يبدو أنّ قضية الاصلاحات السياسية التي اطلقها رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي، في آب أغسطس من العام الماضي، بهدف تصحيح مسار العملية السياسية ومعالجة بعض المشكلات والازمات الامنية والاقتصادية التي يمر بها العراق، من خلال تقليل النّفقات وتشكيل حكومة تكنوقراط ومحاربة الفاسدين وغيرها من القرارات الاخرى، التي جاءت بعد مظاهرات شعبية حاشدة، تطبيق هذه الاصلاحات وكما يقول بعض المراقبين اصبح امرا صعبا ولاسباب كثيرة منها، ضعف الحكومة الحالية المبنية وفق نظام المحاصصة الحزبيّة والطائفيّة، وتأخر رئيس الوزراء في تطبيق حزمة الاصلاحات الاولى بسبب الضغوط التحركات المضادة التي قامت بها بعض الجهات والاحزاب المستفيدة، والتي نجحت في قلب الموازين لصالحها خصوصا وان العبادي لم يسعى بشكل جدي للاستفادة دعم المرجعيّة الدينية والشارع العراقي الذي ايد تلك الاجراءات واعطى العبادي تأيد مطلق وحصانة ضد المعارضين، وهو ما اجبر البرلمان والقوى السياسية على اتخاذ موقف داعم لهذه الاصلاحات.
ويرى بعض المراقبين ان رئيس الوزراء العراقي وفي ظل تفاقم الأزمة المالية واستمرار الخلافات السياسيّة، قد خيب آمال الجميع واصبح في موقف صعب جدا امام الشعب، الذي ادرك ان اصلاحات العبادي لم تكن سوى وعود هدفها امتصاص غضب الشارع الذي سيسعى الى تصعيد وتيرة المظاهرات التي ستختلف كثيرا عما سبق، خصوصا مع دخول شخصيات وتيارات شعبية ذات ثقل كبير وهو ما قد سهم بفرض واقع جديد، لذا فعلى رئيس الوزراء ان يسعى الى الاستفادة من هذه التطورات من اجل كسب الرأي العام العراقي وتغيرالصورته الحالية، خصوصا وانها قد تعطية قوة للوقوف من جديد بوجه الخصوم.
وفيما يخص بعض التطورات فقد قال رجل الدين العراقي الشيعي البارز مقتدى الصدر أمام أكثر من 100 ألف من أنصاره بوسط بغداد إنه يتعين على رئيس الوزراء حيدر العبادي اتخاذ إجراء حاسم لاستئصال الفساد وتنفيذ الإصلاحات التي وعد بها وإلا جازف بفقد سلطته. وكان العبادي قد وعد الصيف الماضي بإجراء إصلاحات سياسية واقتصادية بعد احتجاجات حاشدة في الشوارع لكنه سرعان ما واجه مقاومة مستمرة وتحديات قانونية للتغيير. وتعهد بتعيين تكنوقراط يحلون محل وزراء تم تعيينهم على أساس الانتماءات السياسية لكن ظل هذا الوعد مجمدا أيضا.
وقال الصدر الذي تستحوذ كتلة الأحرار التي يتزعمها على 34 مقعدا نيابيا وثلاثة مناصب وزارية أمام الحشد الضخم الذي تجمع في ساحة التحرير "اليوم رئيس الحكومة على المحك وخصوصا بعد أن انتفض الشعب." وأخذ الصدر يردد هتافات مناهضة للولايات المتحدة ألهب بها حماسة مؤيديه واتهم العبادي بعدم الاستفادة من الدعم الذي قدمه آية الله علي السيستاني أعلى مرجعية شيعية في العراق الذي أقر الإصلاحات وإن بدا أن الإحباط تسلل إليه لتجمدها. وقال الصدر من على منصة "بعد صوت المرجعية الذي دعم إصلاحات الحكومة وبعد أن مكنا رئيس الحكومة من الإصلاحات... توانى."
وقال المحلل السياسي العراقي فاضل أبو رغيف إن الاحتشاد الذي شارك هو نفسه فيه كان بمثابة إعادة تأكيد من جانب الصدر لحمله لواء الإصلاح. وهدد الصدر -الذي قام جيش المهدي التابع له بقتال القوات الأمريكية في ذروة الاقتتال الطائفي بالعراق عامي 2006 و2007- باقتحام مجمع "المنطقة الخضراء" شديد التحصين والذي يضم مباني حكومية وسفارات أجنبية منها السفارة الأمريكية. وقال أبو رغيف "هو ليس يقصد الاقتحام الفيزيائي بقدر ما يقصد الاقتحام السياسي. هو يريد أن يقول لهم إن ثورة الإصلاح قادمة إليكم عبر بوابات المنطقة الخضراء لكن ليست البوابة المادية الملموسة."
