تسونامي المد اليساري التي اجتاحت أمريكا اللاتينية بدأت بالتلاشي، مع تصويت مجلس الشيوخ البرازيلي لصالح توجيه تهمة التقصير والتلاعب بمعطيات الموازنة العامة للرئيسة ديلما روسيف، وعلى اثرها تم تعليق مهامها لحين انتهاء المجلس من إصدار الحكم النهائي بحقها. فيما وصفت الرئيسة البرازيلية، نفسها بأنها "ضحية مهزلة قضائية وسياسية"، اما في فنزويلا فلا يزال الرئيس نيكولاس مادورو يعيش على التنفس الاصطناعي من خلال حالة الطوارئ والاتكاء على نظرية المؤامرة.
الصراع السياسي بين اليمين المدعوم من الولايات المتحدة بين اليسار الطامح لإنهاء الهيمنة الامريكية العالمية لم يكن جديدا لكنه ازداد حدة مع فوز المعارضة في البرلمان الفنزويلي ثم تقديمها مليونا و850 ألف توقيع إلى السلطة المشرفة على الانتخابات في البلاد في اطار محاولة للدعوة لاستفتاء على بقاء الرئيس نيكولاس مادورو. إذ جمع تحالف الوحدة الديمقراطية توقيعات تزيد بكثير عن العدد المطلوب من توقيعات الناخبين البالغ واحد بالمئة (نحو 200 ألف توقيع) للانتقال للمرحلة التالية من الدعوة لاستفتاء.
وقال خيسوس توريالبا رئيس التحالف في تغريدة على موقع تويتر "من خلال هذه الاستراتيجية الناجحة حقق تحالف الوحدة الديمقراطية تقدما نحو تغيير سياسي مطلوب بشدة من خلال إجراءات سلمية ودستورية لا تقبل التشكيك".
هذه الدعوة كانت مدعومة بأزمة اقتصادية خانقة على أثر انخفاض أسعار النفط وتراجع الاقتصاد الصيني الذي تعتمد عليه فنزويلا ودول أمريكا اللاتينية، إذ تقول وكالة رويترز ان الغضب ضد مادورو ازداد بسبب نقص الأدوية والتضخم الذي بلغ مستويات عالية وارتفاع معدلات الجريمة والانقطاع المستمر في الماء والكهرباء.
الرئيس نيكولاس مادورو من جانبه اقسم أن أحدا لن يجبره على ترك منصبه قبل انتهاء ولايته في 2019 ويتهم المعارضة بالسعي لانقلاب عليه لتدمير الإرث الاجتماعي لسلفه الرئيس الراحل هوجو تشافيز. ولم تتوقف حكومته عند هذا الحد بل ذهبت للتشكيك بالتواقيع التي جمعتها المعارضة واتهمها بتزوير عدد من التوقيعات التي جمعتها مؤكدة ان هذا التصويت لا يمكن ان يجري هذه السنة.
وقال منسق اللجنة التي عينتها الحكومة للتحقق من صحة التوقيعات خورغي رودريغيز في مؤتمر صحافي "اعرف ان فنزويليين وقعوا، لكنني اعرف بالتأكيد ايضا انهم (اعضاء المعارضة) قاموا بعمليات تزوير". واضاف ان "اكثر من 11 بالمئة من الاستمارات" التي استخدمت في جمع 1,85 مليون توقيع وعرضت الاثنين الماضي على المجلس الوطني الانتخابي المعروف بقربه من الحكومة "غير كاملة"، موضحا ان "هناك توقيعات بلا بصمات واسماء بلا هويات، ومرة جديدة اموات يوقعون".
حالة الطوارئ وتظاهرات في اتجاهين
وفي خضم الجدل حول بقاء بقاء الرئيس من عدم مدد الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو لثلاثة اشهر حالة "الطوارئ الاقتصادية" السارية منذ منتصف كانون الثاني/يناير وقال مادورو "سأوقع على مرسوم جديد لأشهر ايار/مايو وحزيران/يونيو وتموز/يوليو وسيمدد دستوريا خلال العام 2016 وحتما خلال العام 2017 بغية استعادة القدرة الانتاجية للبلاد". وتجيز حالة "الطوارئ الاقتصادية" للحكومة ان تضع يدها على ممتلكات للقطاع الخاص لضمان توفير المواد الاساسية للمواطنين، وهو ما ترى فيه المعارضة تمهيدا للطريق امام عمليات تأميم جديدة.
