من المؤسف أن العالم يجتمع في الأمم المتحدة لحضور أعمال وفعاليات الدورة السبعين، حيث تتلاقى دبلوماسيات العالم، تبحث في مصالحها، وشؤونها وشجونها، إلا الدبلوماسية العربية، إلا أعرابنا الذين انتظروا هذا اللقاء الواسع، وأمام الطيف الدبلوماسي، وعلى مرأى العالم كله، ازدادوا عرياً وخجلاً وانغماساً في التآمر بعضهم على بعض... ولكن ألم يكن حرياً بالعرب، ودبلوماسيتهم أن يكونوا فاعلين في هذا المحفل العالمي لطرح قضاياهم الحقيقية... أين قضية فلسطين والأراضي العربية المحتلة... أين الحديث عن سياسة التهويد التي لم تبقِ من القدس شيئاً...؟
بل أين الحديث عن شرق أوسط خالٍ من أسلحة الدمار الشامل ولا أحد يمتلكها هنا في هذه المنطقة إلا الكيان الطارئ إسرائيل أم إن أعرابنا المراهقين والمستجدين في حراكهم الدبلوماسي يظنون أنهم في مشيخاتهم وممالكهم بمنأى عن خطرها وأنها ستكون أدوات تخصيب لأراضيهم وتنبت لهم زرعاً بعد أن تجف منابع نفطهم ويعودوا شحاذين على طرقات الحج ومواكب القوافل التجارية؟!
هذه المنظمة الدولية كما يبدو قد نخرها الفساد المالي الخليجي السعودي والقطري إلى درجة أن قطر تترأس ما يسمى بـ محفل تحالف الحضارات وتركيا تشرف على مركز منسق الأمم المتحدة لمكافحة الإرهاب بينما تُمول السعودية مركز الأمم المتحدة لمكافحة الإرهاب. فما هذه المنظمة الدولية التي يسيطر عليها هذا الفساد الخطير؟
تلتئم الجمعية العمومية للأمم المتحدة بموعدها السنوي الاعتيادي، في الوقت الذي تطمح فيه كثير من الشعوب إلى عالم أكثر أماناً وإنصافاً حيث غدا الأمل مفقوداً في عالم لا عدالة فيه، بل تجترح الذرائع للتدخل في شؤون داخلية لدول مستضعفة لنهب ثرواتها مع غياب شبه كامل للتضامن الدولي المطلوب من أجل إيجاد مخارج تقلص التهديدات المرتبطة بالأمن الدولي التي تثيرها في معظمها الامبريالية ضاربة عرض الحائط بسلطة الأمم المتحدة الحقيقية التي تعد الحرم العالمي الذي يجب أن يسود فيه الحوار الدولي المتعدد الأطراف وليس أفكاراً مثل من ليس معنا فهو ضدنا أي الطرف الآخر هو عدو بشبهة أنه ليس معنا وهي أفكار أدت إلى تحول مستهجن وعصي على العقلانية وهو مسألة التدخل في الشؤون الداخلية للدول.
ويقوم هذا المبدأ على التدخل بذريعة أن دولة تفرط مع شعبها علماً أن المادة الثانية من الميثاق ف7 تحظر التدخل، ولكن مبدأ التدخل لا فحوى شرعية يمكن تكييفها له بمفهوم القانون الدولي، وفقط استند إلى أن الخطر على أمن داخلي لدولة ما يشكل خطراً على الأمن الدولي! وبهذا نرى أن سيادات الدول ستغدو منقوصة بذريعة أنها قصرت أو اتهمت بالتقصير في شؤون مواطنيها، وهي الطريقة التي استهدفت بها صربيا وليبيا ومالي... والآن سوريا واليمن والحبل على الجرار، بزعم فرض احترام حقوق الإنسان، في الوقت الذي نجد فيه المجاعات تضرب بالعالم بسبب الحروب، مهما كانت ذرائعها التي تتلون بألوان غريبة.
