تمكن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان من تشديد سيطرته المطلقة على جميع مفاصل الدولة، مستفيدا من حالة الفوضى التي عاشتها تركيا خلال ساعات الانقلاب العسكري الفاشل، الذي عده البعض عمل مدبر مسرحية سيئة من اخراج أردوغان، من اجل ترهيب الشعب وضرب الخصوم والمعارضين، وتسخير أجهزة الدولة ومؤسساتها لخدمة مشروعه السياسي الامر الذي سيعزز مطلبه الاساسي بتحويل نظام الحكم في تركيا. خصوصا وان الرئيس قد سعى وبحسب بعض المصادر، الى اجراء عملية تطهير واسعة للجيش والشرطة والاستخبارات، والسلطة القضائية والتعليم والعديد من الوزارات، وأعلن حالة الطوارئ، وتعليق العمل باتفاقية حقوق الإنسان، بدعوى حماية الديمقراطية وتنظيف جهاز الدولة بالكامل من أعضاء حركة غولين.
وفيما يخص بعض التطورات قال رئيس الوزراء التركي بن علي يلدريم إن حزب العدالة والتنمية الحاكم سيعرض على البرلمان قريبا خططه لزيادة سلطات الرئاسة ليمهد الطريق بذلك أمام استفتاء قالت المعارضة القومية إنها لن تعترض عليه. ويريد الرئيس رجب طيب إردوغان منذ فترة طويلة تطبيق نظام رئاسة تنفيذية في تركيا على غرار النظام الأمريكي أو النظام الفرنسي قائلا إن البلاد بحاجة إلى قيادة قوية. ويخشى خصومه أن يؤدي هذا التغيير إلى مزيد من السلطوية.
وقال يلدريم "نحن في حزب العدالة والتنمية سنطرح على برلماننا العظيم اقتراحنا الذي يتضمن التعديل الدستوري والنظام الرئاسي." وعندما سئل متى سيحدث ذلك قال "بأسرع ما يمكن." وقالت الحكومة إنها ستستأنف الجهود الرامية إلى تغيير الدستور بعد أن أشار حزب الحركة القومية وهو أصغر أربعة أحزاب في البرلمان إلى أنه لن يعارض إجراء استفتاء على هذه القضية.
وساهم هذا الإعلان في هبوط الليرة التركية إلى مستوى قياسي مع شعور المستثمرين بقلق من تجدد الغموض السياسي في بلد أجرى أربعة انتخابات عامة خلال فترة العامين ونصف العام الماضية. ويتطلب أي تغيير في الدستور موافقة ما لا يقل عن 367 نائبا في البرلمان المؤلف من 550 عضوا لإجازته مباشرة و330 نائبا لطرحه في استفتاء. ويشغل حزب العدالة والتنمية 317 مقعدا. وقال يلدريم إن الحكومة ستسعى إلى إجراء استفتاء على الرئاسة التنفيذية مهما كان حجم التأييد الذي حصلت عليه في البرلمان. وأضاف "يجب على الجميع تنحية طموحاتهم الشخصية والمصالح الحزبية جانبا."
ويعارض أكبر حزبين معارضين وهما حزب الشعب الجمهوري العلماني وحزب الشعوب الديمقراطي المؤيد للأكراد تطبيق نظام رئاسة تنفيذية وأظهرت بعض استطلاعات الرأي معارضة ِغالبية الأتراك لهذا التغيير. لكن إردوغان استغل موجة من المشاعر الوطنية منذ فشل محاولة للإطاحة به في 15 يوليو تموز وقام بتعزيز سلطته وشعبيته. وأظهر استطلاع جرى بعد أسبوعين من محاولة الانقلاب حصوله على تأييد بنسبة الثلثين وهي أعلى نسبة حصل عليها على الإطلاق.
اعادة هيكلة القضاء
الى جانب ذلك وبعد يومين من مطالبته وزير العدل التركي بالاستقالة على فيسبوك تلقى المدعي مندريس أريجان خطابا لنقله بأمر واجب التنفيذ فورا من إقليم في الغرب إلى مكان هامشي نسبيا في الشرق. ولا يشك أريجان (49 عاما) الذي يعمل مدعيا منذ عقدين في أن ما وصفه "بنفيه" المفاجئ بعد سبعة أشهر فقط من توليه منصبه هو عقاب على انتقاده للحكومة. ويأتي نقل أريجان -الذي جاء في إطار عملية إعادة هيكلة واسعة النطاق تشمل آلاف القضاة وممثلي الادعاء- في الوقت الذي يحاول فيه حزب العدالة والتنمية الحاكم دفع مزيد من الإصلاحات داخل المستويات العليا بالمنظومة القضائية.
