لكي يتحقق الآمن الاجتماعي والسياسي والثقافي في العراق ويطمأن الفرد والمجتمع ويحصل الانتقال الديمقراطي الفعال لابد من التفكير ملياً بسبل من شأنها أن تعزز التسامح وتفشي قيم الفضيلة والتواصل بين الجميع لتصل سفينة الوطن إلى بر الأمان، لاسيما بعد الحراك الشعبي وموجة الاحتجاجات التي نجحت...
لكي يتحقق الآمن الاجتماعي والسياسي والثقافي في العراق ويطمأن الفرد والمجتمع ويحصل الانتقال الديمقراطي الفعال لابد من التفكير ملياً بسبل من شأنها أن تعزز التسامح وتفشي قيم الفضيلة والتواصل بين الجميع لتصل سفينة الوطن إلى بر الأمان، لاسيما بعد الحراك الشعبي وموجة الاحتجاجات التي نجحت في إلزام الطبقة السياسية بإقرار بعض القوانين والتي تتكفل بإحداث بعض التغييرات الجوهرية في بنية العمل الديمقراطي والتداول السلمي للسلطة في البلاد، فلابد من البحث عن سبل الحوار وتعزيز ثقافة التسامح لمنع الانزلاق إلى مالا يحمد عقباه، فمما لاشك فيه إن الحراك تركز في محافظات معينة وبقيت الأخرى على الحياد.
وبما إن الطبقة الفاسدة التي تسببت بمآسي الشعب والوطن ليست من طيف أو محافظة معينة بل هم البعض من شركاء العمل السياسي منذ العام 2003 ولغاية الآن يملكون التأثير في القرار العراقي ويتحكمون في مفاصل السلطات العامة الرئيسة، ولهم السطوة والتأثير بما يملكون من أموال وأتباع، لهذا لابد من عزل هؤلاء وتحييدهم جماهيرياً ومن ثم سياسياً بطريق ديمقراطي وسلمي بحت عبر صناديق الاقتراع، ومن بعد ذلك يمكن فتح تحقيق قضائي عادل وشفاف لاسترجاع الأموال العامة التي نهبت بغير حق أو التي أهدرت لسبب وبدون سبب وبهذا يمكننا تحديد الأولويات في المرحلة المقبلة وفق الآتي:
أولاً: التأكيد التام على احترام حقوق الإنسان العراقي وحرياته وفق القواعد القانونية التي ضمنت ذلك، في جميع الظروف وفي كل أرجاء الوطن بلا تمييز لأي سبب كان.
ثانياً: الإيمان بالتعدد والاختلاف بين المكونات العراقية واحترامها جميعاً بوصفها مصدر قوة وتنوع وكلها متأتية من موروث ديني أو اجتماعي أو ثقافي محترم، فالعراق بلد متعدد القوميات والأديان والمذاهب، منذ الآلاف من السنين التي عاش فيها العراقيون متآخين ومتضامنين ومتحابين تختلط أنسابهم في السراء وتتمازج دمائهم في الضراء لصيانة المصلحة العامة المشتركة بين الجميع.
ثالثاً: أهمية الاستمرار بالنهج السلمي في جميع الاستحقاقات القادمة وعلى مختلف الأصعدة لاسيما في الحركة الاحتجاجية والتعبير عن المطالب والانطلاق نحو أفق التشاور والتآزر في المطالبة بالاستحقاقات الوطنية، بما يمكن من أعلاء مصلحة العراق فوق المصالح الذاتية والفئوية الضيقة، فالسلام المجتمعي المنشود ليس الهدف منه غياب الصراع على مستوى الأفراد والأحزاب والفئات بل هو إحلال ثقافة السلام بأن تواجه جميع المشكلات بالحلول السلمية بروح من التفاهم والتفهم والتعاون للتغلب على المشكلات والعقبات.
