بعد الانقلاب العسكري الفاشل في تركيا اصبح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وكما يرى بعض المراقبين، اكثر قوة خصوصا وانه سعى الى استغلال هذا الحدث المهم لإعادة تصميم المؤسسات التركية (الأمنية والمدنية والقضائية والأكاديمية وغيرها) لمصالحه الخاصة وتوسيع سلطاته الدستورية من خلال إضعاف النفوذ السياسي للمؤسسة العسكرية، التي اصبحت اليوم تحت تصرف وقيادة أردوغان الذي قاد حملة تطهير واسعة شملت اعتقال وفصل الآلاف من العسكريين ورجال الامن والقضاء والإعلاميين والأساتذة والمعلمين وموظفي الدولة وهو ما اثار موجة من الانتقادت الدولية، التي لم تمنع اردوغان من مواصلة حملة التطهير الواسعة من اجل ضرب واقصاء باقي المعارضين، حيث افادت صحيفة "حرييت" التركية ان انقرة تنوي شق جهاز الاستخبارات القوي لديها الى كيانين، احدهما للتجسس الخارجي والاخر للمراقبة الداخلية وذلك بعد محاولة الانقلاب الفاشلة. وواجه جهاز الاستخبارات النافذ جدا انتقادات شديدة بعد محاولة الانقلاب التي نفذتها مجموعة من العسكريين ضد الرئيس رجب طيب اردوغان وحكومته. واستنكر الرئيس خصوصا تأخر هذا الجهاز في ابلاغه مؤكدا انه علم بمحاولة الانقلاب من صهره.
واعلن نائب رئيس الوزراء التركي نعمان كرتلموش ان اعادة هيكلة جهاز الاستخبارات مدرجة على جدول الاعمال بعدما قامت السلطة الاسلامية المحافظة بتعديلات كبرى في صفوف الجيش. وذكرت الصحيفة ان الحكومة ترغب في انشاء وكالتي استخبارات، احداهما تكلف بالاستخبارات الخارجية والاخرى بالمراقبة الداخلية. وبذلك تكون تركيا تعتمد نموذج فرنسا او بريطانيا في هذا المجال.
وبحسب الصحيفة فان الاستخبارات الداخلية ستتبع الى حد بعيد الشرطة والدرك، المؤسستان التابعتان حاليا لوزارة الداخلية وليس الجيش بموجب الاصلاحات التي اعتمدت بعد محاولة الانقلاب. اما الجهاز المكلف الاستخبارات الخارجية فسيكون تابعا بشكل مباشر للرئاسة التي ستشكل وحدة تنسق انشطة الوكالتين. وتحاول السلطة التركية منذ محاولة الانقلاب الحد من صلاحيات الجيش عبر اعطاء المزيد من الصلاحيات للسلطات المدنية. وقال نائب رئيس الوزراء الاثنين "فلننشئ نظاما لا يتمكن فيه احد من القيام بمحاولة انقلاب بعد الان. فلننشئ نظام استخبارات من اعلى مستوى".
اعتقالات جديدة
من جانب اخر قالت وكالة الأناضول للأنباء إن ممثلا للادعاء في تركيا أمر باعتقال 125 شرطيا في إطار التحقيق بشأن حركة دينية تلقي الحكومة باللوم عليها في محاولة الانقلاب الفاشلة. وهذه ثاني موجة اعتقالات تستهدف من يُشتبه بتورطهم في محاولة الانقلاب داخل قوة الشرطة منذ السابع من أكتوبر تشرين الأول. ويتهم الرئيس التركي رجب طيب إردوغان حليفه السابق رجل الدين فتح الله كولن بالتخطيط لمحاولة الانقلاب الفاشلة في 15 يوليو تموز والتي أسفرت عن سقوط 240 قتيلا من بينهم مدنيون كانوا يحتجون على محاولة الإنقلاب. وينفي كولن الذي يقيم في بنسلفانيا بالولايات المتحدة ضلوعه في الانقلاب.
وقال رئيس الوزراء بن علي يلدريم في البرلمان إن حزب العدالة والتنمية الحاكم الذي أسسه إردوغان لن يؤوي أعضاء في شبكة كولن التي تعتبرها أنقرة منظمة إرهابية. وأضاف "حزب العدالة والتنمية لن يؤوي أي خائن أو إرهابي. "نخوض نفس النضال (ضد شبكة كولن) داخل حزب العدالة والتنمية مثلما هو الحال في تركيا بشكل عام."
