العلاقات الفرنسية الروسية تشهد توترا كبيرا بسبب اختلاف موافقهما تجاه بعض القضايا والمشكلات المهمة ومنها، الأزمة السورية المتواصلة منذ أكثر من خمس سنوات والتي كانت سببا في تفاقم حدة الخلافات بين البلدين، حيث تعد روسيا وكما تنقل بعض المصادر، داعماً أساسياً للرئيس السوري بشار الأسد، فيما كانت فرنسا منذ بداية الأزمة السورية في مارس 2011، سباقة ومبادرة في دعم ما يسمى بالمعارضة السورية، وبذلت الدبلوماسية الفرنسية جهوداً جبارة من أجل التوصل إلى قرار دولي للتحرك ضد نظام الأسد.
وكان وزير الخارجية الفرنسي السابق "آلان جوبيه" هو أول وزير أوروبي يعلن رأيه في الحكومة السورية على خلفية تعاملها مع المعارضين، مؤكداً في مايو 2011 أنها "فقدت شرعيتها"، بل وذهب بعد ذلك إلى اعتراف بلاده بالمجلس الوطني السوري كممثل رسمي للمعارضة. وفي ديسمبر 2012، استضافت فرنسا مؤتمراً دولياً لجمع الأموال لصالح المعارضة السورية، كما كانت باريس ناشطة جداً في حث الفصائل المختلفة للمعارضة السورية على التوحد وخلق حكومة بديلة لنظام الرئيس الأسد، علاوة على أن فرنسا كانت أول دولة غربية تعترف بالحكومة المؤقتة التي تم تشكيلها في عام 2013.
كما عرقلت فرنسا، بالتعاون مع حلفائها في مجلس الأمن، العديد من الاقتراحات الروسية بشأن الصراع السوري، والتي كان أبرزها ذلك الاقتراح الذي تمت مناقشته في مجلس الأمن خلال فبراير 2016، وطلبت روسيا حينها عقد مشاورات لمطالبة تركيا بوقف قصفها للقوات الكردية في شمال سوريا، وكي تتخلى عن مشروع عملية عسكرية برية في سوريا، لكن فرنسا و4 دول أخرى أعضاء على الأقل، رفضت نص مشروع القرار الروسي.
وبلغ التوتر الدبلوماسي بين باريس وموسكو بسبب الحرب في سوريا ذروته مع الغاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين زيارة مقررة منذ زمن للعاصمة الفرنسية، جراء الشروط التي تفرضها فرنسا. وابلغت باريس موسكو أن هولاند جاهز لاستقبال نظيره الروسي من أجل "اجتماع عمل" حول سوريا وليس لمشاركته في تدشين كاتدرائية ارثوذكسية في باريس، في وقت تغير فيه الطائرات الروسية على حلب دعما لهجوم الجيش السوري.
وقال المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف في موسكو "قرر فلاديمير بوتين الغاء" زيارته المقررة اصلا لتدشين كاتدرائية كبيرة ارثوذكسية، لكنه "لا يزال مستعدا لزيارة باريس عندما سيشعر هولاند بانه جاهز" للقائه. وتجسد هذا الخلاف عندما استخدمت روسيا الفيتو في مجلس الامن على مشروع قرار فرنسي يدعو الى وقف عمليات القصف على حلب وقدمت مشروع قرار مختلفا. وكان النص الفرنسي يدعو الى وقف غارات النظام السوري وحليفته روسيا على ثاني مدن سوريا. في حين طالب الاقتراح الروسي المضاد بوقف المعارك لكن دون الاشارة الى عمليات القصف التي اوقعت مئات القتلى منذ بدء الهجوم على حلب في 22 ايلول/سبتمبر.
بوتين يتهم فرنسا
من جانب اخر اتهم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين فرنسا بأنها تعمدت استدراج موسكو لاستخدام حق النقض (الفيتو) ضد مشروع قرار في الأمم المتحدة بشأن سوريا وأشار إلى أن باريس تنفذ ما تمليه الولايات المتحدة. واستخدمت روسيا حق النقض ضد قرار دعمته فرنسا يدين العنف في مدينة حلب السورية قائلة إن مشروع القرار لم يأخذ في الاعتبار مقترحات روسية. وقالت حكومات غربية إن الفيتو أظهر أن موسكو لا تهتم بوقف العنف.
