قضية مقتل بائع السمك محسن فكري، الذي مات سحقا في شاحنة نفايات عندما حاول على ما يبدو إنقاذ بضاعته بعد مصادرتها في مدينة الحسيمة في شمال المغرب، ما تزال محط اهتمام واسع حيث شهدت العديد من المدن المغربية احتجاجات غاضبة ضد الانتهاكات والظلم الذي يمارس من قبل السلطات المغربية كما يقول بعض المراقبين، الذين أكدوا على ان هذه الحادثة تعد واحدة من أكبر وأطول التحديات التي تواجهها سلطات المغرب ولملك المغرب محمد السادس، منذ اندلاع مظاهرات مطالبة بالإصلاح إبان الربيع العربي في 2011.
فبعد خمس سنوات من التجمعات للمطالبة بالديمقراطية التي هزت المغرب عادت الاضطرابات ومشاعر الإحباط إلى الصدارة التي نجح النظام الملكي في احتوائها بتعديلات دستورية محدودة وإنفاق كبير على الرعاية الاجتماعية وتشديد الأمن.
وتعود وقائع الحادثة بحسب بعض المصادر، إلى الجمعة 28 أكتوبر، بعدما صادرت السلطات المحلية داخل ميناء مدينة الحسيمة المغربية سلعة الشاب محسن فكري، بحجة أن السمك الذي كان يبيعه ممنوع صيده، ووفقًا لروايات نشطاء مغاربة على وسائل التواصل، فإن أحد رجال الشرطة رمى سمك البائع في شاحنة نفايات ما دفع الشاب إلى إلقاء نفسه في الشاحنة احتجاجا على مصادرة سلعته، كما تناقلت روايات أن مسؤولا أمنيًا أعطى تعليماته لسائق الشاحنة بتشغيل آلة الضغط على النفايات والبائع داخلها، ما أدى لمقتله، وبعد انتشار الخبر اشتعلت مواقع التواصل الاجتماعي بالتنديد والغضب.
ودفع هذا الغضب الشعبي الحكومة للتنديد بالحادث، حيث تم فتح تحقيق في الواقعة من قبل الفرقة الوطنية القضائية، في حين أرسل ملك البلاد محمد السادس مندوبًا إلى عائلة الشاب القتيل لتهدئة أجواء التوتر، وعلى الجانب الآخر، حمّل حزب الأصالة والمعاصرة المعارض للحكومة المسؤولية عن هذه "الفاجعة المؤلمة ووقائع أخرى مماثلة من خلال طريقة تعاطيها وتعاملها التي تضرب في الصميم أبسط حقوق المواطن وهي الكرامة والعيش الكريم والحق في الحياة"، وطالب نبيل الأندلسي، عضو فريق حزب العدالة والتنمية بمجلس المستشارين (الغرفة الثانية بالبرلمان)، بفتح تحقيق في حيثيات وملابسات الوفاة "المأساوية" للشاب، جاء ذلك في سؤال موجه إلى كل من وزيري الداخلية المغربي محمد حصاد، والعدل والحريات مصطفى الرميد.
ومن جانبه، دعا رئيس الحكومة المكلف عبد الإله بنكيران أنصار حزبه إلى عدم الاستجابة لأي احتجاجات ضد الحادث. من جهتها، نفت المديرية العامة كل ما تم ترويجه بمواقع التواصل، مؤكدة في بيان لها أن "المزاعم التي تنسب لموظف شرطة إعطاء الأمر لسائق الشاحنة بتشغيل آلية الضغط على النفايات، المتصلة بالمقطورة، تبقى مجرد ادعاءات غير صحيحة على اعتبار أن ذراع التحكم في هذه الآلة الضاغطة توجد في الجهة اليمنى لآخر الشاحنة، ويستحيل على السائق التحكم فيها وهي المهمة التي يؤديها عادة مستخدمون آخرون غير السائق".