ويرى منتقدون أن هذه العملية محاولة من الرئيس طيب إردوغان للتخلص من القضاة مثيري المشاكل وإحكام قبضته على المحاكم في الوقت الذي يسعى فيه لإجراء تعديلات دستورية تدعم سلطاته ضمن نظام رئاسي تنفيذي. ويقول حزب العدالة والتنمية إن هذه الإصلاحات ستساهم في تيسير عمل النظام القضائي. وقال أريجان "نمر بفترة تسعى فيها السلطة التنفيذية لفرض سيطرتها تماما على القضاء... هذا ضد مبدأ الفصل بين السلطات." وقال مسؤول في وزارة العدل إن مزاعم أريجان بشأن نقله "ليست صحيحة ولا تعكس الحقيقة" لكنه لم يدل بتفاصيل.
وقال محمد شيمشك نائب رئيس الوزراء التركي إن الهدف من تلك الإصلاحات التخلص من العراقيل التي تعوق عمل المحاكم مشيرا إلى أنها كانت مطلبا لمجتمع الأعمال في البلاد. ووفقا لمسودة مشروع قانون يناقشها البرلمان سيتم عزل معظم القضاة البالغ عددهم 711 قاضيا في اثنين من أبرز محاكم البلاد هما مجلس الدولة المختص بالقضايا التي يرفعها المواطنون ضد الحكومة ومحكمة الاستئناف العليا. وليس من الواضح عدد من سيتم إعادة تعيينهم في الهيكل القضائي الجديد الذي سيضم عددا أقل من المحاكم والقضاة.
وسيقوم إردوغان بعد ذلك بتعيين ربع عدد القضاة في مجلس الدولة مما يسمح له بحشد حلفائه في أحد أهم الهيئات القضائية في البلاد. ووصف نقيب المحامين الأتراك متين فايز أوغلو التغييرات بأنها خطرة بينما قال مصدر بارز في الاتحاد الأوروبي إنها "تبدو انتقاما من الأحكام التي تحدت إردوغان." وتأتي هذه الإصلاحات لتكمل عملية إعادة هيكلة أخرى واسعة النطاق وغير مسبوقة من المجلس الأعلى للقضاة والمدعين الذي يشرف على التعيينات القضائية ويخضع لإدارة وزارة العدل.
وقام المجلس بنقل أكثر من 3700 قاض وممثل ادعاء في إعادة الهيكلة النصف سنوية الأخيرة بما يمثل ربع من هم على قوة العمل في خطوة أثارت اتهامات بالملاحقة والاضطهاد. وقال المجلس في بيان في العاشر من يونيو حزيران إن العملية تمت في وقتها المعتاد لكن زيادة عمليات النقل جاءت لسد النقص في بعض المناطق. وقال مراد ايدين (45 عاما) وهو أحد القضاة الذين تم نقلهم من إقليم إزمير على بحر ايجه إلى إقليم طرابزون على البحر الأسود "المجلس الأعلى للقضاة والمدعين يعتبر كل من لا يفكر بالاتساق مع قيمه الخاصة شخصا ’آخر’ ويبلغهم جميعا بالأساس بأنهم سيواجهون عواقب تأييدهم للجانب الخاطئ."
وجاء نقل إيدين بعد بضعة أشهر من تقديمه التماسا للمحكمة الدستورية ضد قانون تركي يعاقب على إهانة الرئيس وهو نص قانوني اعتمد عليه ممثلو الادعاء أكثر من 1800 مرة منذ تولي إردوغان السلطة في 2014 لمقاضاة صحفيين وأكاديميين وطلبة وحتى ملكة جمال تركيا السابقة. والعديد من القضايا في المحاكم التركية مسيسة بشدة بالفعل. وصدر حكم بالسجن خمس سنوات في مايو أيار على جان دوندار رئيس تحرير صحيفة جمهوريت المعارضة لكشفه أسرار دولة وجاء بعد أن قال إردوغان إنه لن يتسامح مع تغطية الصحيفة لشحنة أسلحة تركية لمقاتلي المعارضة السورية. وأدانت جماعات حقوقية الحكم.
واحتجزت السلطات أربعة أكاديميين أتراك لعدة أسابيع في وقت سابق من هذا العام بتهم نشر دعاية إرهابية بسبب قراءتهم لإعلان يدعو لإنهاء العمليات العسكرية في جنوب شرق البلاد ذي الأغلبية الكردية. وما يزالون يواجهون المحاكمة وقال إردوغان إنهم يجب أن يدفعوا ثمن مثل هذه "الخيانة". وقال أيضا إنه يريد أن يرى أعضاء حزب الشعوب الديمقراطي المعارض الموالي للأكراد -وهو ثالث أكبر حزب في البرلمان - يحاكمون بزعم أن لهم صلات بجماعات متشددة وجرد النواب من حصانتهم كخطوة أولى.
