الفترة التي عاشتها الأمة الإسلامية في ظل ولاية وإمامة الإمام الخامس من أئمة المسلمين الإمام محمد الباقر على صعوبتها، وحراجتها، ودقَّة الظروف فيها والتي امتدت لعقدين من الزمن، كانت من أخصب وأغنى فترات التاريخ الإسلامي وفيها تفجَّر العلم الدِّيني، والفقه الإسلامي، وتشكلت أول جامعة (حوزة) في المدينة...
في 8 ذي الحجة سنة 114 ه استشهد الإمام الخامس من أئمة المسلمين الإمام محمد الباقر (ع)
مقدمة نورانية
الحديث عن الإمامة والإمام يحتاج إلى بسطة من القول وعميق من الإيمان، لأن الإمامة شأن من شأن الله تعالى فهي كالنبوة، والرسالة، فكما أن الله سبحانه يبعث الأنبياء ويختار منهم الرسل كذلك الأمر بالنسبة للأوصياء والأولياء، لا سيما أصحاب الولاية العظمى من آل محمد (صلوات الله عليهم جميعاً)، وذلك لأنهم امتداد لخاتم الأنبياء وأعظم المرسلين في السبب والرسالة والنسب والانتماء، فهم منه نسباً وهو منهم رسالة كما يقول العلماء بشرحهم لكلمة (صلوات الله عليه وآله) لولده الإمام الحسين (عليه السلام) وهي قوله: (حُسَيْنٌّ مِنِّي وَأَنَا مِنْ حُسَيْنِ أَحَبَّ اَللَّهَ مَنْ أَحَبَّ حُسَيْناً حُسَيْنٌ سِبْطٌّ مِنَ اَلْأَسْبَاطِ).
وفي الرواية عن الإمام الباقر (عليه السلام)، عَنْ أَبِي خَالِدٍ اَلْكَابُلِيِّ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عَنْ قَوْلِهِ: (فَآمِنُوا بِاللّٰهِ وَرَسُولِهِ وَاَلنُّورِ اَلَّذِي أَنْزَلْنا)، فَقَالَ يَا أَبَا خَالِدٍ؛ اَلنُّورُ -وَاَللَّهِ- اَلْأَئِمَّةُ مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ اَللَّهِ عَلَيْهِم إِلَى يَوْمِ اَلْقِيَامَةِ، وَهُمْ -وَاَللَّهِ- نُورُ اَللَّهِ اَلَّذِي أَنْزَلَ وَهُمْ -وَاَللَّهِ- نُورُ اَللَّهِ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَاَلْأَرْضِ، يَا أَبَا خَالِدٍ! لَنُورُ اَلْإِمَامُ فِي قُلُوبِ اَلْمُؤْمِنِينَ أَنْوَرُ مِنَ اَلشَّمْسِ اَلْمُضِيئَةِ بِالنَّهَارِ وَهُمْ -وَاَللَّهِ- يُنَوِّرُونَ قُلُوبَ اَلْمُؤْمِنِينَ وَيَحْجُبُ اَللَّهُ نُورَهُمْ عَمَّنْ يَشَاءُ فَتُظْلِمُ قُلُوبُهُمْ..). (الکافي: ج۱ ص۱۹4)
وكذلك ورد في الزيارة الجامعة في شأنهم وعظمة نورهم قوله (عليه السلام): (خَلَقَكُمُ اَللَّهُ أَنْوَاراً فَجَعَلَكُمْ بِعَرْشِهِ مُحْدِقِينَ حَتَّى مَنَّ عَلَيْنَا بِكُمْ فَجَعَلَكُمْ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اَللّٰهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اِسْمُهُ)، والإمام الباقر (عليه السلام) كان من أولئك الأنوار بل كان مجمع الأنور لمَنْ كان بعده من أئمة المسلمين، ونشير إلى ذلك لأن أكثر المؤمنين -للأسف الشديد- يظنون أن الأئمة من ذرية الإمام الحسين (عليه السلام) فقط، ولكن الحقيقة هي أنهم من بعد علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) كانوا من الحسن والحسين (عليهما السلام) والجامع بينهما هو الإمام محمد الباقر الذي كانت والدته هي السيدة فاطمة بنت الإمام الحسن وهي أشبه الخلق بجدتها فاطمة الزهراء بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولذا الإمام الباقر جمع شرف النسب وجمال الهيئة وبهاء الطلعة فكان من أجمل الأئمة (عليهم السلام جميعاً).