رابعاً: القضاء على جميع أشكال التعصب والتمييز والتفرقة سواء منها القائمة على أساس الدين أو المذهب أو الانتماء أو القومية أو غيرها من خلال:
1- تعديل الوثيقة الدستورية وتضمينها القيم أعلاه بصيغة نصوص أمرة لجميع السلطات، وتحريم الخطاب الطائفي أو القومي الذي من شأنه تقويض أسس السلام، مع حفظ الحق للجميع بالتعبير عن ذاتهم بكل الوسائل التي تمكنهم من المحافظة على هوياتهم الثقافية أو الدينية الفرعية، وعلى سبيل المثال إن نص المادة (3) من دستور 2005 انتهى إلى تقرير أن ((العراق بلد متعدد القوميات والأديان والمذاهب)) وهذا النص غير كافي ما لم يعقب عليه بعبارات أخرى تتمثل باحترام الدولة لجميع الهويات الفرعية والعمل على المحافظة عليها، وتعزيز الحوار الهادف إلى التفهم المشترك للموروث الوطني الذي يشكل تنوعاً بشرياً جميلاً.
2- إعادة النظر بالقوانين التي كرست أو تحاول تكريس نوع من التفرقة بين أبناء الشعب الواحد وكانت سبباً من أسباب النقمة الشعبية والحركة الاحتجاجية الأخيرة، ومنها على سبيل المثال قانون مؤسسة السجناء السياسيين رقم (4) لسنة 2006 الذي عدل بالقانون رقم (35) لسنة 2013 أو ما عرف شعبياً بقانون رفحاء، حيث شمل بعض العراقيين بامتيازات مالية كبيرة جداً تنسف مبدأ المساواة أمام القانون وتحمل الأعباء العامة بشكل متساوي.
3- التشجيع على عقد ملتقيات ومعارض فنية وفعاليات ثقافية تعرف بالموروث الثقافي والديني الحقيقي للعراقيين جميعاً ليكون جزءً لا يتجزأ من المتحف الوطني العراقي والحركة الثقافية.
4- التركيز على الدور المحوري الذي يمكن أن تلعبه وزارة الشباب وبالتعاون مع الوزارات الأخرى لاسيما وزارة العمل والشؤون الاجتماعية للانطلاق ببرامج ورسم سياسات تستوعب الشباب وتضع الحلول للمشاكل التي يواجهونها بعيداً عن الانتقائية والآثار السلبية للمحاصصة السياسية التي أبعدت الوزارات كافة عن ملامسة المشاكل الحقيقية التي يعيشها العراق.
ومما تقدم نستنتج إننا وبحق في حالة من المخاض الاجتماعي وليس السياسي فقط وان البلد بصدد إعادة صياغة لمجموعة من القيم الاجتماعية والثقافية السائدة بفضل حالة التحرر الشبابية الحالية من موروث السياسة التي أفسدت فيما مضى كل شيء جميل في العراق، ولهذا نقول ينبغي التركيز على إعادة صياغة عقد اجتماعي من شأنه أن يحقق المأمول في بلدنا ونقترح أن يكتب بمراعاة الآتي:
1- احترام الحق بالحياة والكرامة البشرية والحرية من خلال سيادة ثقافة اللاعنف الشامل على الصعيد الأمني والاجتماعي والاقتصادي والثقافي، وتحويل ما تقدم إلى مناهج دراسية تدرس للأجيال القادمة، ومنهج حياة للأفراد على المستوى الرسمي والشعبي.
2- أن تكون المصالح العليا للبلد في السيادة والأمن والرفاه الاقتصادي هي الغاية المشتركة والطريق الوحيد لتحول العراق إلى بيئة صالحة للعيش الكريم لكل أبناء العراق.
3- التركيز على التنمية المستدامة لاسيما التنمية البشرية التي من شأنها أن ترتقي بالفرد والوطن.
4- تنشئة الأفراد لاسيما الأطفال على الامتثال التام للقانون والنظام العام والآداب العامة بما من شأنه أن يوجد أجيال قابلة لتجاوز العقد الماضي بما تضمنه من حالة اللاثقة بالآخر أو الدولة والمضي قدماً باتجاه الوطن السعيد.
5- الاحترام الكامل للحقوق والحريات المنصوص عليها في جميع الإعلانات والمواثيق الدولية والوطنية للأقليات بكل ألوانها، وإشاعة ثقافة احترام الأخر والحوار معه بعيداً عن أي حكم مسبق أو استنتاج سلبي، بما يمنع الإنجرار وراء الصراعات الفردية أو الجمعية بين الأفراد فيما بينهم، أو مع السلطات العامة بما يمهد إلى انتهاكها.
6- إصلاح الأنظمة التعليمة والتربوية كافة من خلال خطط علمية مدروسة من شأنها أن تحدث التغيير في عقلية المعلمين أولاً والمربين والأسر لاسيما الوالدين وتغيير نظام الدراسة وتوقيتاتها بما يحقق الغاية المتقدمة.