ولم تُوجه لأي عضو كبير في حزب العدالة والتنمية اتهامات في الحملة التي أعقبت محاولة الانقلاب والتي تضمنت اعتقال 32 ألف شخص وفصل نحو 100 ألف شخص من ضباط الجيش والشرطة والمدرسين والقضاة والادعاء وآخرين من الوظائف الحكومية. واعترف يلدريم بأن عددا صغيرا من الأخطاء قد يقع خلال الحملة ولكنه قال إن الحكومة لن تسمح "بمعاملة (المواطنين) بشكل غير عادل."
وقالت الأناضول إن السلطات قامت بمداهمات في اسطنبول وإن 30 نائبا لقادة الشرطة كانوا من بين الضباط الذين سعت لاعتقالهم. ولم يتسن الحصول على تعليق فوري من مكتب الادعاء على أوامر الاعتقال. ونقلت وكالة دوجان للأنباء عن ممثل الادعاء في اسطنبول قوله إن الضباط مشتبه بهم لأنهم استخدموا تطبيق (بايلوك) غير المعروف لإرسال رسائل عبر الهواتف الذكية. بحسب رويترز.
وقال مسؤولون في أغسطس آب إن المخابرات تمكنت من معرفة 56 ألفا على الأقل من المشاركين بعد أن فكت تشفير الخصائص الأمنية للتطبيق الذي بدأت المجموعة في استخدامه في 2014. وقالت السلطات إن كولن (75 عاما) قاد حركة دينية منذ عقود وسعى أعضاؤها للحصول على وظائف في الأجهزة الأمنية والحكومية لتوسيع نفوذه. وفر كولن من تركيا عام 1999 لتفادي محاكمته بسبب تصريحات مزعومة مناهضة للعلمانية. ودعمت شبكة كولن المحافظة إردوغان الذي له جذور في حركة سياسية إسلامية خلال النصف الأول من حكمه ولكن الرجلين تخاصما بسبب خلافات في السياسة الخارجية والداخلية وبسبب تسريبات بشأن تحقيق فساد استهدف مقربين من إردوغان.
على صعيد متصل أفادت وكالة الأناضول المؤيدة للحكومة أن محكمة تركية أصدرت مذكرات توقيف بحق 189 قاضيا ومدعيا في إطار التحقيقات بشأن محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا. ويتهم هؤلاء القضاة والمدعون باستخدام تطبيق المراسلة المشفر "بايلوك" الذي استخدمه منفذو محاولة الانقلاب بحسب السلطات التركية. وتابعت الوكالة أن بعض هؤلاء كانوا يعملون في وزارة العدل وفي محكمة النقض أو في مجلس الدولة. ونحو ثلاثين منهم كانوا يترأسون محاكمات في إسطنبول والباقين في مختلف أنحاء البلاد. وتابعت أن "العمليات جارية" لتوقيف القضاة الثلاثين في إسطنبول، دون توضيح ما إذا تم توقيف القضاة والمدعين الآخرين بعد.
دولة إردوغان
إن أنت نظرت إلى أفق اسطنبول.. يستحيل ألا تقع عينك على صف الأعلام التركية الحمراء التي يطل منها هلال ونجمة باللون الأبيض وهي ترفرف فوق مبان ونصب تذكارية وجسور وسواري رايات. ومشاعر الوطنية متأججة دائما في تركيا. لكن في أعقاب محاولة الانقلاب العسكري في يوليو تموز الماضي فتح الرئيس رجب طيب إردوغان الباب على مصراعيه أمام المشاعر الجماهيرية الوطنية لإعادة تشكيل البلاد حسب تصوره.
والسؤال هو: ما هو شكل تركيا الذي يبغيه إردوغان وما الخطوات التي يتخذها لتحقيق رؤيته؟ ربما كانت للإجابة مضامين أبعد بكثير فيما يتعلق بدور تركيا على الساحة العالمية كعضو في حلف شمال الأطلسي يعتبره الغرب بالغ الأهمية في الحرب على تنظيم داعش والتصدي لأزمة المهاجرين. وفي مرحلة ما أفصح إردوغان تماما عن أهدافه كما يقول دبلوماسيون ومحللون. فخلال الأشهر الثلاثة التي تلت محاولة الانقلاب أوقفت السلطات عن العمل أو فصلت 100 ألف من الموظفين والقضاة وأساتذة الجامعات وقوات الجيش والشرطة في حملة تطهير شملت بعضا من أشد أعمدة المجتمع رسوخا.