الإمام محمد الباقر (ع)
ومن الخصائص التي ينفرد فيها الإمام الخامس من أئمة المسلمين هو هذا الاسم الشريف إذ لم يُعهد لأحد من الأنبياء والأوصياء بأن يطلق عليه اسم (الباقر لعلوم الأنبياء والمرسلين) إلا هذا الإمام الهُمام العظيم محمد بن علي والذي أطلقه عليه جده رسول الله (ص) بل الله سبحانه من فوق عرشه وذلك باللوح الأخضر الذي نزل من السماء على سيدة النساء فاطمة الزهراء (عليها السلام) وفيها أسماء أبنائها من الأئمة والأوصياء فكان السطر الخامس ونوره المسمى بالباقر (عليه السلام).
فعَنْ أَبِي عَبْدِ اَللَّهِ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قَالَ: قَالَ أَبِي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لِجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اَللَّهِ اَلْأَنْصَارِيِّ إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً فَمَتَى يَخِفُّ عَلَيْكَ أَنْ أَخْلُوَ بِكَ فَأَسْأَلَكَ عَنْهَا، قَالَ لَهُ جَابِرٌ: فِي أَيِّ اَلْأَوْقَاتِ شِئْتَ فَخَلاَ بِهِ أَبِي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فَقَالَ لَهُ: يَا جَابِرُ أَخْبِرْنِي عَنِ اَللَّوْحِ اَلَّذِي رَأَيْتَهُ فِي يَدِ أُمِّي فَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اَللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) وَمَا أَخْبَرَتْكَ بِهِ أُمِّي أَنَّ فِي ذَلِكَ اَللَّوْحِ مَكْتُوباً.
قَالَ جَابِرٌ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ أَنِّي دَخَلْتُ عَلَى أُمِّكَ فَاطِمَةَ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اَللَّهِ (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) لِأُهَنِّئَهَا بِوِلاَدَةِ اَلْحُسَيْنِ (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) فَرَأَيْتُ فِي يَدِهَا لَوْحاً أَخْضَرَ ظَنَنْتُ أَنَّهُ زُمُرُّدٌ وَرَأَيْتُ فِيهِ كِتَاباً أَبْيَضَ شِبْهَ نُورِ اَلشَّمْسِ فَقُلْتُ لَهَا: بِأَبِي أَنْتِ وَأُمِّي يَا بِنْتَ رَسُولِ اَللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) مَا هَذَا اَللَّوْحُ؟ فَقَالَتْ: هَذَا اَللَّوْحُ أَهْدَاهُ اَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى رَسُولِهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) فِيهِ اِسْمُ أَبِي وَاِسْمُ بَعْلِي وَاِسْمُ اِبْنَيَّ وَأَسْمَاءُ اَلْأَوْصِيَاءِ مِنْ وُلْدِي فَأَعْطَانِيهِ أَبِي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لِيَسُرَّنِي بِذَلِكَ، قَالَ جَابِرٌ: فَأَعْطَتْنِيهِ أُمُّكَ فَاطِمَةُ فَقَرَأْتُهُ وَاِنْتَسَخْتُهُ.
وفي ذلك الكتاب الإلهي يقول: (وَاِبْنُهُ شَبِيهُ جَدِّهِ اَلْمَحْمُودِ مُحَمَّدٌ اَلْبَاقِرُ لِعِلْمِي وَاَلْمَعْدِنُ لِحُكْمِي)، وفيه ثلاث صفات من أرقى وأنقى وأعلى ما يمكن أن يتَّصف به إنسان على وجه هذه الكرة الترابية، وهي:
1-شبيه جده المحمود (صلى الله عليه وآله).
2-الباقر لعلمي.
3-المعدن لحكمي.