احتجاجات كبيرة
وفي هذا الشأن كانت مشاهد الفيديو غير الواضحة وصرخات بائع سمك في مقتبل العمر وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة سحقا في شاحنة لنقل القمامة أثناء محاولته منع الشرطة من تدمير أسماكه صدمة للمجتمع المغربي دفعت الآلاف للخروج إلى الشوارع احتجاجا على ذلك. وبعد مرور خمس سنوات على احتجاجات مطالبة بالديمقراطية هزت المغرب تمثل الاضطرابات التي شهدتها البلاد تذكرة بمشاعر الإحباط الكامنة التي استطاع النظام الملكي احتواءها في الماضي بإصلاحات دستورية محدودة وزيادة الإنفاق على الرعاية الاجتماعية وكذلك بقبضة أمنية قوية.
ومع تنامي الاحتجاجات الموجهة إلى المؤسسة الملكية التي يطلق عليها المغاربة المخزن تعهد المحتجون بتنظيم المزيد من المظاهرات احتجاجا على مقتل بائع السمك محسن فكري في مدينة الحسيمة الشمالية وهو الحادث الذي سجله شهود بالفيديو وتناقلت اللقطات وسائل التواصل الاجتماعي على نطاق واسع. ويقول هؤلاء إنه يرمز لسوء المعاملة التي يلقاها المغاربة وقد جدد الحادث روح حركة 20 فبراير شباط التي قادت المظاهرات المطالبة بالديمقراطية التي اجتاحت البلاد.
وتتابع الحكومات الغربية الاستقرار السياسي والاجتماعي في المغرب عن كثب لأنه الدولة الوحيدة في شمال أفريقيا التي فشلت فيها الجماعات الجهادية في كسب موطيء قدم وتعد شريكا مهما في التصدي للمتشددين الإسلاميين من حيث تبادل معلومات المخابرات. ويذكر الغضب الشعبي لموت الشاب فكري ببدايات الانتفاضة التونسية عام 2011 عندما أشعل شاب من الباعة الجائلين النار في نفسه بعد أن صادرت الشرطة فاكهته وخضراواته. وأطاحت تلك الانتفاضة بالرئيس التونسي زين العابدين بن علي وأطلقت شرارة انتفاضات "الربيع العربي" في المنطقة.
لكن ثمة خلافات جوهرية في حالة المغرب حيث أن المطالب بزيادة الحريات والإصلاح سواء الآن أو قبل خمس سنوات لم تكن موجهة للإطاحة بالملك. والنظام الملكي راسخ له جذور عميقة في المغرب في حين أن نظام الحكم في تونس كان قائما على بن علي- الذي تولى السلطة عام 1987- وعائلته. ورغم ندرة الاحتجاجات السياسية في المغرب فإن الاحتجاجات الأخيرة ستمثل اختبارا للمؤسسة الملكية التي تطرح نفسها كنموذج للاستقرار والتغيير التدريجي وكملاذ للاستثمارات الأجنبية في منطقة مزقها العنف والاضطرابات السياسية.
ويريد النظام الملكي الحيلولة دون تصاعد الاضطرابات إلى مستوى الاحتجاجات التي شهدتها البلاد عام 2011 واستمرت حوالي عام وأرغمت الملك محمد السادس على نقل بعض صلاحياته المطلقة إلى الحكومة المنتخبة. ويقول منظمو الاحتجاجات إن الغضب لموت فكري الذي كان صدمة حتى لمؤيدي الملكية أثار من جديد مشاعر استياء أشمل تجاه المؤسسة بسبب البطالة والفجوة الواسعة التي تفصل بين الأغنياء والفقراء والتي كانت عاملا رئيسيا وراء الاحتجاجات المطالبة بالديمقراطية.