وتوجه اتهامات بالفساد لغالبية المؤسسات الحكومية فيما تعاني جميع قطاعات الخدمات في البلاد نقص حاد. ولم يتمكن العبادي خلال جلسة حضرها قبل ايام من الحصول على تفويض من البرلمان لاجراء اصلاحات واسعة رغم اتخاذه من قبل خطوات بهذا الاتجاه ابرزها تقليص المناصب الوزارية من 33 الى 22، وخفض عناصر حماية المسؤولين. ورغم دعم السيستاني والمطالب الشعبية، يرى محللون ان اجراء اي تغيير جذري في العراق سيكون صعبا نظرا للطبيعة المتجذرة للفساد واستفادة الاحزاب منه، اضافة الى تعقيدات الوضع السياسي والمذهبي.
حكومة تكنوقراط
من جانب اخر قال رجل الدين العراقي الشيعي مقتدى الصدر إن بلاده تحتاج لحكومة تكنوقراط وهدد بترك السياسة إذا لم ينفذ رئيس الوزراء حيدر العبادي الإصلاحات التي طالب بها. وتصريحات أول رد فعل رفيع المستوى لدعوة رئيس الوزراء لاستبدال الوزراء السياسيين بوزراء تكنوقراط. وفي وقت يكافح فيه لإظهار نتائج الإصلاحات التي أعلنها قبل ستة أشهر قال العبادي إنه يريد إجراء تغيير وزاري وهو التعديل الذي قد يؤدي إلى تعديل التوازن الهش للحكومة والمعمول به منذ الغزو الأمريكي عام 2003. ودعا الصدر إلى "تشكيل وزاري متخصص يتمتع بالنزاهة والخبرة من أجل تشكيل حكومة تكنوقراط بعيدة عن الحزبية والتحزب على أن يشمل الجميع"، وأضاف أن الانسحاب من السياسة سيكون "هو المتعين" إذا لم تحرز الحكومة تقدما سريعا في تنفيذ اصلاحات من بينها تطهير القضاء ومكافحة الفساد. وقال الصدر في خطاب نقله التلفزيون "لا أمل مع التراخي." ولآراء الصدر تأثير في عشرات الآلاف من مؤيديه ومن بينهم مقاتلون كانوا يسيطرون في وقت ما على أجزاء من بغداد وساهموا في الدفاع عن العاصمة بعد اجتياح تنظيم داعش المتشدد للحدود مع سوريا في يونيو حزيران 2014. وجعل الفساد وسوء الإدارة في النظام السياسي العراقي البلاد تكاد أن تكون عصية على الحكم وقوض المعركة ضد تنظيم داعش المتشدد الذي يسيطر على مساحات كبيرة من الأراضي في الشمال والغرب. يحسب رويترز.
ودفعت المظاهرات والدعوات التي أطلقها رجل دين شيعي بارز آخر في الصيف الماضي العبادي لبدء تفكيك نظام المحسوبية في البلاد واجتثاث الفساد. وأيد الصدر تلك الإصلاحات آنذاك. لكن حملة العبادي تعثرت بسبب طعون قانونية ومعارضة من قطاعات مقاومة التغيير. وتعرض لانتقادات لعدم اتخاذه إجراءات حاسمة. وقال سياسيون ودبلوماسيون إن من المتوقع أن يواجه التغيير الوزاري المقترح مقاومة من الكتل السياسية الرئيسية وقد ينتهي بخسارة العبادي لمنصبه.
محاولات العبادي
على صعيد متصل ستقاوم الكتل السياسية العراقية على الأرجح محاولات رئيس الوزراء حيدر العبادي لاستبدال وزراء تم تعيينهم على أسس سياسية بوزراء من التكنوقراط في محاولة ربما تكون الأخيرة لإصلاح الحكومة وهو ما يمكن أن يكلفه منصبه في نهاية المطاف. وقال العبادي إنه يريد تغييرا جوهريا في حكومته التي تشكلت في 2014 وتوزعت فيها الحقائب الوزارية على أساس التمثيل البرلماني للكتل السياسية. وتولى العبادي المنصب قبل 18 شهر وتبلغ مدة ولاية رئيس الوزراء أربع سنوات.