وكم نحتاج لشرح وبيان وتوضيح هذه الصفات الثلاثة للإمام محمد الباقر (عليه السلام)؟ وهل نستطيع أن نبحر في لجج هذه البحار المتلاطمة، أم أننا يكفينا الجلوس على رمال الشاطئ، والنظر إلى سعة تلك البحور وتسبيح الخالق العظيم الواهب على ما أوهب لهذا الإمام العظيم؟
ولكن لماذا سمِّي الباقر؟ ومَنْ الذي سمَّاه بهذا الاسم؟ وما معناه أصلاً؟
ونقتطف بعض ما جاء في كتاب الإمام الراحل السيد محمد الشيرازي (قدس الله روحه) في كتابه الجميل: (من حياة الإمام الباقر (عليه السلام)، بهذا الشأن حيث يقول: ألقابه عديدة، وأشهرها الباقر، ولُقِّب (عليه السلام) بذلك: لبقره العلم وهو تفجره وتوسعه.
في كشف الغمة: سمّي بالباقر؛ لتبقّره في العلم، وهو توسّعه فيه.
وقال الفيروز آبادي: بَقَرَه كمنعه: شقّه ووسّعه، والباقر محمد بن علي بن الحسين (عليه السلام) لتبحره في العلم.. وفي الصحاح: التبقر التوسع في العلم.. وفي لسان العرب: لقب (عليه السلام) به؛ لأنه بقر العلم وعرف أصله، واستنبط فرعه، وتوسع فيه، والتبقر التوسع.
وروى الصدوق (رحمه الله) في (علل الشرائع): بسنده عن عمرو بن شمر، قال: سألت جابر الجعفي فقلت له: لم سمي الباقر باقراً؟ قال: لأنه بقر العلم بقراً، أي شقه شقاً، وأظهره إظهاراً.
وفي رواية قال جابر: يا باقر أنت الباقر حقّاً، أنت الذي تبقر العلم بقراً.
وفي صواعق ابن حجر: سمِّي (عليه السلام) بذلك من بقر الأرض، أي شقها وأثار مخبئاتها ومكامنها، فكذلك هو أظهر من مخبئات كنوز المعارف وحقائق الأحكام والحِكَم واللطائف، ما لا يخفى إلاّ على منطمس البصيرة، أو فاسد الطوية والسريرة، ومن ثم قيل فيه: هو باقر العلم وجامعه، وشاهر علمه.
وفي تذكرة الخواص: إنما سمِّي الباقر من كثرة سجوده بقر السجود جبهته أي فتحها ووسعها، وقيل: لغزارة علمه). (من حياة الإمام الباقر (ع): ص 9)
وقال الشيخ المفيد في إرشاده: "كان الباقر أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين (عليهم السلام) من بين إخوته خليفة أبيه علي بن الحسين ووصيه والقائم بالإمامة من بعده، وبرز على جماعتهم بالفضل في العلم والزهد والسؤدد، وكان أنبههم ذكراً وأجلهم في العامة والخاصة وأعظمهم قدراً، ولم يظهر عن أحد من ولد الحسن والحسين (عليهما السلام) من علم الِّدين والآثار والسُّنة وعلم القرآن والسِّيرة وفنون الآداب ما ظهر عن أبي جعفر (عليه السلام)، وروى عنه معالم الدِّين بقايا الصحابة، ووجوه التابعين ورؤساء فقهاء المسلمين، وصار بالفضل به علماً لأهله تضرب به الأمثال، وتسير بوصفه الآثار والأشعار، وفيه يقول القرظي:
يا باقر العلم لأهل التقى *** وخير من لبى على الأجبل
وقال السيد محسن الأمين في أعيانه: "وجاء بعده – علي بن الحسين زين العابدين- ولده محمد الملقب بالباقر لقب بذلك لأنه بقر العلم، وعرف أصله، واستنبط فرعه، وتوسَّع فيه... وأخذ عنه عظماء المسلمين من الصحابة والتابعين والفقهاء والمصنفين والعلماء من جميع نحل الإسلام واقتدوا به واتبعوا أقواله واستفادوا من فقهه وحججه البينات في التوحيد والفقه والكلام وغيرها".