وقال ناصر زفزافي أحد منظمي الاحتجاجات "الناس تعلمت من حركة 20 فبراير (شباط) ألا تسمح لنفسها بأن تتعرض للخداع ولذلك سنكافح بكل قوتنا من أجل الكرامة التي مات فكري من أجلها." وأضاف "لا نريد كباش فداء بل معاقبة المسؤولين الحقيقيين بما في ذلك كبار المسؤولين." وفي محاولة لتهدئة التوترات أوفد الملك محمد الذي يقوم بجولة في أفريقيا في الوقت الحالي وزير الداخلية لزيارة أسرة فكري وتقديم العزاء لها بإسم المؤسسة الملكية وذلك في لفتة نادرة. وقال الوزير إن فكري لا يستحق ما حدث له ووعد بأن يؤدي التحقيق إلى معاقبة المسؤولين.
وتواجه السلطات المغربية شأنها شأن الحكومات الأخرى في شمال أفريقيا الاحتجاجات بنشر أعداد كبيرة من رجال الشرطة. وقد شهدت تونس أعمال شغب مرتين هذا العام في المنطقة الجنوبية بسبب البطالة كما أن الاتحادات العمالية تحذر من خطط التقشف. غير أن قوات الأمن كان لها دور أقل ظهورا هذا الأسبوع إذ وقفت في الشوارع الجانبية بعيدا عن تجمعات المتظاهرين. ويقول محللون سياسيون إن النهج الاسترضائي الذي أخذته السلطات مقارنة بما حدث عام 2011 وما يحدث خلال اضطرابات أخرى أقل خطورة منذ ذلك الحين قد يرجع في جانب منه إلى التوقيت.
فقد نشبت الاحتجاجات في لحظة حساسة تستعد فيها المملكة لاستضافة مؤتمر الأمم المتحدة للتغير المناخي لعام 2016 كما يبدأ رئيس الوزراء تشكيل حكومة ائتلافية بعد الانتخابات الشهر الماضي. وقال محمد العربي بن عثمان أستاذ العلوم السياسية بجامعة الرباط "النظام المغربي يعرف كيف يشتري السلام لاسيما الآن والبلاد بصدد استضافة مؤتمر التغير المناخي." وأضاف "وهو يعرف كيف يتأقلم بل إنك سترى بعض أعضاء الديوان الملكي يتظاهرون مع الناس إذا اقتضت الضرورة ذلك لكنهم لن يظهروا أي ضعف قط."
وقال المدعي العام إن من وجهت لهم تهمة القتل الخطأ هم اثنان من مسؤولي وزارة الداخلية واثنان من مسؤولي المصايد المحليين ومدير الطب البيطري. واتهم نشطاء ضباط الشرطة في مسرح الحادث بإصدار أوامر لعمال شاحنة القمامة بإدارتها وسحق فكري لكن الشرطة نفت تلك الاتهامات. وقد أثار دور المسؤولين المحليين مشاعر غضب تجاه المؤسسة وألقت سلسلة من الرسائل على وسائل التواصل الاجتماعي اللوم على المخزن لتذكر بذلك الكثيرين بدعوات حركة 20 فبراير شباط للحد من سلطات الملك المطلقة. بحسب رويترز.
وعندما تفجرت الاحتجاجات عام 2011 دعا الملك إلى استفتاء أسفر عن تأييد إصلاحات دستورية أدت إلى نقل بعض صلاحياته إلى الحكومة وضمان زيادة الحريات بما فيها حرية التعبير. ومع ذلك فمازالت للملك السلطة المطلقة في المغرب. وشعر كثير من النشطاء في حركة 20 فبراير شباط بخيبة أمل إزاء تلك الإصلاحات لاعتقادهم أنها ليست كافية لتحقيق الديمقراطية وتعد أي إشارة إلى إحياء الحركة أمرا حساسا للنظام السياسي الملكي الذي يصفه منتقدون بأنه عتيق وينتمي للعصور الوسطى. وقال بن عثمان "ما حدث يظهر أن كل من اعتقدوا أن حركة 20 فبراير ماتت كانوا على خطأ. فالمغاربة لم يفقدوا القدرة على المقاومة."