7- تعزيز المجتمع المدني ومؤسساته الفاعلة والانتقال نحو الحرية المطلقة في تأسيس المؤسسات وحرية عملها، بعيداً عن سطوة الحكومة وأساليبها البوليسية، بما يمكنها من تحقيق أهداف المجتمع المشتركة والارتقاء بأفراده، والوصول إلى المنفعة العامة بشكل طوعي وهادف.
8- تبني برامج حقيقية هادفة إلى القضاء على الفقر والعوز والحاجة، وبرامج تعزز التكافل الاجتماعي وإزالة الفوارق كافة بين أبناء الشعب الواحد.
9- ضرورة اعتماد معايير الشفافية في إدارة الأموال العامة واعتماد أقصى محددات النزاهة في العمل الإداري والمالي والابتعاد عن كل ما من شأنه ان يضعف ثقة المواطن بالهيئات العامة أو القائمين عليها.
10- أهمية مشاركة وسائل الإعلام والإعلاميين في التأكيد على الحوار وزرع روح التسامح وإضفاء جو من الحوارات الهادئة الهادفة عبر البرامج التثقيفية المدروسة وإنتاج مسلسلات خاصة بالأطفال والكبار تعبر عن المعاني السامية لما تقدم، كما ولابد من استثمار وسائل التواصل الاجتماعي لتأكيد ما تقدم.
11- على الأمم المتحدة وأجهزتها ووكالاتها المتخصصة ولاسيما منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) ومنظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونسيف) وغيرها من الوكالات ان يكون لها دور محوري في ما تقدم بتدريب خبراء وطنيين عراقيين من المهتمين بالعمل التطوعي أو المتخصصين بالتربية والتعليم للعمل الجاد على إشاعة ثقافة الحوار ونقل مهارات ذلك إلى الآخرين بشكل فعال.
12- محاصرة خطاب الكراهية والتنميط والقضاء عليه بكل الوسائل الممكنة كونه من أشد الأفعال خطراً على المجتمع ومن شأنه أن يصنع أفراد قادرين على ارتكاب جرائم من أجل الدفاع عما يعتقدون من أفكار لعلها تشكل خطأ تاريخي فادح ارتكب من قبل السلاطين ووعاظهم للبقاء في السلطة فتأثرت به العامة.
على مستوى الفرد يتطلب التغيير المنشود الآتي:
1- إشاعة ثقافة الحوار بين الأفراد لحل المشكلات التي تواجههم بطرق سلمية وودية من شأنها أن تعيد الوئام للمجتمع بأسرع وقت ممكن وبأقل التكاليف، شريطة أن يكون ذلك مقروناً بالرضا والقناعة التامة بالحلول على المستوى الفردي أولاً والجمعي ثانياً، بعيداً عن ثقافة الإملاءات والإجبار.
2- التخلص من بعض العادات العشائرية والقبلية المتخلفة التي تشيع في بعض أوساط المجتمع العراقي، والتي تعد وبحق مثاراً للخلاف والشقاق وإشاعة حالة عدم الاستقرار بسبب عدم الرضا عن النتائج التي توصل إليها كالإجبار على الزواج القسري وامتهان المرأة، واحتقار بعض الأنساب، واستعمال القوة في حل الخلافات بعيداً عن ساحة القانون والقضاء وغيرها كثير.
3- المشاركة الفاعلة والهادفة في جميع المحافل الديمقراطية التي من شأنها تصحيح مسارات السلطات العامة وتكوينها على أسس المهنية والوطنية والتخصص بعيداً عن العناوين الفرعية الأخرى التي يتشدق بها الفاسدون والمتخلفون للوصول إلى سدة الحكم أو البقاء فيه لأطول مدة ممكنة بالاستفادة من الأموال العامة والإمكانيات التي يوفرها المنصب العمومي.
4- تنشئة الأجيال القادمة على معاني الحب والإخاء والإيثار واقتلاع آفة الكراهية والتمييز والتعصب.
5- محورية دور رجال الدين والمنابر في إضفاء الروح الإيجابية بين أبناء المجتمع الواحد في تقبل الآخر والحوار معه والتفاهم للتوصل إلى الرؤية المشتركة الواضحة.
اضف تعليق