تبادل الراونديان جان بوسكو غاكوينزيري وباسكال شيراهوامابوكو الحديث والابتسامات الودية في نهاية قداس الأحد في كنيسة بلدتهما، بعد 25 عاما من مشاركة الثاني في قتل والد الأول خلال أعمال الإبادة الجماعية التي وقعت في البلد الأفريقي الصغير، ودخل الرجلان اللذان يعرفان بعضهما البعض جيدا...
(أ ف ب) - تبادل الراونديان جان بوسكو غاكوينزيري وباسكال شيراهوامابوكو الحديث والابتسامات الودية في نهاية قداس الأحد في كنيسة بلدتهما، بعد 25 عاما من مشاركة الثاني في قتل والد الأول خلال أعمال الإبادة الجماعية التي وقعت في البلد الأفريقي الصغير، ودخل الرجلان اللذان يعرفان بعضهما البعض جيدا منذ خمسين عاما في عناق طويل ودافئ بعد مشوار طويل من العمل على الغفران والتسامح بين الجاني والضحية.
ففي العام 1994، كان شيراهوامابوكو عضوا في عصابة ضربت والد غاكوينزيري حتى الموت، بعيد انزلاق رواندا في أحداث عنف مروعة وإبادة جماعية، ولا يزال الرجلان يعملان كمزارعين في حقول الكسافا والبطاطا خارج بلدة موتيتي الصغيرة الواقعة على بعد 40 كلم شمال العاصمة كيغالي، وقال شيراهوامابوكو البالغ الآن 68 عاما "لقد أذيته بشكل كبير، لكنّه سامحني"، وتابع "هو الآن أفضل اصدقائي".
حيوانات برية
وفي هذا الشهر قبل 25 عاما، كانت بلدة موتيتي مسرحا لأحداث عنف لا يمكن تخيلها، إذ شهدت اقتتالا دمويا بين الجار وجاره، وقتل أكثر من ألف شخص من سكان البلدة في الأيام القليلة التي اعقبت تفجر العنف الاتني، الذي ارتقى لإبادة جماعية قتل فيها أكثر من 800 ألف شخص من قبائل التوتسي بين نيسان/ابريل وتموز/يوليو 1994، حسب أرقام الأمم المتحدة، ولا يزال غاكوينزيري النحيل البالغ 65 عاما الذي يرتدي قبعة برتقالية لرعاة البقر يتذكر لحظة وصول رجال يحملون السواطير أعضاء في عصابة مسلحة من اتنية الهوتو التي تشكل غالبية سكان البلاد وتعرف باسم "انتراهاموي".
وقد جاؤوا الى القرية لملاحقة وقتل السكان التوتسي الذين كانوا يلقبونهم "بالصراصير"، ويسترجع الرجل المكلوم هذه الأحداث المروعة وقد امتلأت عيناه بالحزن "ذهبوا الى كل منزل يعرفون أن به سكانا من التوتسي ... كانوا يقطعونهم بالسواطير".
وتمكن غاكوينزيري من الاختباء من الميليشيا، لكنّ زوجته وأربعة من ابنائه الستة فشلوا في ذلك وماتوا ذبحا على أيدي عناصر هذه الميلشيات، ونجح والده في الهرب إلى الغابة مع قطيعه، لكن احدى عصابات "انتراهاموي"، والتي يقول شيراهوامابوكو إنّه أجبر على الانضمام إليها، عثرت عليه، وقال شيراهوامابوكو إنّه حاول في البداية إنقاذ والد صديقه، لكن الميليشيا وضعته امام اختيار صعب، إما تركهم يقتلون والد صديقه أو يقتلونه هو شخصيا، وتابع بهدوء "أنقذت نفسي"، ليشارك لاحقا في قتل عشرات آخرين.
وبعد انتهاء الإبادة الجماعية، أوقف شيراهوامابوكو وقدم للمحاكمة في نظام محاكمات تقليدي برئاسة شيوخ القبائل يعرف باسم "غاكاكا"، تم اعتماده للتعاطي مع العدد الكبير من المتهمين الواجب محاكمتهم، وفي محاولة لدعم المصالحة الوطنية، دين اولئك الذين اعترفوا حتى بأبشع الجرائم بتنفيذ أعمال مجتمعية بسيطة.
