأهمية بمكان إعادة النظر بالتشريعات الوطنية بما يوافقها مع نظام روما الأساس، ويتيح للسلطات السورية التعاون الفاعل مع المحكمة، وبالنتيجة يمكن تحقيق العدالة بيسر وسهولة وبلا عوائق قانونية أو سياسية من شأنها ان تسهم في الإفلات من العقاب لجميع الأطراف التي تسببت بتلك الأحداث المؤلمة.
ومن المعروف ان الشعب السوري يتكون من خليط أثني وقومي كبير جداً ومن مقتضى القاعدة العامة التفكير بالتعايش السلمي بين جميع المكونات بما يحقق السلم الأهلي، ما يتطلب اتخاذ خطوات عملية من شأنها إعادة اللحمة الوطنية إلى ما كانت عليه وترميم العلائق الاجتماعية بإزالة أسباب التمييز العنصري الذي تسبب بحالة من عدم الثقة بين المكونات الاجتماعية والإثنية إذ انقسم المجتمع إلى فئات مؤيدة ومعارضة للنظام السابق وتم تغذية هذه الأوهام حتى أضحت ناقوس خطر يهدد الجميع.
ومع ما لاحظناه من إطلاق سراح المئات من السجناء والمحتجزين يثور في الذهن سؤال مهم هل يملك النظام الحاكم الحالي تصوراً عن أهمية إنشاء نظام قانوني حديث للتتبع فهؤلاء البعض منهم بالتأكيد هم سجناء العدالة بسبب ارتكابهم جرائم جنائية وهم مستحقين للعقوبة وإخراجهم بهذه الطريقة يهدد مصالح المجتمع العليا، أما السجناء السياسيين أو سجناء الرأي فهؤلاء بأمس الحاجة إلى برنامج أخر للتأهيل بعد ما قاسوه وعلى مدار سنوات طويلة من ظروف احتجاز مروعة وغير إنسانية بكل المقاييس ولعقود من الزمن، إذ ينبغي للسلطات الحاكمة اتخاذ الخطوات العاجلة لتزويدهم بالرعاية الصحية والدعم النفسي والاجتماعي وصيانة كرامتهم الإنسانية والعمل على لم شملهم بأسرهم وبالنتيجة الحكومة السورية الحالية مدعوة إلى العمل الجاد لضمان سيادة حكم القانون، وان تكون الكلمة الفصل للقضاء، والأمر ذاته بالنسبة لمعاملة جميع المعتقلين والمحتجزين حالياً بمن فيهم أسرى الحرب والأعضاء السابقون في الحزب الحاكم السابق أو الأجهزة المرتبطة بالنظام المخلوع لتكون معاملتهم وفق المواثيق والإعلانات الدولية والوطنية القائمة بالأساس على التعامل الإنساني ووفق معايير حقوق الإنسان والقانون الدولي، وإتاحة وصول كل منهم إلى أسرته أو التواصل معها وضمان حقهم في الدفاع أصالة أو وكالة بوساطة محامٍ مؤهل للدفاع عنهم.
ومن أولويات المرحلة المقبلة إزالة المخاطر الاجتماعية والأسرية الناتجة عن سنوات الاقتتال وما خلفته من ضحايا ممن توفوا أو غيبوا أو جرحوا وما نتج عن حالات تتمثل في المخاطر الاجتماعية نتيجة غياب المعيل أو ما شاكل من معضلات اجتماعية لاسيما على صعيد إعادة النازحين أو المهجرين إلى محال سكناهم وتوفير سبل الحياة الكريمة لهم، وما تقدم بحاجة إلى البدء بعملية عاجلة وفق استراتيجية وطنية قائمة على الإعادة الطوعية وتوفير كل متطلبات الحياة الكريمة في المناطق التي دمرتها سنوات الحرب الأهلية وترميم البنى التحتية المتعلقة بالخدمات كالماء والكهرباء والصرف الصحي وتوفير الضمان الصحي والاجتماعي للفئات الأكثر ضعفاً مثل النساء والأطفال والأشخاص من ذوي الإعاقة، وكبار السن وغيرهم من الفئات الأكثر عرضة لانتهاكات حقوق الإنسان.
ومن المؤكد ان ترميم مخلفات الحقبة السابقة ليس بالأمر الهين ما يتطلب التفكير الشامل بحلول غير تقليدية للتأسيس لنظام حر قادر على تلبية متطلبات وطموحات الشعب السوري فعلى صعيد أخر من المهم جداً التأسيس لنظام ديمقراطي حقيقي قابل للتطور والاستجابة بمساهمة جميع السوريين في عملية صنع القرار ويمكن لما تقدم ان يتحقق بإشراك جميع فئات الشعب السوري بشكل فاعل في رسم ملامح المرحلة القادمة وتحديد مستقبل البلاد، لذا من المحتم التفكير بصياغة إعلان دستوري مؤقت يمهد لانتخابات عامة لجمعية تأسيسية واسعة التشكيل تضع مشروع دستور سوري وقانون أحزاب حر ليسهما في التأسيس لنظام ديمقراطي وليعرض كلاهما على الاستفتاء الشعبي ومن ثم الانتقال الفاعل الحر إلى نظام حكم ديمقراطي مع الأخذ بنظر الاعتبار أهمية التأسيس لمنظمات وتشكيلات على المستوى المحلي من شأنها ان تسهم في إشراك الفئات المجتمعية كافة في عملية اتخاذ القرار.