ولدى سؤاله عن فرنسا في جلسة نقاش خلال منتدى أعمال في موسكو قال بوتين "ليس على شركائنا الشعور بالاستياء من الفيتو بل نحن (روسيا) الذين يجب أن نشعر بالاستياء." وقال بوتين إن وزير الخارجية الفرنسي جان مارك إيرو أثار فكرة القرار عندما زار حيث تم إبلاغه بأن مشروع القرار يلقي الكثير من اللوم على الحكومة السورية فيما يتعلق بالعنف في حلب وأن موسكو لن تستخدم الفيتو إذا أجريت بعض التعديلات. وأضاف بوتين قائلا "توقعنا عملا مشتركا وبناء مع فرنسا وغيرها من الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن. لكن ماذا حدث؟"
وتابع أن ما حدث هو أن "وزير الخارجية الفرنسي سافر من موسكو إلى واشنطن حيث التقى في اليوم التالي مع (نظيره الأمريكي جون) كيري ليتهم روسيا بارتكاب كل الخطايا المميتة. ولم يتحدث أحد إلينا أو يناقش معنا أي شيء ثم تقدموا بالقرار إلى مجلس الأمن ومن البديهي إنهم كانوا يتوقعون أننا سنستخدم الفيتو." وقال بوتين "لأي غرض؟ هم يعرفون موقفنا ولم يناقشوه معنا... لأي غرض؟ لتصعيد الوضع وإشعال هستيريا ضد روسيا في وسائل الإعلام التي يسيطرون عليها ولخداع مواطنيهم." "لا أعلم ما إذا كان ذلك يتوافق مع مصالح الدول الأوروبية... لكنه يخدم فقط مصالح السياسة الخارجية أو ربما المصالح السياسية الداخلية لحلفائهم وهم في هذه الحالة الولايات المتحدة." وقال بوتين "لا أعلم. هل ذلك هو دور مثل هذه الدول المهمة الطامحة إلى إدارة سياسات مستقلة وأن يطلق عليها قوى كبرى. لا أدري."
وفي تصريحات للصحفيين في روما رفض وزير الخارجية الفرنسي إيرو اتهامات بوتين قائلا إنه تفاوض بنية صادقة مع موسكو وقبل بعض المقترحات الروسية لكنه فشل في إقناعهم بالحاجة الى التوقف عن قصف حلب. وقال "لم نستطع قبول قرار لا يتضمن مثل هذه المسألة الجوهرية" مضيفا أنه سيكون هناك تحقيق في اتهامات بجرائم حرب في المدينة السورية. ومضى قائلا "المذبحة في حلب مستمرة. أطالب بنهاية لهذه المذبحة وإنقاذ سكان حلب. لم يفت الأوان أبدا لتحقيق السلام." بحسب رويترز.
واتهمت حكومات غربية روسيا بالمسؤولية عن هجوم تعرضت له قافلة مساعدات في محيط حلب في 19 سبتمبر أيلول. وفي كلمته قال بوتين إن "إرهابيين" ضربوا القافلة لكنه لم يذكر تفاصيل عن هويتهم. وقال إن الولايات المتحدة تعرف من هو المسؤول عن الهجوم لكنها فضلت بدلا من ذلك أن تطلق ما وصفها اتهامات لا أساس لها بشأن تورط روسي.
عقوبات أوروبية
على صعيد متصل قال دبلوماسيون إن بريطانيا وفرنسا تتزعمان جهودا بالاتحاد الأوروبي لفرض المزيد من العقوبات على سوريين مقربين من الرئيس بشار الأسد ردا على القصف المدمر لمدينة حلب مشيرين إلى احتمال إضافة مواطنين روس إلى القائمة في نهاية المطاف. وتقول مصادر بالحكومة الألمانية إن برلين منفتحة على توسيع قائمة الاتحاد الأوروبي الحالية التي تضم السوريين الممنوعين من السفر إلى أوروبا أو الوصول إلى أموال في بنوك الدول الأعضاء. وقال ثلاثة دبلوماسيين إن معظم حكومات الاتحاد الأوروبي الثماني والعشرين تتحرك باتجاه تأييد المزيد من العقوبات.
