زيارة الموصل كشفت لنا حجم التحديات بعد سنوات من العنف وعن إرادة صمود أهلها في إعادة بناء مدينتهم وحياتهم، سواء في التعليم والاقتصاد المحلي والبنية، وصولاً إلى أدوات لإحياء الروح المجتمعية. اللافت هو كيف يحول السكان الألم والذكريات الصادمة إلى دروس للأجيال، مدينة يمكن أن تصبح مساحة للتجربة الإنسانية...
ظهر الخميس 25 أيلول/سبتمبر، تركنا كربلاء خلفنا متجهين شمالا نحو الموصل، بينما كانت الشمس تتسلل ببطء عبر السماء، والحرارة اللاهبة تتشبث بأجسادنا، كأن العراق كله يختبر عزيمة كل مسافر. كانت سيارتنا محملة بأمتعة خفيفة، لكن الفضول كان أثقل من أي حقيبة، يحمل أسئلة لا تنتهي عن مدينة الموصل وسكانها، عن حياة انتُزعت منهم، وعن جراح لم تلتئم بعد.
الرحلة التي بلغت مسافتها 500 كم إلى الموصل كانت عبوراً عبر الليل، عبر الذكريات الممزقة، عبر شوارع وقرى تنبض بالألم والصمود، ومدن تبحث عن نفسها وسط الرماد، كل ميل نقطعه على الطريق يشبه فصلاً من رواية طويلة عن الفقد والإصرار، عن الألم والصمود، عن العراق الذي يرفض أن يُنسى رغم كل شيء.
أول محطة لنا كانت بعد كربلاء، محافظة بابل التي لا زالت شوارعها أيضاً تشكو من الإهمال، رغم أنها مدينة الآثار القديمة التي تتناثر كصفحات كتاب مفتوح على حضارات ضاعت بين الرمال والأنهار، مشينا على أطلالها وكأن كل حجر يحمل هم الماضي، يصرخ بأن العراق كان دوماً مهد الحضارات، وأن الحرب ليست سوى فصل مؤقت في هذا السجل الطويل، أنظر إلى جوانب الطريق المزروع بالأشجار المتهالكة، والأرصفة التي يعمل على إصلاحها العمال، كلها تهمس: "تذكروا التاريخ قبل أن تمحوكم المعارك".
ثم جاءت بغداد، العاصمة التي تتأرجح بين الحداثة والعجز السياسي، فعلى طريق أبو غريب السريع المهترئ، السيارات تسير على نحو متهور، وأحياناً نتوقف عند طرق وعرة تذكرنا بأن المدينة لم تخرج من صراعها الداخلي.
ثم سامراء، بمنارتها الملوية الشهيرة والأضرحة التي تعرضت للتفجيرات الإرهابية والتي خلفت تداعيات خطيرة على المدينة وسكانها، كانت رمزاً للتاريخ الذي لا يموت، قبل أن يحطمها داعش.
الطريق من بغداد إلى سامراء كان مليئاً بالقرى الصغيرة، مثل التاجي والطارمية، التي شهدت معارك حاسمة، فكل منعطف فيها يحكي قصة دم وعنف، والمنظر هناك يمزج بين الحقول الواسعة، والأراضي الزراعية المحترقة لزراعة قادمة، والمنازل المبعثرة على الطريق، وكأن كل شيء يردد: "هذه الأرض عرفت الألم قبل أن تعرف السلام".
الدروب الموحشة
شمال سامراء تقع تكريت، أحد المعاقل لتنظيم داعش سابقا ومن قبل ذلك تنظيم القاعدة، فعلى مشارف المدينة تذكرت الصور التي شاهدتها عن المعارك الدامية، وعن الهجوم الأخير الذي استعادتها به القوات العراقية، كما تذكرت البيوت المدمرة والشوارع المكسرة.. كانت صامتة لكنها تنطق بمآسي سكانها.
أما الحديث عن بيجي، بمصفاتها النفطية، فكان أصعب المحطات التي كنا نشاهدها من نوافذ السيارة، فمن بعيد بدت الأبراج تقذف لهباً ودخاناً يعلو في السماء، علامة حية على صناعة قاومت الدمار، ورغم أن الحرب التهمت كل شيء تقريباً، فإن المصفى ظل واقفاً، شاهداً على صراع لم يستطع أن يمحو كامل معالمه.
جبال مكحول كانت آخر الحصون، على جانب الطريق الأيمن تلك المنطقة الوعرة، شعرت بأن المكان نفسه يحاول أن يخنق أي ضيف، فالتلال الشاهقة وسط الظلام، والممرات الجبلية، والأبنية المهجورة على جوانب الطرق المظلمة، كل شيء كان يروي قصة مقاومة واحتجاز وانسحاب.
ثم الشرقاط، حيث توقفنا في مثلث مظلم من أجل صديق قديم لأحد أفراد فريقنا، الذي أصرّ أن يستضيفنا ويكرمنا بكرم العشائر المعروف، جاء ومعه ابنه الصغير، وقد قطع مسافة نحو أربعين كيلومتراً من أجل أن يحيّينا، كانت براءة الطفل وحدها كافية لتخفيف وطأة الطريق الطويل، لكننا كنا على عجالة، فالليل قد أرخى سدوله، فبقي المشهد أقرب إلى لوحة إنسانية خاطفة وسط ركام المعارك.