وكل من يشتبه أن له علاقة برجل الدين فتح الله كولن المقيم بالولايات المتحدة والذي يتهمه إردوغان بتدبير المحاولة هدف محتمل. ونفى كولن أي دور له في التآمر على الدولة وفي محاولة الانقلاب. واعتقلت السلطات أكثر من 30 ألف شخص وأقصت خمسة في المئة من قوة الشرطة عن العمل وأغلقت إدارات وزارية كاملة. ويتخوف بعض الحلفاء الغربيين من شمولية زاحفة وتحول باتجاه نموذج سياسي يدور في فلك زعيم قوي وحزب مهيمن واحد يفتقر للضوابط والموازين في تركيا التي يعطيها حجمها وقوتها العسكرية وموقعها بين أوروبا والشرق الأوسط وآسيا أهمية استراتيجية كبيرة.
وقال جيمس جيفري السفير الأمريكي السابق في أنقرة والزميل في معهد واشنطن إن إردوغان "يريد شكلا لتركيا يكون فيه هو صاحب القرار بدون قيود النظام الديمقراطي المعتاد." وأضاف "هو لن يقلب الدستور ليتخلص من الديمقراطية لكنه يريد أن يجعل المعارضة عاجزة عن تحديه وأن يمارس سلطة واضحة عليها." لكن على العكس.. يرى مؤيدوه المخلصون أنه زعيم للأتقياء يريد تشكيل أمة أبية مستقلة لا تخضع لإملاءات القوى الخارجية.
وينتفض الرئيس ومساعدوه لفكرة أنه ديكتاتور ويشيرون إلى انتصاراته الانتخابية.. في البداية كزعيم لحزب العدالة والتنمية الحاكم ثم كأول رئيس يفوز في 2014 في انتخابات رئاسية عامة.
لكن مطامح إردوغان ستتجاوز على الأرجح مجرد استعادة السيطرة والإمساك بزمام السلطة بإحكام. ويقول محللون سياسيون ودبلوماسيون إن الرئيس التركي البالغ من العمر 62 عاما ربما لا تتملكه رغبة في إحياء الإمبراطورية العثمانية لكنه يريد إحياء شعور بالعظمة يمهد لقيام تركيا تتجاوز خطاها خطى العالم وتحظى بالاحترام وربما بقدر من الرهبة بين جيرانها ونظرائها.
وفي خطبه وتعليقاته قبل محاولة الانقلاب وبعدها أشار إردوغان مرارا للإمبراطورية العثمانية التي كانت تمتد من جنوب شرق تركيا حتى القوقاز وشمال أفريقيا والعراق. وكثيرا ما يأسى للتنازلات التي قدمها الزعماء الأتراك بعد الحرب العالمية الأولى بتوقيع معاهدة لوزان التي تمخضت عنها تركيا الحديثة عام 1923 وكأنه يلمح إلى أن بمقدوره استعادة ماضي أمته الحافل.
وقال بولنت علي رضا مدير المشروع التركي بمركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في واشنطن "ما نشهده في تركيا مرتبط برغبة تكاد تكون راسخة في استعادة تراث الإمبراطورية العثمانية التي كانت بالطبع كيانا متعدد الأعراق واللغات." وأضاف "في كل كلمة من كلمات إردوغان تقريبا تتردد هذه العبارات: فلتفخر بأنك تركي.. فلتفخر بأنك مسلم.. نتمتع بنفوذ في منطقتنا وما وراءها. وتعبير ‘تركيا العظمى‘ يستخدم طول الوقت تقريبا."