كما لم يستطع العالم أن يجد مستقراً لأسعار الغذاء وكثرة الجائعين والتلف الشائع الآن في الموارد الزراعية، والموت المبكر لإحياء بعضها مجهري وبعضها ضخم في أخطر محنة إفلاس تمر بها الطبيعة، ولعل من اليقين الإضافة هنا أن كل متتبع سيظل مصابًا بالأرق، بقدر ما يتعلق الأمر بالفساد الإداري والمالي الذي يستشري في المنظمة الدولية وما يرتكبه الجنود الدوليون أصحاب القبعات الزرقاء من جرائم في اعتداءات مفتوحة على نساء إفريقيات وفي عقد صفقات من تحت الطاولات.
لقد اعترى عمل المنظمة إخفاقات ولحقت بها انتقادات بأنها لم تنجح في ظل هيمنة الولايات المتحدة عليها في تحقيق تقدم في مجال الحوار، وإعلاء قيمة الإنسان على الصعيد الدولي، فغدت مؤسسة يتم اللجوء إليها، ولاسيما إلى مجلس الأمن، لصناعة الأزمات بدلاً من حلها، علماً أن الأصيل في تكوينها تفادي الصراعات وتنظيم أمن البشر. وهي لم تستطع بمؤسساتها التي تهيمن عليها أميركا أن تردع نزعة الاستعمار لدى الإمبراطوريات السابقة التي تحاول اليوم الخروج من تحت الرماد، بل لم تستطع القيام بدور القضاء على الاستعمار وعودة ظهوره لأن قسماً من الدول التي ساهمت في إنشائها بعد الحرب العالمية هي دول استعمارية.
كما لم تسد المساواة قط بين الدول بسبب حق الفيتو الذي استخدمته أميركا عشرات المرات دفاعاً عن إسرائيل والمشروع الصهيوني. ومبدأ ازدواجية المعايير يطغى على الصعيد الدولي، عندما نجد جهود المنظمة في نزع السلاح ومكافحة الأسلحة الجرثومية والكيماوية والذرية تذهب هباءً، بسبب سياسات واشنطن وبخاصة بشأن النووي الإسرائيلي الذي يشكل أحد الممنوعات التي يجب على المنظمة عدم الاقتراب منها.
أما دورها في إزالة التمييز العنصري إضافة لما ورد في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1948) فمازالت توصيات لم تستطع حماية المرأة والطفل من الحروب الامبريالية والصهيونية والعراق وسورية واليمن والبحرين خير مثال. والأمم المتحدة بمعظم مؤسساتها ودولها تتحرك بنيات حسنة لتقديم مساعدات فنية للدول الفقيرة أو التي هي بحاجة إليها، بينما تقوم دول الاستعمار القديم والحديث غالباً باستغلال تدريب الكوادر فنياً من أجل التجسس على الدول التي تقدم إليها الخبرات الفنية.
وفي الوقت الذي تزداد فيه تحديات عولمة الاتصالات والاقتصادات تزداد الهوة بين الشمال والجنوب ويزداد الاحترار العالمي في البيئة التي تعد ملكية مشتركة للبشرية، وهنا نجد دولاً تسعى للمتاجرة بالبيئة بوضع ضرائب على الدول.
ولما كان ميثاق سان فرانسيسكو 1945 يتناول حقوق الإنسان قاعدة أساسية لكرامة البشر من خلال منع التطهير العرقي وعمليات الإبادة وملاحقة الجرائم ضد الإنسانية، نجد أنها ـ الأمم المتحدة ـ لا يمكن أن تحاسب أميركا أو إسرائيل والغرب على حروبها التي ترتكب فيها المجازر، فمحكمة الجزاء الدولية لن تلاحق قط جرائم التعذيب والقتل أيضاً والجرائم التي ترتكب في العراق وغزة وليبيا وسوريا واليمن وغيرها حيث لا يكفي زعم وجود واجب مساعدة الضحايا حيث يكون الإنسان يحيا بكرامته في بلاده وتأتي الحروب الباحثة عن النفط لتذله وتقذقه في أتون الفقر الذي لم تستطع أهداف الألفية من أجل التنمية القضاء عليه وعلى الجوع، وحيث ضمان الاستدامة البيئية أمر مستحيل في ظل استخدام اليورانيوم المنضب في حروب الامبريالية.