ويقول معارضو إردوغان إن المحاكم أصبحت أكثر ولاء لسياسة إردوغان منذ حملات تطهير واسعة النطاق في القضاء جاءت في أعقاب فضيحة فساد في 2013. وصور إردوغان الذي كان وقتها رئيسا للوزراء الفضيحة بوصفها مؤامرة حاكها رجل الدين المقيم في الولايات المتحدة فتح الله كولن -وهو حليف سابق لإردوغان تحول إلى عدو- والذي يشغل أتباعه مواقع رئيسية في النظام القضائي. وقال رشاد بيتيك وهو نائب عن حزب العدالة والتنمية وعضو في لجنة العدل في البرلمان إن الإصلاحات التي تخضع حاليا لنقاشات في المجلس تستهدف التخلص من أي بقايا لنفوذ كولن في المنظومة القضائية وهو الذي يتهمه إردوغان بمحاولة تشكيل "كيان مواز". بحسب رويترز.
وقال بيتيك "ستتم تصفية هذه المنظمة الموازية من المناصب العليا في القضاء" مشيرا إلى أن نحو 160 عضوا في محكمة الاستئناف تم اختيارهم عندما كان المجلس الأعلى للقضاة والمدعين يخضع لنفوذ أتباع كولن. ويخشى المعارضون من أن نظاما للوصاية سيتم ببساطة استبداله بآخر. وقال فايز أوغلو نقيب المحامين "لا نريد كيانا يتبع كولن في القضاء لكننا لا نريد أيضا كيانا يتبع إردوغان." ويقول مسؤولو حزب العدالة والتنمية إن الإصلاحات سوف تسرع من عمل النظام القضائي المثقل بما يصل إلى مليوني قضية بعضها ينتظر النظر فيه منذ سنوات. لكن علي ارطوسون الذي عمل في محكمة الاستئناف لمدة 16 عاما يرى أن هناك هدفا آخر. وقال أرطوسون "سيتخلصون من الأعضاء الذين لا يروقون لهم وسيتحكمون في القضاء بالكامل ... هذا غير دستوري وتدخل يقوض استقلال القضاء."
تحقيقات مستمرة
من جانب اخر أقالت السلطات التركية أكثر من 10 آلاف موظف للاشتباه في صلتهم برجل الدين المقيم في الولايات المتحدة فتح الله كولن الذي تتهمه أنقرة بتدبير محاولة الانقلاب الفاشلة في يوليو/ تموز. وهناك الآلاف من الأكاديميين والمعلمين والعاملين في مجال الصحة بين من أقيلوا بموجب مرسوم جديد في إطار حالة الطوارئ نشرته الجريدة الرسمية في حين أُغلق أيضا 15 منفذا إعلاميا كلها تقريبا تبث من جنوب شرق البلاد الذي تقطنه أغلبية كردية.
ونص المرسوم أيضا على إلغاء الانتخابات المقررة لاختيار رؤساء الجامعات وسيعين الرئيس رجب طيب إردوغان بشكل مباشر رؤساء الجامعات من المرشحين الذين تختارهم هيئة التعليم العالي. وألقت تركيا رسميا القبض على أكثر من 37 ألف شخص وأقالت أو أوقفت عن العمل 100 ألف من الموظفين والقضاة وممثلي الادعاء وأفراد الشرطة وغيرهم في حملة لم يسبق لها مثيل تقول الحكومة إنها ضرورية لاستئصال أنصار كولن من أجهزة الدولة والمناصب المهمة.
وفُرضت حالة الطوارئ فور محاولة الانقلاب الفاشلة التي سقط فيها أكثر من 240 قتيلا في يوليو تموز وجرى تمديدها لمدة ثلاثة أشهر أخرى حتى يناير كانون الثاني بعد أن قال إردوغان إن السلطات بحاجة لمزيد من الوقت للقضاء على التهديد الذي تمثله شبكة كولن والمتشددون الأكراد الذين بدأوا تمردا قبل 32 عاما. ويزيد إجمالي عدد المنابر الإعلامية التي أغلقت منذ بدء حالة الطوارئ عن 160. وأثار حجم الحملة التي تشنها تركيا قلق المنظمات المعنية بحقوق الإنسان وبعض الحلفاء الغربيين الذين يخشون أن يستغلها إردوغان لكبح المعارضة.
وتقول الحكومة إن هذه التصرفات مبررة بسبب التهديد الذي واجهته الدولة في محاولة الانقلاب التي راح ضحيتها أكثر من 240 شخصا يوم 15 يوليو/ تموز. وتريد أنقرة أن تعتقل الولايات المتحدة كولن وترحله حتى يمكن محاكمته في تركيا بتهمة التخطيط لمحاولة الانقلاب. وينفي كولن الذي يعيش في بنسلفانيا منذ عام 1999 ضلوعه في الانقلاب.
اضف تعليق