وباتت المباحثات بشأن العقوبات أكثر إلحاحا بعد فشل جهود دبلوماسية في مجلس الأمن التابع للامم المتحدة لوقف الضربات الجوية على المناطق الشرقية من حلب آخر معقل رئيسي في المدن لقوات المعارضة المدعومة من الغرب. وأعربت حكومات الاتحاد الأوروبي عن غضبها من ضربات جوية استهدفت مستشفيات في حلب ووصفتها واشنطن ولندن وباريس بأنها ترقى إلى جرائم حرب وتتحمل مسؤوليتها سوريا وروسيا. وقال دبلوماسيون إن العقوبات تهدف إلى الضغط على الأسد باستهداف المزيد من المستفيدين من حكومته بوسائل منها تمجيد أصول زوجات شخصيات بارزة وربما المساعدة في الدفع باتجاه انتقال سياسي في مرحلة لاحقة.
وكان الاتحاد الأوروبي فرض عقوبات على مسؤولين سوريين في 2011 ووسعها لتشمل حظرا على النفط وتجميد أصول البنك المركزي السوري الموجودة في الاتحاد الأوروبي وحظر على السفر وتجميد أصول نحو 200 شخص و70 شركة. وقال دبلوماسيون فرنسيون وبريطانيون إنهم ينظرون أيضا في إضافة ما يصل إلى 12 روسي إلى قائمة العقوبات الأوروبية لاستهداف اولئك الذين يبيعون أسلحة إلى حكومة الأسد أو من يعتقد أنهم يوجهون الضربات الجوية ضد المدنيين. بحسب رويترز.
ومع ذلك فإن الاتحاد الأوروبي سيحتاج لتأييد كل الحكومات الأعضاء لاتخاذ مثل هذه الإجراءات ومن غير المرجح أن تؤيدها المجر واليونان وقبرص التي تربطها علاقات وثيقة مع موسكو. وروسيا التي تخضع حاليا لعقوبات عن دورها في دعم الانفصاليين في أوكرانيا هي أكبر مورد للطاقة للاتحاد الأوروبي. وتخشى حكومات أخرى أيضا من تقويض جهود السلام الهشة بين واشنطن وموسكو.
جدل قبل الانتخابات
على صعيد متصل يواجه الرئيس الفرنسي فرانسوا أولوند انتقادات شديدة من ساسة يمينيين ويساريين على حد سواء لتعامله مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين فيما يخص الأزمة السورية وانتقد البعض تعجل "حرب باردة" ضد شريك أوروبي مهم. وتصاعد غضب المسؤولين الفرنسيين من هجمات القوات الحكومية السورية المدعومة من روسيا على مناطق خاضعة لسيطرة المعارضة بمدينة حلب.
وتأزم الموقف حين قرر أولوند ألا يقيم استقبالا رسميا لبوتين خلال زيارة مقررة لباريس بل وطلب أن تقتصر الزيارة على محادثات بشأن سوريا التي قال إن موسكو ترتكب فيها جرائم حرب. ورفض بوتين هذه الشروط وألغى الزيارة مما دفع خصوم أولوند الذين يتطلعون لانتخابات الرئاسة التي تجري العام القادم للخروج عن التوافق الحزبي الفرنسي المألوف فيما يتعلق بالسياسة الخارجية.
وقال الرئيس السابق نيكولا ساركوزي الذي يأمل الفوز بترشيح حزب الجمهوريين لانتخابات الرئاسة التي تجري في أبريل نيسان "من واجب فرنسا وأوروبا أن تتحاور روسيا وفرنسا وأوروبا. أختلف مع بوتين في أمور ولكن كيف تجد حلا إذا لم تتحاور؟" ومضى قائلا "كيف تحل أزمة من خلال التصريحات وتجاهل بعضكم البعض أو خوض حرب باردة جديدة؟ هذا تصرف غير مسؤول."