والسؤال الذي يطرح نفسه دائماً ما جدوى انعقاد هذه الدورة وغيرها من الدورات إذا كان العالم سيظل يدور في حلقة مفرغة من التكاذب والنفاق الأميركي والغربي، وماذا باستطاعة الأمانة العامة للأمم المتحدة أن تنجز من جدول الأعمال المقترح في ظل هذا الانقسام الدولي الحاصل وإصرار الولايات المتحدة الأميركية على لعب دور شرطي العالم وتعاطيها مع المنظمة الدولية وكأنها مؤسسة تابعة لها...؟!
ولعل ما تقدم هو انتقادات ضد أسلوب تحريف عمل الأمم المتحدة من قبل دول جشعة وليس ضد المضمون والأسس التي ترتكز إليها المنظمة، حيث تظل الأطراف التي تفضل الطروحات الأحادية الجانب تنظر إلى المنظمة لتسيير مصالحها الذاتية، على عكس الدول التي تسعى إلى إصلاحها ولاسيما أنصار عالم متعدد الأقطاب حيث تتوطد روح الشرعة التي تقوم عليها، فيكون أي تحرك دولي قائماً على نقاش وقرار جماعي بعيداً عن النزعات الأحادية الجانب التي مثالها اتهام العراق بأسلحة دمار شامل، حيث نشرت الأمم المتحدة جهاز تفتيش متخصصاً بناء على تحرك الولايات المتحدة لتبرير احتلاله من خلال تلفيقات وادعاءات أحادية أدت إلى قيام تحالف عام 2003 لضربه واحتلاله من دون الحصول على موافقة مجلس الأمن، أما ليبيا فكانت ذريعة تقويضها التدخل الإنساني بقرار أممي 1973 سوغ حظراً جوياً توسع ليصبح دون شرعية تدخلاً على الأرض...
المطالب الكثيرة بالتغيير والاصلاح للمنظمة وميثاقها وفعاليتها مطلوبة الآن أكثر، وهي بحاجة لها، كما هي الحاجة الآن إلى تنفيذ ميثاقها الحالي والقانون الدولي وتحدي طغيان الولايات المتحدة وحلفائها وفضح كل ما يتعارض مع ذلك من سياسات وإجراءات لا تخدم الأمن والسلم الدوليين، حماية للبشرية من الحروب والإبادة والعدوان وإيقاف انتهاك حقوق الانسان ونهب الثروات وتدمير معالم الحضارات والثقافات الانسانية. ان العالم كله يعلم جيداً، من يعمل من أجل الأمن والسلم الدوليين، والقانون الدولي، ومن يدعم الإرهاب ومن يكافحه.
وعند أي حديث عن إصلاحات في المنظمة يتجه التفكير أولاً إلى تخليصها من هيمنة أميركا عليها لتستطيع أن تحدد تعريفاً للإرهاب، أو كبح الانتشار النووي الإسرائيلي، وضبط إيقاع بعض مؤسساتها مثل البنك الدولي وصندوق النقد اللذين ساهما في كبح التنمية في العالم بل في تقويض اقتصادات الدول من خلال سياسات نقدية فرضاها عليها.
على هذا الأساس أطالب كل المعنيين بالسلم والأمن الدوليين ضرورة إعادة النظر في ميثاق الأمم المتحدة ومدى مطابقته للواقع. ثم ضرورة البحث عن طرق وأساليب جديدة لتحقيق الأمن والسلم الدوليين تساهم في حل جملة التناقضات التي تحيط بالواقع العالمي قديمها وما ترتب عليها من حديث وما هو مستجد منها أيضاً أو يمكن أن يستجد، انطلاقاً من مصالح الإنسان، وتحقيقاً لعودة كل ما فقده من شروط إنسانيته المضاعة تاريخياً.
إن ما أدعو إليه وأطالب به يعد أمراً مشروعاً، بيد أن المشكل الأساس يقع في كيفية إعادة صياغة جديدة لمنظمة الأمم المتحدة بحيث لا يعود مجلس الأمن هو المؤسسة الوحيدة المتحكمة بمصير حركة وتشكل مسار العالم من جهة، وأن لا يبقى هناك من يمتلك حق النقض، بإسم الديمقراطية، قادراً من خلاله أن يفشل أي قرار يتخذه مجلس الأمن ذاته عندما يشعر من يمتلك حق النقض أن القرار المتخذ لا يخدم مصالحه.
اضف تعليق