لكنّ شيراهوامابوكو رفض في بادئ الامر الاعتراف، ما جعله عرضة لحكم مشدد، وشرح ذلك قائلا "لقد كان الأمر صعبا"، مضيفا أنّه كان يحسد اولئك الذين اعترفوا بجرائمهم، وتابع "لقد كنت مرتبكا. كيف لي أن اشرح للناس أنني قتلت شخصا بريئا"، ولفترة طويلة، كان يعتقد أنّ احدا لن يسامحه أبدا، وقال "في البداية، كنا نعتقد أنّ ذلك مستحيل لأننا ارتكبنا افعالا ترتكبها حيوانات برية"، لكن بعد تمعن طويل "تفهمنا أن الأمر لا يمكن ان يستمر على هذا المنوال".
عار لا يوصف
لكن الأمور تغيرت فعلا. فأثناء تواجد شيراهوامابوكو في السجن، سمع أن أهالي قريته يعاملون زوجته باحترام، رغم الجرائم التي اقترفها، وفي النهاية، استجمع قواه واعترف وطالب بالغفران من صديق الطفولة القديم، وحين أطلق سراحه، ذهب للقاء غاكوينزيري وجها لوجه، ويسترجع شيراهوامابوكو "لقد كان عارا لا يوصف ... كان أمر مخزيا أن تقف أمام شخص تسببت له بضرر كبير بعد أن سبق وتشاركت معه في كل شيء"، وساهم اعتراف شيراهوامابوكو بجرائمه علنا في استرجاع علاقته بصديق طفولته، وقال "لا أدرى إذا كان ذلك حصل لأنني اصبحت عاقلا مع تقدمي في السن، لكن في الواقع اشعر أنني أفضل من قبل".
وبمرور الوقت، وجد غاكوينزيري ببطء مكانا في قلبه للقبول بأنّ صديقه القديم آسف حقا لما اقترفه بحقه، وقال غاكوينزيري "لم اشعر بأنني قادر على التحدث او مشاركة أي شيء مع اولئك المسؤولين عما حدث".
وتابع "لكن بمرور الوقت ومع الصلوات، قليلا قليلا، بدأنا نغفر ونتحدث عن الغفران وتدريسه" للآخرين، واستغرق غاكوينزيري وقتا طويلا للانخراط مجددا في الحياة وإعادة بناء نفسه. وأخيرا تزوج ورزق بخمسة ابناء آخرين.
وقال "سامحت الكثير من الاشخاص وكلهم جيراني. اعرف أن الموتى لن يعودوا أبدا وأن ما فقدناه لن يعود أبدا. لكن ذلك سمح ليّ أن بأمضي قدما وألا أعود للخلف".
فيما يشهد وادي روسيكي للمصالحة التي عقدت بين عائلات القتلة والضحايا بعد 25 عاما من الإبادة التي شهدتها رواندا، حيث تعلم السكان التعايش في منطقة يتوسطها نبع تحوط به أشجار الموز والمانغو والأفوكاد، على بعد حوالى 40 كلم غرب كيغالي.
في هذا الوادي وسط رواندا، عاشت قريتان طوال سنوات في وئام حول هذا النبع، قبل أن تؤدي فظائع الإبادة في 1994 الى اطاحة هذا التوازن، اكتُشف النبع الذي يشرف على المنازل ذات الأسطح القرميدية، المبعثرة الى جانب التل، خلال الاستعمار البلجيكي. وبات النبع الذي يستقي مياهه من بحيرة خلف إحدى التلال المجاورة، محور حياة قريتي روسيكي وغوهيتيا، ويتذكر كبار السن احاديث كانت تدور حول النبع، وصفوف انتظار في موسم الجفاف عندما كان الناس يأتون في بعض الأحيان من مناطق بعيدة للاستسقاء، وتعبيرا عن الانسجام الأخوي الذي كان يسود القريتين، لكن كل شيء انقلب رأسا على عقب في 6 نيسان/ابريل 1994 لدى اغتيال الرئيس الرواندي الهوتو جوفينال هابيارامانا، والذي تسبب في اليوم التالي بابادة اسفرت في غضون 100 يوم، كما تقول الأمم المتحدة، عن 800 الف قتيل على الاقل، معظمهم من اقلية التوتسي، وعمت الاضطرابات البلاد بأكملها. فسكان قرية غوهيتيا الذين يشكل الهوتو اكثريتهم الساحقة، وألهبت حماستهم الدعاية المتطرفة، هاجموا التوتسي في روسيكي، وقتلوا حوالى 70 شخصا، وتتذكر دافروسا موكاروبيايزا (57 عاما) التي فقدت زوجها وابنها، قائلة "كانت مفاجأة كبيرة لنا، لأنهم أشخاص كنا نعيش معهم بوئام، ونتقاسم معهم كل شيء"، وبعد هذه المأساة، سادت شكوك طوال سنوات. صار سكان القريتين يتجسسون بعضهم على البعض الآخر وما عادوا يستخدمون النبع إلا في شكل منفصل لتجنب الاحتكاكات.