امام القضاء
في السياق ذاته أعلنت النيابة العامة في الحسيمة شمالي المغرب أنها أحالت 11 شخصا على قاضي التحقيق في قضية مقتل بائع السمك. ورجحت كون الأفعال المرتكبة "تكتسي طابع القتل غير العمدي". ويوجد ضمن المحالين اثنان من رجال السلطة ومندوب الصيد البحري بالمنطقة وطبيب ورئيس مصلحة الطب البيطري بالمدينة. وبحسب بيان صادر عن الوكيل العام للملك في مدينة الحسيمة في شمال المغرب حيث قتل محسن، إن "النيابة العامة، من خلال دراستها لتفاصيل الأحداث وتصريحات الأطراف، رجحت كون الأفعال المرتكبة تكتسي طابع القتل غير العمدي"، مشيرا إلى أن القضاء "سينظر في القضية" و"يقرر ما يراه ملائما بشأنها".
وبين المحالين "اثنان من رجال السلطة ومندوب الصيد البحري ورئيس مصلحة بمندوبية الصيد البحري وطبيب رئيس مصلحة الطب البيطري". وحققت النيابة العامة قبل إحالة هؤلاء الأشخاص إلى قاضي التحقيق بتهمة التزوير والقتل غير العمد، مع عشرين شخصا، بحسب البيان، وأجرت "معاينات ومواجهات استغرقت كامل الوقت المخصص قانونا للحراسة النظرية (72 ساعة بعد التمديد)". وحسب معطيات التحقيق الواردة في البيان، اشترى فكري "من بعض الصيادين بميناء الحسيمة حوالى نصف طن من سمك أبو سيف (أسبادون)، المحظور صيده خلال الفترة الممتدة من فاتح تشرين الأول/أكتوبر إلى 30 تشرين الثاني/نوفمبر من كل سنة بمقتضى قرار لوزير الصيد البحري".
وكلف فكري، حسب المصدر نفسه، أحد الأشخاص ب"نقل هذه الأسماك على متن سيارة نقل لم تخضع للمراقبة عند مغادرة الميناء، الأمر الذي دفع عنصر الأمن المداوم هناك إلى تبليغ مصالح الأمن المعنية". وحجزت الأسماك العائدة لمحسن فكري. وبحسب وكيل الملك، "الطبيب البيطري أفاد بعدم صلاحية الأسماك للاستهلاك لعدم التوفر على وثائق تثبت مصدرها مما يقتضي إتلافها".
وقبل إتلاف الأسماك، طلب أحد المسؤولين عن شاحنة النفايات "الحصول على أمر بالإتلاف قبل نقل كمية السمك المحجوزة"، ما دفع لجنة مكونة من مندوب الصيد البحري ورئيس مصلحة الصيد البحري والطبيب البيطري وممثل السلطة المحلية إلى "تحرير محضر بإتلاف السمك"، ما اعتبرته النيابة العامة "جناية تزوير في أوراق رسمية". ومع بدء عملية الإتلاف، حسب المصدر نفسه، همّ فكري "مصحوبا ببعض الأشخاص إلى الجهة الخلفية لشاحنة نقل النفايات للحيلولة دون وضع الأسماك بها". و"في هذه الأثناء اشتغلت آلة الضغط (...) ما أدى إلى وفاته". بحسب فرانس برس.
وقال الوكيل العام إن البحث لم يثبت "صدور أي أمر بالإعتداء على الضحية من طرف أي جهة"، مرجحا أن تكون الأفعال المرتكبة "تكتسي طابع القتل غير العمدي". وأثارت وفاة محسن فكري، الشاب الثلاثيني، موجة غضب عارمة في مدينة الحسيمة حيث خرج الآلاف في جنازته الأحد، ونظمت تظاهرات في نحو 20 مدينة مغربية، منددين بما حصل ومطالبين بمعاقبة الجناة.
اضف تعليق