بدت تصريحات ساركوزي طريقة انتهازية لمهاجمة إنجازات أولوند الإيجابية نسبيا على صعيد السياسة الخارجية في الأعوام الأربعة الماضية وهي إحدى المجالات القليلة التي لم يواجه انتقادات بسببها في الداخل. وقارن ساركوزي تصرفات الرئيس الحالي بسجله الشخصي حين تفاوض مع بوتين بشأن حل سلمي للأزمة في جورجيا. ويتناقض موقف اليمين الفرنسي من عناد الاشتراكي أولوند بشدة مع موقف بريطانيا حيث دعت الحكومة اليمينية إلى نهج أكثر صرامة مع موسكو في ضوء القصف اليومي لحلب.
وقد تكون هذه مجرد دعاية انتخابية. لكن في داخل مؤسسة السياسة الخارجية الفرنسية يتهم بعض الدبلوماسيين والساسة أولوند بتطبيق أجندة تنتمي لتيار المحافظين الجدد وهو ما يضعف أوروبا بكاملها. وهم يتهمون القيادة الفرنسية بتنفيذ ما تمليه عليها الولايات المتحدة في حقبة انسحبت فيها واشنطن من المغامرات خارجها. ويحنون لأيام الرئيس شارل دي جول الذي قرر سحب فرنسا من القيادة العسكرية لحلف شمال الأطلسي عام 1966 تأكيدا لسيادة واستقلالية باريس. ووجد نهجهم قبولا بين ناخبين يزدادون ميلا للانعزالية والشعبوية بعد أن صدمتهم هجمات نفذها إسلاميون متشددون على الأراضي الفرنسية بالإضافة إلى أزمة اللاجئين.
وفي حين أن السياسة الخارجية لا يكون لها عادة تأثير كبير على الجدل المحيط بالانتخابات فإن الأزمة السورية وأثرها على العلاقات بين فرنسا وروسيا حالة خاصة. وقال جان لوك ميلونشون المرشح للرئاسة المنتمي لأقصى اليسار "أسلوب فرانسوا أولوند لا يحتمل. نحن منحازون تماما للولايات المتحدة. نحن نسبق الأحداث وهذا الأسلوب ليس في مصلحة فرنسا." ووصف اتهامات أولوند لروسيا بارتكاب جرائم حرب في سوريا بأنها تندرج تحت "القيل والقال". بحسب رويترز.
كما يتمتع بوتين بجاذبية بين الفرنسيين الذين يعتقدون أنه يجسد ثقلا يقف في وجه واشنطن وأيضا في ظل المناخ الحالي يمثل قبضة حديدية في المعركة ضد الإسلاميين المتشددين. وأظهر استطلاع أجراه معهد ايفوب بعد أن بدأت روسيا تنفيذ الضربات الجوية في سوريا في سبتمبر أيلول الماضي أن 25 في المئة من الفرنسيين ينظرون لبوتين نظرة إيجابية. وارتفع هذا الرقم إلى 37 في المئة بين مؤيدي حزب الجبهة الوطنية المنتمي لأقصى اليمين والمتوقع أن تصل زعيمته مارين لوبان إلى المرحلة النهائية من انتخابات الرئاسة. وكانت قد عبرت عن إعجابها ببوتين وقالت إنها تعتقد أن على فرنسا أن تسعى للتحالف معه ومع الحكومة السورية لمحاربة الإسلاميين المتشددين. وقال مدير حملتها الانتخابية دافيد راشلين "دور فرنسا هو الدبلوماسية وهذا يعني الحديث إلى كل القوى والدول وأن يكون صوتنا مسموعا." وأضاف "دعونا لا ننسى أن السيد بوتين هو الذي يحارب الدولة الإسلامية على الأرض وبالتالي يجب أن تكون لدينا اتصالات بهؤلاء الناس".
اضف تعليق