طلب المغفرة
جان-كلود موتاريندوا (42 عاما)، أحد سكان غوهيتيا، واحد من الذين وضعوا الأسس الأولى للمصالحة. فهو لم يشارك شخصيا في المجازر، خلافا لأخوته الكبار، وهذا ما سهل مهمته.
بدأ بطرح المصالحة مع أحد أصدقائه، وهو جندي سابق يدعى بروتوجين. وفي الكنيسة، شارك ايضا في اعمال مشتركة مع افراد من قرية روسيكي، منهم دافرسوا، واوضح "قلت في نفسي، بما أني أحد أبناء القرية، فمن واجبي المشاركة في عمل المحبة هذا، من خلال سؤالهم عما يمكن أن نفعله حتى يسامحونا. لكن المهمة كانت معقدة".
وكان لنشرة اذاعية شعبية أثرها أيضا، وخصوصا انها تروي منذ 2004 وقائع الحياة اليومية لقريتي بومانزي وموهومورو الخياليتين، واللتين تحاولان تضميد جراحهما بعد سنوات من الصراع، وفي 2005، عندما كُشفت الحقيقة حول عمليات القتل والنهب وتلف الممتلكات، امام المحاكم الشعبية، بدأت اولى الخطوات الملموسة للتقارب.
وأقنع جان كلود جيرانه بمساعدة سكان روسيكي في الحقول. وببطء سقطت الحواجز. وقال ان "طلب المغفرة لم يكن على الاطلاق أمرا سهلا: ففي المرة الأولى التي عبرنا خلالها عن رغبتنا في طلب المغفرة، كنا حوالى 100 شخص. وفي صفوفنا، كان الناس يشعرون بالخوف"، واضاف "بعدما رآنا الذين لم يقوموا بالرحلة نعود سالمين، تضاعف العدد تقريبا... في المقابل، ازداد الذين كانوا يخافون من استقبالنا، طمأنينة... وفي الرحلة الثالثة، في قريتي، لم يبق أحد في المنزل".
استعادة الوحدة
تمت المصالحة خلال اجتماع عام، تلاه احتفال كبير في وسط روسيكي. فقد وافقت القرية على دفع 40 مليون فرنك لتعويض الممتلكات المدمرة في قرية غوهيتا، وقال دافروسا "شعرت بأنني على استعداد للتسامح، بتشجيع من القادة، لقد تعلمنا أن نعيش سوية... في بادرة إنسانية، قلت لكلود أن يطلب من عائلته ان تنظم صفوفها وتأتي لطلب العفو"، وعرف أطفال القريتين ما حدث وكانوا أول من التقى قرب النبع، حيث سرعان ما استأنفت الحياة مسارها الطبيعي، ومنذ ذلك الحين، يزرع سكان غيهيتا حقولا لمنطقة روسيكي. ويشعر جان كلود بسرور حيال هذه "الوحدة"، وتؤكد دافروسا أنها باتت تذهب إلى غوهيتا من دون خوف، لكن الجميع ليسوا متفائلين الى هذا الحد. اذ لم يأتِ أحد أبدا لطلب المغفرة من جوزيفا موكاروزيما، المولودة في 1948، وهي الناجية الوحيدة في عائلتها. علما بأنها انضمت الى عملية المصالحة حتى لا تبقى بمنأى عما يجري.
وعبرت عن اسفها بالقول "لم يكن في استطاعتي فعل شيء، لقد قبلت ذلك. ماذا يمكنني أن أفعل غير ذلك؟ لا يمكنني أن أبقى وحدي، بدون التحدث إلى أي شخص. لا يمكننا ان نمنح العفو للذين لا يطلبونه منا"، وخلصت الى التساؤل "هل تعتقدون ان الاعتراف بالجرائم فقط أمام السلطات، بدون العودة لطلب المغفرة من الضحايا، يكفي؟ إنه لا يكفي. ثمة امور كثيرة ناقصة".
اضف تعليق