في البلدان العربية يوجد الف الف خاشقجي، وفي بلد مثل العراق يولد عشرات الالاف من أمثال هذا الصحفي الشهير، نحن نعاني من ضغوط مضاعفة، فالاحتقان السياسي الذي يستقي مصطلحاته من الطائفية يقطع حلقات التواصل مع العالم العربي، يتهموننا بكل الكلمات الجارحة كما فعلت سلطات السعودية...
اختفى الصحفي السعودي جمال خاشقجي او قُتِل، رواياتان متداولتان على مستوى العالم، تصارع احداهما الاخرى دون أي نتيجة تذكر، وما بينهما صراع سعودي تركي في القاء اللوم على الاخر، لكن لا فرق بين الاختفاء والقتل فالرجل ليس هو المستهدف بعينه رغم ثقل ارائه على سلطات بلاده، انما حرية التفكير والتعبير هي الضحية، لا تفكر خارج اطار السلطة والا يقطع رأسك، حتى وان كنت متشبثا بايقونة الديمقراطية "أمريكا".
يعاني هذا الصحفي من انحيازه لبلاده، فهو يدافع عن سياستها الخارجية في الكثير من الأحيان، وينتقدها ذات الوقت، لكن قصابية الحقيقة تقوم باقتطاع ما يحلو لها ويخدم ايدلوجياتها، فعندما يريدون ان يتهمونه بالولاء المطلق للسلطات يجمعون المقالات التي يمتدح بعض مشاريعها وحروبها، وعندما يريدون ان يبرزوا حجم الخلاف داخل السعودية يجمعون مقالاته التي ينتقد بها سياسة بلاده ويدعوها لايقاف حروبها الخارجية، انهم يمزقون لوحة الحقيقة لاشباع شعبويتهم وشعبوية المجتمع.
في البلدان العربية يوجد الف الف خاشقجي، وفي بلد مثل العراق يولد عشرات الالاف من أمثال هذا الصحفي الشهير، نحن نعاني من ضغوط مضاعفة، فالاحتقان السياسي الذي يستقي مصطلحاته من الطائفية يقطع حلقات التواصل مع العالم العربي، يتهموننا بكل الكلمات الجارحة كما فعلت سلطات السعودية مع مواطنهم الصحفي خاشقجي، ينعتوننا بالولاء لهذه الدولة او تلك لأننا نعاني.
فقط لأننا نعاني من السياسات العربية الخاطئة. في بيت الله الحرام تكال لنا الشتائم بينما نحن نرفع الصوت عاليا بضرورة وقف التشنج الطائفي فنُصفَع بفتوى اكبر منها كلها تاتي من دولة جارة شقيقة بالجغرافيا والقومية والدين. كم كانت جائرة وكان العرب اكثر جورا عندما حرموا علينا انتقاد سياستها الخاطئة تجاهنا.
اعتقال العقل
لانك تخالف اراء السلطة السعودية يجب ان تنفى الى خارج البلاد، ولانك عراقي فيجب تصنيفك حسب طائفتك، يجب ان تحب صدام الذي يشبه محمد بن سلمان في اجرامه، عليك التصفيق له في كل جملة تقولها، وتلعن كل اعدائه السابقين واللاحقين، حتى وان كان صدام قد وضع اهلك وجيرانك في سجون تصبح معها معتقلات محمد بن سلمان قصورا عظيمة، يجب ان تعبث بامن العراق وتساهم في تدمير العملية السياسية فقط لان السعودية لا تحب حكومة بلادك التي صنعها نظام ديمقراطي لا يزال في سن المراهقة.
لا حاجة لنعي خاشقجي رغم ما يستحقه من الإشادة بارائه التي انتشرت في الصحف العالمية، وما يمثله رحيله من خسارة للصحافة العربية والعالمية، فهناك من دافع عنه وطالب بحقه، ليس كما نحن في العراق، كنا نذبح يوميا طوال عقد ونصف من الزمن بفتاوى تاتي من السعودية المتهمة الان بقتل خاشقجي، ولا يسمح لنا بانتقادها حتى لا نتهم بخيانة العروبة.
بالمختصر كان الشعب العراقي يمثل خاشقجي الذي لم يعلن عنه ولم تدافع عنه قنوات الاعلام العربي، كنا نقول لهم ان جريمتكم بحقنا هي نتاج حكم لا يستند الى المنطق، انه فعل يرتقي الى مستوى الجريمة، فالمجرم ينصب نفسه قاضيا وجلادا، من هنا تبدأ عجلة الفوضى بالدوران، وتسحق كل الصغار الذي يقفون امامها، صغار مثل المواطن العراقي الذي لم يكن يملك وسائل اعلام تدافع عنه، ولا صحافة غربية او أي جماعة لها نفوذ.
صلاة القَتَلة
"الموت المجاني" الذي يصيب الشخصيات المعارضة هو نتاج عملية طويلة اخر مراحلها "فعل القتل" الذي نستنكره فقط، اول خطوة نحو تشغيل الة القتل هو تغييب الراي الاخر، واختزال السلطة بيد الأمير او قمع المُخْتَلِف عبر وسائل التحريم الفكري، فكل القوانين السماوية والارضية جاءت لتنتشل الناس من الأوهام حتى لا ينجرفوا نحو الظلم والاستبداد، لكن التسامح بقمع فكر الاخر يجعل السلطات تترسب بيد الأمير فيصبح القتل عنده صلاة يومية.
في كل تلك الفوضى يتضاءل دور العقل ويفقد قيمته، فيتم تسليم رقاب الناس الى طبقة من الساسة ورجال الدين الذين يحملون مشاعر الناس في حقائبهم وعمائمهم، يبحثون عن مناطق لاثارة الصراعات هنا او هناك، وبدون هذا لا يستطيعون الاستمرار.
ما عانى منه خاشقجي يعاني منه كل من يحترم عقله ويفكر ويحلل الأمور ويريد ان يسلك المسار الصحيح بغض النظر عن من يقف امامه، فهو يقول ما يراه مناسبا، يمتدح سلطات بلاده حينما يراها تفعل الصواب، وينتقدها حينما تنتهج سياسة تهدد البلاد، يدعو لمنح جوائز السلام لمرجع دين يختلف معه في سنوات الاحتقان الطائفي لانه وجد فيه رجل السلام الحقيقي بغض النظر عن طائفته، لكن من يسلك هذا المسار يجد نفسه مختفيا في قنصلية بلاده او مدانا عبر وسائل اعلام اعتادت الترويج لفكرة العبد والأمير.
اضف تعليق