ودعا الرئيس مادورو انصاره الى "التمرد" لكن بشكل "سلمي" اذا كلل استفتاء اقالته الذي وعدت به المعارضة بالنجاح. وقال امام آلاف المتظاهرين الذين تجمعوا لمناسبة عيد العمال العالمي "اذا تمكنت الاقلية المتحكمة يوما ما من فعل شيء ما ضدي وتمكنت من الاستيلاء على هذا القصر (الجمهوري) بطريقة او باخرى، فاني آمركم بان تعلنوا التمرد واضراب عام مفتوح حتى الانتصار على الاوليغارشيا".
وشدد مادورو على ان "الاستفتاء خيار وليس امرا واجبا" مضيفا "الامر الواجب الوحيد هو الانتخابات الرئاسية وستكون في كانون الاول/ديسمبر 2018" مع انتهاء ولايته. فيما اعلن عن تشكيل لجنة لمراجعة "كافة التواقيع واحدا واحدا" لتفادي كل "غش".
المعارضة من جانبها دعت الى التظاهر السبت في كراكاس لإبقاء "الضغط" من اجل تنظيم استفتاء لاقالة الرئيس اليساري، متهمة السلطات الانتخابية بانها تفعل ما بوسعها لتأخير العملية. وقال النائب ستالين غونزاليس من تحالف طاولة الوحدة الديموقراطية في مؤتمر صحافي "سنبقي الضغط بشكل منظم وسلمي عبر المطالبة بما ينص عليه الدستور".
واستخدم مثل هذا الاستفتاء مرة واحدة في تاريخ فنزويلا ضد الرئيس الراحل هوغو تشافيز (1999-2013) وذلك في 2004 وآل الى الفشل. لكن هذه المرة قد يستفيد الاستفتاء من مناخ التململ الاجتماعي المتنامي الذي جسدته خصوصا اعمال شغب ونهب في الايام الاخيرة في شمال غرب البلاد. واشار استطلاع حديث الى ان 68 بالمئة من المستطلعين يرغبون في رحيل مادورو.
مؤامرة أمريكية
ولم تخرج الحكومة الفنزولية من صندوق الدول النامية التي عودتنا بالقاء مشاكلها على مؤامرات خارجية، إذ اتهم الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو الولايات المتحدة بالتخطيط لغزو بلاده.قائلا إن التهديدات ضد فنزويلا زادت بعد وقف الرئيسة البرازيلية ديلما روسيف عن العمل الأسبوع الماضي، وهو ما وصفه مادورو بالانقلاب.
وأضاف الرئيس الاشتراكي، خلال مؤتمر صحفي، أن واشنطن هي مركز “المؤامرة” التي تحاك ضد حكومته. وقال إن طائرة تجسس تابعة للجيش الأمريكي حلقت فوق فنزويلا الأسبوع الماضي.
وردت الولايات المتحدة الامريكية على هذه الاتهامات عبر المتحدث باسم وزارة الخارجية جون كيربي الذي قال إنه ليس لديه معلومات بشأن ما قاله مادورو عن تلك الطائرة. وأضاف: “لا نزال نشاطر المجتمع الدولي المخاوف بشأن الظروف الصعبة التي يعيشها الشعب الفنزويلي”، مشيراً إلى تفاقم مشكلات نقص الغذاء والدواء والكهرباء والسلع الاستهلاكية الرئيسية. وأعرب عن اعتقاد الولايات المتحدة بأن الحل للتحديات التي تواجهها فنزويلا يتمثل في إشراك جميع الأطراف المعنية.
وفي سياق متصل انهى الجيش الفنزويلي مناورات عسكرية استمرت يومين أمر بها الرئيس نيكولاس مادورو تم التركيز خلالها على تدريب مدنيين على الدفاع عن الوطن والنظام الداخلي بعد فرض حالة الطوارئ في البلاد.