ولم يقدم العبادي الكثير من التفاصيل لكنه طلب تعاون البرلمان الذي يجب أن يوافق على أي تغييرات وزارية وعرقل جهودا سابقة للإصلاح. وشكك سياسيون ودبلوماسيون ومحللون في أن يكون لدى العبادي الدعم الكافي لإصلاح النظام الحكومي العراقي الذي توزع فيه المناصب على أساس عرقي وطائفي مما يكون شبكات محسوبية قوية. ويقولون إن العبادي ربما يجهز نفسه للهزيمة وقد بدأت بالفعل مناقشات معظمها غير معلنة عن بديل محتمل له.
وقال سامي العسكري العضو البارز بالبرلمان عن ائتلاف دولة القانون الذي ينتمي إليه العبادي "هو الآن تحت رحمة الكتل. إن لم تتفق فلن يستطيع أن يفعل شيئا." وقال أيضا إن أقصى ما يمكن أن يتمناه العبادي هو "تغييرات شكلية" من خلال استبدال عدد قليل من الوزراء بمرشحين من نفس الكتل وهو أمر سيزيده ضعفا. وقال سياسيون ودبلوماسيون إن التغييرات يمكن أن تشمل وزارات المالية والخارجية والنقل والموارد المائية والصناعة.
ورفض سعد الحديثي المتحدث باسم العبادي التعليق على التكهنات بشأن الوزراء الذين قد يتم تغييرهم لكنه قال إن الإعلان الذي صدر عن رئيس الوزراء "يمثل بداية لحوار من أجل معرفة جدية الكتل السياسية نحو مبادرته." وشكك العضو البرلماني حامد المطلق في نوايا رئيس الوزراء لكنه قال إنه لا يرى أي خيار آخر. وأضاف "إذا فشل العبادي في الحصول على الدعم الكامل من الكتل السياسية هذه المرة فإن سوء إدارة الدولة سيدفع بالعراق إلى الهاوية."
وقال برلمانيون ودبلوماسيون إن العبادي لم يجر مشاورات واسعة بالدرجة الكافية مع الزعماء السياسيين قبل الكشف عن خطته لإجراء تغيير وزاري مكررين انتقادات لجهود سابقة لإجراء إصلاحات شاملة للمشهد السياسي العراقي. وقال دبلوماسي في بغداد "هذا الإعلان يلقى قبولا أكبر من إعلانات الإصلاح السابقة لكنه لا يحظى بقبول جميع ألوان الطيف السياسي." يحسب رويترز.
ويواجه رئيس الوزراء تحديات أكبرها إصلاح الجيش العراقي الذي انهار أمام تقدم تنظيم داعش عام 2014 وتمكين حكومة ينظر إليها على أنها غير كفء من ممارسة عملها بسلاسة في ظل الأزمة الاقتصادية التي نتجت عن هبوط أسعار النفط. لكن مساعي العبادي تعثرت أمام تحديات قانونية ومعارضة أصحاب مصالح وسط مؤشرات على نفاد صبر السيستاني على رئيس الوزراء. وقرر السيستاني التوقف عن التطرق للشؤون السياسية في خطب الجمعة غضبا من العبادي على ما يبدو. وقال العسكري "في الأسابيع الأولى حين كانت المرجعية والجماهير يريدون ذلك كان من الممكن أن يضع الكتل في مأزق. لم يكن هناك من يجرؤ على رفض الإصلاح. لكنها الآن مستعدة للرفض لأن المرجعية ضاقت ذرعا."
وقال واثق الهاشمي رئيس المجموعة العراقية للدراسات الاستراتيجية وهي مؤسسة بحثية إن قرار العبادي تعديل حكومته يضعه في مواجهة جماعات سياسية قوية بما في ذلك جماعات في تحالفه الحاكم والتي سحبت دعمها لاصلاحاته العام الماضي لعدم تشاوره معها. وتوقع الهاشمي ألا تتفق الأحزاب مع رئيس الوزراء على تغيير وزرائهم وسترد باقتراح لحجب الثقة عن العبادي. وقال الهاشمي إن البلاد تتجه إلى مفترق طرق خطير وعواقب يصعب التنبؤ بها.
على صعيد متصل صرح الرئيس العراقي فؤاد معصوم ان تغيير رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي الذي يلقى معارضة حتى في صفوف حزبه، غير ممكن في الوقت الذي يحارب فيه العراق تنظيم داعش الذي يحتل اجزاء واسعة من البلاد. وقال معصوم "يستحيل في الظروف الراهنة ابدال العبادي. هذا من مصلحة العراق". واضاف "لانه في حال تغيير العبادي سنحتاج لخمسة الى ستة اشهر للاتفاق على الشخص الذي سيحل مكانه. وهذه الحكومة ستكون فقط حكومة تصريف الاعمال الجارية ولن تتمكن من توقيع اي اتفاق كما انها لن تستطيع اتخاذ اي قرار، فيما نحن في مواجهة مع داعش". وتابع "وما هو البديل؟ ليس من السهل الاتفاق على شخصية اخرى".