عمل الإمام الباقر الرسالي (عليه السلام)
عاش الإمام الباقر في تلك الحقبة السوداء من تاريخ الأمة الإسلامية التي حكم فيها صبيان بني أمية، وصبيان النار من أبناء الوزغ الملعون كما في رواية زُرَارَةَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) يَقُولُ: لَمَّا وُلِدَ مَرْوَانُ عَرَضُوا بِهِ لِرَسُولِ اَللَّهِ (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) أَنْ يَدْعُوَ لَهُ فَأَرْسَلُوا بِهِ إِلَى عَائِشَةَ لِيَدْعُوَ لَهُ فَلَمَّا قَرَّبَتْهُ مِنْهُ قَالَ: (أَخْرِجُوا عَنِّي اَلْوَزَغَ اِبْنَ اَلْوَزَغِ)، قَالَ: زُرَارَةُ وَلاَ أَعْلَمُ إِلاَّ أَنَّهُ قَالَ: وَلَعَنَهُ). (الکافي: ج۸ ص۲۳۸)
ويؤيد ذلك ما رواه القوم صحيحاً كما في مستدرك الحاكم النيسابوري، فعن عبد الرحمن بن عوف أنه قال: " كان لا يولد لأحد مولود إلا أتي به النبي (صلى الله عليه وآله) فيدعو له فأُدخل عليه مروان بن الحكم، فقال: هو الوزغ ابن الوزغ الملعون ابن الملعون). قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه". (المستدرك على الصحيحين: ج ٤ ص ٤٧٩)
فهؤلاء الأوزاغ لا سيما الأكبش الأربعة الذين حذَّر منهم ومن حكمهم أمير المؤمنين الإمام علي (عليه السلام) في أعقاب معركة الجمل الذي كان فيها هذا الوزغ ضدَّ أمير المؤمنين ولكنه قتل طلحة وجاؤوا به أسيراً فَاسْتَشْفَعَ اَلْحَسَنَ وَاَلْحُسَيْنَ إِلَى أَمِيرِ اَلْمُؤْمِنِينَ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فَكَلَّمَاهُ فِيهِ فَخَلَّى سَبِيلَهُ فَقَالاَ لَهُ: يُبَايِعُكَ يَا أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): أَ وَ لَمْ يُبَايِعْنِي بَعْدَ قَتْلِ عُثْمَانَ لاَ حَاجَةَ لِي فِي بَيْعَتِهِ إِنَّهَا كَفٌّ يَهُودِيَّةٌ لَوْ بَايَعَنِي بِيَدِهِ لَغَدَرَنِي بِسَبَّتِهِ، أَمَا إِنَّ لَهُ إِمْرَةً كَلَعْقَةِ اَلْكَلْبِ أَنْفَهُ، وَهُوَ أَبُو اَلْأَكْبُشِ اَلْأَرْبَعَةِ، وَسَتَلْقَى اَلْأُمَّةُ مِنْهُ وَمِنْ وُلْدِهِ يَوْماً أَحْمَرَ). (نهج البلاغة: ج۱ ص۱۰۲)
في ظل حكم هؤلاء الأشقياء عاش الإمام محمد الباقر (عليه السلام) بالتفصيل التالي كما يقول السيد محمد الشيرازي (رحمه الله): "عاش (عليه السلام) مع جده الإمام الحسين (صلوات الله عليه) أربع سنوات، فكان في الرابعة من عمره يوم عاشوراء، وعاش (عليه السلام) مع أبيه بعد جده خمساً وثلاثين سنة، فكان عمره عند وفاة والده تسعاً وثلاثين سنة، وكان معيناً وسنداً لوالده خلال هذه السنوات الصعاب على كثرة مشاكلها وابتلاءاتها وسلطة الطغاة فيها.