وان إتباع الخطوات المدروسة والمبنية على المشاركة الشعبية من شأنه ان يسهم في سرعة تجاوز الأزمة السورية الحالية والانتقال إلى مصاف الدول الناجحة، فعلى سبيل المثال يمكن استلهام بعض العبر والدروس من دول أخرى مرت بتجارب مماثلة منها جنوب أفريقيا التي تجاوزت الأزمة الناتجة عن سنوات الفصل العنصري ببعض التشريعات التي أسست للعدالة الانتقالية، فمن الواضح ان تجاوز الإرث القمعي لسنوات الحرب والحكم الشمولي أمر بغاية الصعوبة ان لم يتم على مراحل تتخللها الخطوات التراكمية المدروسة وتسهم فيما تقدم مؤسسات عدة منها المؤسسات الدينية لمختلف الطوائف والديانات والعرقيات السورية، وكذا مؤسسات المجتمع المدني ومنها المنظمات غير الحكومية والنقابات والاتحادات والهيئات الخيرية التطوعية وسائر الفعاليات الاجتماعية، وأن من المهم الدعوة إلى مؤتمر لهذه الجهات بالإضافة إلى المرجعيات الاجتماعية والقادرة على التأثير على فئات من الشعب للجلوس إلى طاولة الحوار الوطني مع الأحزاب ومختلف القوى الوطنية لوضع أسس الميثاق الوطني أو العقد الاجتماعي السوري للمرحلة المقبلة.
كما ان المؤسسات التربوية والتعليمية مدعوة هي الأخرى لأخذ زمام المبادرة في سوريا للتأسيس لمرحلة بناء الإنسان السوري فليس المهم فقط رفع براثن النظام السابق من المناهج فحسب بل حماية عقول النشء والشباب من ان تتسلل إليها كل فكرة متطرفة أو شمولية أو شاذة وان الأمر لا يأخذ مداه الحقيقي بغير ان تضع الدولة السورية استراتيجية تعليمية قادرة على مواكبة التطور العلمي، وان تكون انعكاس حقيقي للمجتمع السوري وتعمل على ربط المتعلمين بوطنهم وتراثهم الوطني والإنساني العميق.
ومن نافلة القول ان الإعلام هو الآخر قادر على ان يسهم في أحداث التغييرات العميقة والحقيقية في الواقع السوري بانتهاج سياسة إعلامية وطنية همها الأول الوطن لتبث أسس السلم الأهلي وتنشر ثقافة التسامح وتعزز روح المواطنة، ويمكن للإعلام ان يقدم نموذج صالح للمؤسسة الحرة الوطنية التي تشكل أداة حقيقية تعزز الحوار الوطني وتقدم نموذج للإيجابية.
وعلى الجانب الرسمي فان السلطات العامة يمكنها ان تسهم بشكل عميق في إحداث التغيير الإيجابية في الواقع السوري إذ من شأن انتهاج سياسة الحياد الدولي والنأي بالنفس عن التنافس الدولي ولغة المحاور الدولية والتصارع على المصالح والنفوذ ان يجلب الأمن والسكينة للشعب السوري، لذا الأمر مرهون بالتفكير الإيجابي لمن سيقبض على السلطة في البلاد وسعيهم للخروج من الحالة السابقة التي كانت فيها سوريا مسرحاً لتصارع الدول الكبرى.
اما الوظيفة الأخرى المنتظرة من الجهات الرسمية فهي القضاء على الفساد الإداري والمالي الذي نخر جسد الدولة السورية وجعل منها هشة لاسيما المؤسسات العسكرية والأمنية فالإصلاح في قوانين التوظيف والتقاعد والخدمة والعمل من شأنها ان تؤسس للرضا الشعبي عن السلطات العامة وتفضي إلى مؤسسات حقيقية قادرة على صيانة المصالح الوطنية، فمن نتائج الفساد المستشري ان أصبحت سوريا مستقراً وممراً للتجارة المحرمة دولياً كتجارة المخدرات والأعضاء البشرية والاتجار بالبشر وما تسببت به هي الأخرى من تكريس لمعاناة الشعب السوري، وان الباب الطبيعي للحد منها جميعاً يتأتى من جهة القضاء على الفساد والحد ومن آثاره المدمرة.
والأمر الأخر يتمثل بالجدية في إصلاح الاقتصاد السوري والانتقال السلس إلى اقتصاد السوق وتشجيع الاستثمار وترميم الصناعة والزراعة السورية بما تملكه هذه القطاعات من إمكانيات من شأنها ان تسهم في بناء الاقتصاد وتوفير الحياة الكريمة لأبناء الشعب السوري.
اضف تعليق