وأمر مادورو بإجراء مناورات “استقلال-2 2016″ محذرا من “تدخل خارجي” وفي وقت تصاعد فيه التوتر في البلاد التي تعاني ازمة اقتصادية وسياسية واجتماعية.
وفي اطار حالة الطوارئ السارية تم نشر عسكريين في الولايات السبع الرئيسية على الساحل الشمالي. واجروا مناورات تحاكي عمليات دفاع في حال انزال قوات معادية وفي حال حدوث هجمات على منشآت توزيرع الكهرباء. وبحسب السلطات شارك في المناورات 520 الف عسكري وشبه عسكري. كما تم تدريب طلاب مسلحين ببنادق لا تفوق اعمارهم 25 عاما في مناطق غابية حول العاصمة كراكاس، وحول مشاركة المدنيين قال وزير الدفاع فلادمير بادرينو “الشعب يشارك ايضا في ما اسميناه أجهزة ادارة الدفاع المندمج” لينخرط “في مجال الكفاح غير المسلح”.
انهيار اقتصادي
وفي الجانب الاقتصادي المتدهور نشر المصرف المركزي الفنزويلي في منتصف يناير/ كانون الثاني الماضي أرقامًا تفيد أن معدل التضخم بلغ 144% مقارنة بآخر أرقامه المنشورة في ديسمبر/ كانون الأول من عام 2014 والتي قدر فيها حجم التضخم بحوالي 68.5%.
وبحسب تقرير لموقع نون بوست قال ان تقديرات صندوق النقد الدولي في منتصف ديسمبر/ كانون الأول تشير الى أن التضخم في فنزويلا سيبلغ 750% خلال العام الجاري من مستوياته الحالية البالغة 275% أي أن الأسعار ستتضاعف بحدود 8 مرات بنهاية العام الحالي من مستوياتها الحالية.
وتعد مستويات التضخم في فنزويلا هي الأعلى في العالم، وإذا بقي الأمر على ما هو عليه فإن التضخم في المستقبل سيرتفع ليلامس مستويات غير مسبوقة تصل إلى 1500% في عام 2017 حسب بلومبيرغ.
كما أن دخل الفرد انخفض إلى أكثر من 300% بين عام 2013 وعام 2015، أي أنه انخفض من حوالى 12 ألف دولار في السنة إلى أكثر قليلاً من 4 آلاف دولار بحساب القيمة الشرائية، ويلقي المصرف المركزي الفنزويلي باللوم على تجار العملة في السوق السوداء، حيث يقول في تقريره الأخير إن 60% من الزيادة في التضخم تعود إلى تجار العملة، الذين يضاربون على العملة الفنزويلية مقابل الدولار.
وهبطت قيمة البوليفار في السوق السوداء إلى مستويات منخفضة جدًا وبحسب وكالة بلومبيرغ الاقتصادية أشارت في تقرير سابق أن البوليفار هبط بمقدار 97% منذ استلام مادورو رئاسة البلاد، حيث يتوفر في الأسواق الفنزويلية سعر الحكومة الرسمي وسعر السوق السوداء ويتضاعف سعر صرف الدولار في السوق السوداء بمعدل 150مرة عن أسعار الصرف الأخرى الموجودة في السوق.
وبحسب صندوق النقد الدولي فإن معدل الانكماش الأعلى في العالم يعود لفنزويلا إذ بلغ حوالي 10% في العام الماضي بينما بلغ أعلى معدل نمو في العالم لإثيوبيا إذ بلغ 8.7%.
ويبدو ان محاولة مادورو في التشبث بالحكم لا يمكنها ان تنقذ اليسار في أمريكا اللاتينية، فالارقام تؤكد فشل اليسار في ضخ المزيد من الاوكسجين في جسد القارة اللاتينية، والسكان هناك يقبعون تحت ظروف اقتصادية وسياسية سيئة وهذا يمهد الطريق لليمين المدعوم غربيا، وإجراءات الحكومة الفنزولية لمنع السيناريو البرازيلي هي بمثابة هروب للامام كونها لم تاتي بحلول جذرية تحد من مخاوف مواطنيها.
اضف تعليق