ويواجه العبادي اعتراضات حتى داخل حزبه، حزب الدعوة، منذ ان تسلم مهامه في آب/اغسطس 2014. ويبدو موقعه مؤخرا اكثر هشاشة. ويطالب سلفه نوري المالكي وشخصيات سياسية اخرى من كتلته البرلمانية ذات الغالبية الشيعية، بالحد من التعاون الوثيق مع التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة ضد تنظيم داعش. ويأخذ بعض السياسيين ايضا على العبادي انه ليس حازما بشكل كاف لانجاز جملة اصلاحات بهدف مكافحة الفساد والهدر. وقال معصوم في هذا الخصوص ان خطة الاصلاحات "حصلت على موافقة البرلمان بالاجماع. ولا احد يعارضها". ويتولى معصوم وهو شخصية كردية منصب الرئيس منذ صيف 2014 وهو منصب فخري.
العبادي والمرجعية العليا
في السياق ذاته اعلن رجل دين عراقي ان المرجع الشيعي اية الله علي السيستاني قرر ان لا تكون خطبته اسبوعية بل "حسب ما يستجد من الامور وما تقتضيه المناسبات" في اشارة الى احباطه ازاء الحكومة على ما يبدو. وقال احمد الصافي الوكيل الشرعي للسيستاني في كربلاء خلال خطبة الجمعة أمام مئات المصلين في صحن الامام الحسين "كان دأبنا في كل جمعة أن نقرا في الخطبة الثانية نصا مكتوبا يمثل رؤى و أنظار المرجعية الدينية العليا في الشأن العراقي".
واضاف "لكن قد تقرر ان لا يكون ذلك أسبوعيا في الوقت الحاضر بل حسب ما يستجد من الأمور وتقتضيه المناسبات. ونكتفي اليوم بالدعاء لاخواننا المقاتلين في جبهات المنازلة مع الارهابيين" في اشارة الى الحشد الشعبي. ووفقا لحيدر الخوئي الباحث في تشاتام هاوس المركز المتخصص في العلاقات الدولية، فان نهاية الرسائل تسلط الضوء على احباط السيستاني بمواجهة رئيس الوزراء حيدر العبادي وحكومته. وقال "من الواضح ان السيد السيستاني لا يزال غاضبا ازاء الحكومة بسبب فشل برنامجها الاصلاحي". يحسب فرانس برس.
واضاف الخوئي ان القرار "يؤكد الاحباط الواضح فرسائله الثابتة التي تمارس ضغوطا من اجل الاصلاحات لم تلق اذانا صاغية". وغالبا ما يدعو السيستاني الحكومة لتطبيق اصلاحات في مجال مكافحة الفساد لكن بعض الطبقة السياسية يحول دون اي تغيير حقيقي. ونقل الخوئي عن احد رجال الدين قوله "يغلق السيد السيستاني الباب مواربة امام العبادي". ويعتبر السيستاني، صاحب النفوذ الواسع، انه يتعين على رجال الدين تقديم النصح دون التدخل في ادارة الشؤون العامة في البلاد. لكن دوره كان له كبير الاثر على التطورات في العراق بعد سقوط نظام صدام حسين عام 2003. ففي عام 2004، مارس ضغوطا على الاميركيين لاجراء انتخابات ديموقراطية، وكان وراء تشكيل الائتلاف الشيعي الذي فاز في انتخابات عام 2005.
وتعهد رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي بالقضاء على الفساد هذا العام وسط انتقادات من المرجع الشيعي الأعلى في البلاد آية الله علي السيستاني بأن الحكومة لا تبذل جهدا كثيرا لمحاربة الكسب غير المشروع. وأشارت نتائج لجنة برلمانية شكلت خصيصا إن الفساد في صفوف الضباط كان أحد أسباب فشل الجيش العراقي في التصدي لتقدم تنظيم داعش عام 2014، وقال العبادي "لا يجوز أن يكون هناك فساد مقبول وفساد غير مقبول... كل فساد مرفوض ويجب أن يحارب بأقصى ما نستطيع. عام 2016 عام القضاء على الفساد." ودعا السيستاني الحكومة إلى إصلاح الإدارة ومحاربة الفساد. وقال ممثل السيستاني السيد أحمد الصافي للمصلين في مدينة كربلاء "انقضى العام ولم يتحقق شيء واضح على أرض الواقع وهذا أمر يدعو للأسف الشديد".
اضف تعليق