وعاش بعد أبيه ثماني عشرة سنة على قول، وفي رواية الكافي عن الصادق (عليه السلام): تسع عشرة سنة وشهران، وهي مدة إمامته". (من حياة الإمام الباقر (ع): ص 12)
ففي الحقيقة التاريخية نجد أن الفترة التي عاشتها الأمة الإسلامية في ظل ولاية وإمامة الإمام الخامس من أئمة المسلمين الإمام محمد الباقر (عليه السلام) على صعوبتها، وحراجتها، ودقَّة الظروف فيها والتي امتدت لعقدين من الزمن، كانت من أخصب وأغنى فترات التاريخ الإسلامي وفيها تفجَّر العلم الدِّيني، والفقه الإسلامي، وتشكلت أول جامعة (حوزة) في المدينة المنورة حيث عمل الإمام الباقر على إعادة بلورة الفكر الإسلامي وتوضيح الفقه بحلاله وحرامه كله، ونشره في أوساط الأمة عن طريق تلك الخطة المحكمة التي عمل عليها الإمام الباقر وتابعها بجدارة وغزارة ولده العظيم الإمام الصادق (عليهما السلام) بحيث أن الفقهاء والعلماء والحوزات والجامعات الإسلامية إلى اليوم تنهل من ذاك المعين الصافي والنبع الزلال في العلوم والأفكار والكل يجلس على تلك المائدة الربانية التي مدَّها الإمام الباقر، وبسطها ولده الإمام الصادق لتكون بحراً من العلم لا ينزفه الماتحون، ولا ينقصه الواردون.
مخطط الإمام الباقر (عليه السلام)
كان مخطط الإمام الباقر وخطته الرباعية التي اعتمدها في العمل الرسالي في تلك الفترة الحرجة من عمر الأمة، سنشير إليها بإيجاز لأن شرحها يحتاج إلى كتاب مستقل ولعل الفضلاء يسعون في بلورة ذلك في أبحاثهم الباقرية إن شاء الله والخطة هي:
1-فضح بني أمية ورجالهم وأبواقهم الذين كانوا يمثلون منبع الضلال والتضليل في الأمة.
2-بيان حقائق الدِّين لا سيما أصوله الخمسة وبالخصوص الولاية والإمامة ومكانتها في التشريع والحياة.
3-تشكيل أول جامعة وحوزة علمية في المدينة المنورة تستقطب التلاميذ والطلاب من كل مكان.
4-تربية أولئك الأساطين الذين حملوا أحاديث وروايات أهل البيت وتوزعوا ما بين الخواص والعوام، وهؤلاء شكلوا أكبر ثروة علمية في تاريخ الأمة الإسلامية.
والحقيقة التي حاول رجال السلطة الأموية أن يغيِّبوها أو يخفوها عن الأمة الإسلامية هي مسألة الولاية والإمامة، وحيث أعلن يزيد الشر ورجاله بعد يوم عاشوراء أنهم دفنوا آل محمد إلى الأبد كما كان يحلم معاوية بن هند الهنود بقوله: (لا والله إلا دفناً دفنا)، ولذا منعوا أحداً أن يجلس إلى الإمام زين العابدين لا سيما بعد أن أجلوا عمته السيدة زينب العقيلة الكبرى (عليها السلام) من المدينة، حتى قال السجاد (عليه السلام) جهراً نهاراً: (ما بمكة والمدينة عشرون رجلاً يحبنا)، فتصوَّر الوضع خارجهما فكم كانت المأساة كبيرة؟
ولذا عندما جاء الإمام الباقر (عليه السلام) كانت أولى مهامه الرسالية هو أن يحيي الإسلام في الأمة من جديد، ويضخ فيها روح الولاء والمحبة لأهل البيت الأطهار (عليهم السلام) فعَنْ فُضَيْلٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) قَالَ: (بُنِيَ اَلْإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ: اَلصَّلاَةِ، وَاَلزَّكَاةِ، وَاَلصَّوْمِ، وَاَلْحَجِّ، وَاَلْوَلاَيَةِ، وَلَمْ يُنَادَ بِشَيْءٍ مَا نُودِيَ بِالْوَلاَيَةِ يَوْمَ اَلْغَدِيرِ)، وَزَادَ في آخر، (فَأَخَذَ اَلنَّاسُ بِأَرْبَعٍ وَتَرَكُوا هَذِهِ يَعْنِي اَلْوَلاَيَةَ). (الکافي: ج۲ ص۲۱)