وفي أغسطس آب وفي أجواء مفعمة بالرمزية والصخب افتتح إردوغان جسرا جديدا فوق البوسفور يربط أوروبا بآسيا. وأطلق على الجسر -وهو الثالث العابر للمضيق- اسم جسر السلطان سليم الأول الذي حكم الإمبراطورية العثمانية في القرن السادس عشر. وانطلقت على شاشات التلفزيون دعايات تحمل عبارة "يا تركيا تباهي بقوتك". وأمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر أيلول وفي أبرز كلمة يلقيها إردوغان منذ محاولة الانقلاب استعرض اثنين من موضوعاته المفضلة: كيف تساعد تركيا المقهورين وتقدم نموذجا يحتذى في العالم الإسلامي وكيف أن السلطة في الأمم المتحدة تكمن في أيدي قوى محدودة. وقال "العالم أكبر من خمسة" مشيرا إلى الأعضاء الخمسة الدائمين بمجلس الأمن الدولي. وأضاف "مجلس الأمن الذي لا يمثل العالم أجمع لا يمكن أن يعيد أبدا إرساء السلام والعدل في العالم."
ومنذ صعد إردوغان إلى السلطة عام 2003 كرئيس للوزراء ثم كرئيس قاد تركيا في فترة شهدت نموا اقتصاديا سريعا وزيادة في النفوذ الإقليمي. وقد لا تكون لإردوغان مطامح تتعلق بالأراضي لكن تركيا لها قوات في شمال سوريا وتدرب ميليشيات بالعراق -مما يزيد قلق حكومة بغداد- وتأمل أن تتحول إلى مركز طاقة إقليمي في تقاطع الطرق بين روسيا وإيران والشرق الأوسط. وقال جيفري "إنه يسعى لممارسة نفوذ في المنطقة بتأثير اقتصاد تركيا الكبير القوي وبدعوى أنها قوة إسلامية." وأضاف "هناك قدر من العودة للفترة العثمانية والعودة للهيمنة التركية على المنطقة. هو يريد بديلا إسلامي الطابع للغرب."
ويبدو أن هذا الاتجاه يلقى قبولا لدى الجماهير. فقد أظهر استطلاع للرأي أجري في أواخر يوليو تموز بعد أسبوعين من محاولة الانقلاب أن إردوغان يحظى بتأييد ثلثي الأتراك البالغ عددهم 78 مليون نسمة وهي أعلى نسبة تأييد ينالها على الإطلاق. إلا أن إردوغان في سعيه الدؤوب لأن تصبح تركيا أكثر ثقة بالنفس وربما أكثر مهابة سار أحيانا على خيط رفيع فتوترت العلاقات مع دول الاتحاد الأوروبي والغرب بشكل عام القلقة مما تعتبره شمولية زاحفة.
والاقتصاد التركي الذي يبلغ حجمه 720 مليار دولار يقوم في جانب كبير منه على التجارة والاستثمار مع أوروبا. وأسبوع العمل في تركيا يمتد من الاثنين إلى الجمعة ليتزامن مع أسبوع العمل في لندن ونيويورك وليس مع أسبوع العمل في بقية العالم الإسلامي. ومن الناحية النظرية لا تزال تركيا تخطط للانضمام للاتحاد الأوروبي وهي لاعب رئيسي في حلف شمال الأطلسي. ومعدل النمو السنوي لتركيا في تراجع إذ تدنى من خمسة في المئة إلى ثلاثة في المئة وهناك حاجة إلى قوة دفع جديدة لخفض معدل البطالة بين ملايين الشبان. وهذا يستدعي أن تبقى الأبواب التركية مع الغرب مفتوحة.
آندرو دوف عضو البرلمان الأوروبي السابق الذي كان نائبا لرئيس اللجنة البرلمانية المشتركة بين تركيا والاتحاد الأوروبي يرى أن إردوغان "متقلب تماما" فيما يتعلق بأوروبا وأن تركيزه منصب الآن على استغلال الإسلام والقومية. ودوف الذي تتهمه السلطات التركية بأنه "موال لكولن" وهو اتهام ينفيه ضاحكا قال "أخشى أن يزداد الأمر سوءا... أنا متأكد أن هدف إردوغان هو البقاء في السلطة حتى عام 2023 على الأقل وهو العام الذي يوافق مئوية تأسيس الجمهورية." بحسب رويترز.
ولا يظن دوف أن إردوغان ولى اهتمامه صوب الشرق للأبد. لكن دول أوروبا وحلف الأطلسي والغرب تجد الآن نفسها مع شريك متقلب. وقال علي رضا "هل ستستمر تركيا في التطلع إلى ماضيها كأمة وفي انفتاحها على الغرب أم ستأمل في مستقبل مجيد تقترب فيه من إخوانها في الشرق.. إنها في منعطف حساس."
اضف تعليق