وقَالَ اَلْبَاقِرُ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): يَا عِبَادَ اَللَّهِ مَا أَكْثَرَ ظُلْمَ كَثِيرٍ مِنْ هَذِهِ اَلْأُمَّةِ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وَ أَقَلَّ إِنْصَافَهُمْ لَهُ يَمْنَعُونَ هَذَا مَا يُعْطُونَهُ سَائِرَ اَلصَّحَابَةِ وَعَلِيٌّ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أَفْضَلُهُمْ فَكَيْفَ يُمْنَعُ مَنْزِلَةً يُعْطُونَهَا غَيْرَهُ؟ قِيلَ: وَكَيْفَ ذَلِكَ يَا اِبْنَ رَسُولِ اَللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ)؟ قَالَ: إِنَّكُمْ تَتَوَلَّوْنَ مُحِبِّي أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي قُحَافَةَ وَتَتَبَرَّءُونَ مِنْ أَعْدَائِهِ كَائِناً مَنْ كَانَ، وَتَتَوَلَّوْنَ مُحِبِّي عُمَرَ بْنِ اَلْخَطَّابِ، وَتَتَبَرَّءُونَ مِنْ أَعْدَائِهِ كَائِناً مَنْ كَانَ، وَتَتَوَلَّوْنَ مُحِبِّي عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ وَتَتَبَرَّءُونَ مِنْ أَعْدَائِهِ كَائِناً مَنْ كَانَ، حَتَّى إِذَا صَارَ إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قَالُوا: نَتَوَلَّى مُحِبِّيهِ وَلَنْ نَتَبَرَّأَ مِنْ أَعْدَائِهِ بَلْ نُحِبُّهُمْ، وَكَيْفَ يَجُوزُ هَذَا لَهُمْ وَرَسُولُ اَللَّهِ يَقُولُ: (اَللَّهُمَّ وَالِ مَنْ وَالاَهُ وَعَادِ مَنْ عَادَاهُ وَاُنْصُرْ مَنْ نَصَرَهُ وَاُخْذُلْ مَنْ خَذَلَهُ) فَتَرَوْنَهُمْ لاَ يُعَادُونَ مَنْ عَادَاهُ وَلاَ يَخْذُلُونَ مَنْ خَذَلَهُ لَيْسَ هَذَا بِإِنْصَافٍ، ثُمَّ أُخْرَى إِنَّهُمْ إِذَا ذُكِرَ لَهُمْ مَا اِخْتَصَّ اَللَّهُ بِهِ عَلِيّاً (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بِدُعَاءِ رَسُولِ اَللَّهِ (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) وَكَرَامَتِهِ عَلَى رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ جَحَدُوهُ وَهُمْ يَقْبَلُونَ مَا يُذْكَرُ لَهُمْ فِي غَيْرِهِ مِنَ اَلصَّحَابَةِ فَمَا اَلَّذِي مَنَعَ عَلِيّاً (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) مَا جَعَلُوهُ لِأَصْحَابِ رَسُولِ اَللَّهِ (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ). (التفسير الإمام العسكری (علیه السلام): ج۱ ص56۰)
والمسألة طويلة وجليلة وهي بحاجة إلى بحث مستقل، فالإمام الباقر (عليه السلام) هذا النور الباهر الذي أضاء سماء الأمة الداكن، وأنار ظلامها الدامس الذي أدخله فيها صبيان النار الأموية بعد عاشوراء المأساة الرسالية الدائمة، والإمام الباقر (عليه السلام) في فترة إمامته وولايته على الأمة جدد لها دينها وأعاد لها فكرها الحضاري الذي فقدته في زحمة الأفكار الدَّخيلة، وسلَّم رايتها إلى يد أمينة رفعت بنيانها، وأعادت لها شأنها لتكون قبلة الأديان والمذاهب والنِّحل بما قدَّمه لها من نظريات علمية مازال العلماء يدرسونها وهو ولده العظيم الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) مالئ الدنيا وشاغل الناس إلى يومنا هذا.
السلام على الإمام الباقر وعظم الله أجركم يا موالين في أيام شهادته المفجعة.
اضف تعليق