أمتد الطريق أمامنا مظلماً، كل ما نراه هو الضوء الضئيل من السيارة على الطريق المليء بالتلال السوداء، فالغياب التام لأي مدينة أو قرية في الأفق جعل من الليل تجربة مختلفة، أما هدير المحرك فكان الوحيد الذي يقطع الصمت، وصرير تروس السيارة يشبه أنين الأرض التي مرت بما لا يطاق.
هنا، أدركت معنى الرحلة التي بدأت في كربلاء ظهراً، لكنها تحملنا وسط ليل طويل، نمر بمحطات على خارطة حرب، في الطريق شعرت بالإثارة، كل منعطف يخبرني عن معركة محتملة، وكل مطلع على قرية تخلصت من العنف يذكرني بأن الحياة تستمر رغم كل شيء.
ليل الكورنيش
وصلنا إلى الموصل في وقت متأخر من الليل، المدينة عند أول ظهور لها على الشريط المضيء بدت هادئة، والضوء المكسور على ماء دجلة كان ينعكس ببطء، والكورنيش الذي كنت أسمع عنه سابقاً في أحاديث كثيرة أصبح أمامي حقيقة، أشخاص يجلسون على المقاعد، وعائلات تتجول، وشباب يتبادلون الأحاديث.. المشهد جعل روح الموصل تبدو وكأنها تقاوم المآسي بصدر لا يهدأ.
رغم الدمار، توجد حياة، والمرور بين الأزقة في الليل كشف عن وجوه جديدة، وجوه تعبر عن قضبان الصبر، ووجوه تسعى لخلق ليل يبدو عادياً كما كان قبل الانهيار، كما لو أنها تخبرني أن الحياة هنا تستعيد تجميعها شيئاً فشيئاً، هذا المشهد الحي يقول إن الحياة أقوى من الخوف الذي حاول أن يقتلها، لكنني لم أنسَ أن أمام هذا اللمعان طرقاً طويلة من العمل، تشمل التعليم والصحة وفرص العمل والبنية التحتية، والأهم وجود مشروع ثقة بين المكونات.
ديمقراطية معلقة على ظلال السلاح
فور وصولنا إلى المدينة في اليوم التالي كانت صور المرشحين للانتخابات تنتشر على الجدران والأعمدة والمحلات، وكل صورة تحمل شعارات ملونة ووجوهاً مختلفة، بعضها مبتسم وبعضها جاد، وكأن المدينة نفسها تحاول أن تقرر من سيمثلها بعد سنوات من الانكسار.. هذه الوجوه كانت بالنسبة لي أكثر من صورة، بل رسائل سياسية صامتة، تعكس طموح كل طرف للسيطرة على القرار المحلي، وتترك انطباعات مختلطة لدي بين الأمل بالحياة المدنية من جديد، والخوف من استمرار الصراعات السياسية تحت قناع الديمقراطية.
بينما كنا نتجول في الأزقة، لفت انتباهنا انتشار صور قادة الفصائل وصور لرجال العشائر والسياسيين على المكاتب والمقار المحلية، فالصور الكبيرة المعلقة جنباً إلى جنب مع شعارات النضال والتحرير، كانت تذكيراً دائماً بأن المدينة لا تزال تحت تأثير القوى التي شاركت في صراعها الدموي، وبعض المكاتب بدت وكأنها تحرس النفوذ، وتذكر الجميع بأن التحرير لم يكن نهاية للصراع، بل بداية لمنافسة على النفوذ السياسي والاجتماعي والاقتصادي.
كل زاوية، وكل شارع، كان يحمل مزيجاً من الأمل والخوف، الأمل في إعادة بناء المدينة والمشاركة السياسية، والخوف من أن تتحول هذه الصور إلى رموز لصراع دائم على السيطرة بعد التحرير، وأن يبقى النفوذ العسكري والسياسي حاضراً في الحياة اليومية لسكان الموصل.
مرقد النبي يونس المغلق
في طريقنا إلى مرقد النبي يونس كانت محطة لا تقل أهمية عن بقية المشاهد، فالمكان حجري الطابع، ترميم وجهد بشري لإعادة ربط ما تم قطعه، كان باب مغلقاً للصيانة والتنقيب داخل المرقد، إلا أنه فتح لنا بعد التعرف على المسؤولين وتقديراً لحضورنا، مع التأكيد على منع التصوير داخل الموقع، مما أتاح لنا رؤية الموقع عن قرب والاطلاع على تفاصيله بحذر واحترام.
حدثنا الأب جلال، القس المسيحي الذي يسكن الحمدانية ويتنقل بينها وبين أسيزي المدينة التاريخية التي تقع في وسط إيطاليا، على سفح جبل، وتمتاز بكنائسها القديمة وشوارعها الحجرية وإطلالتها الجميلة على وديان أومبريا.
حدثنا عن تاريخ المقام وعلاقته بالمجتمع، بدا صوته حزيناً لكنه أملى فينا معنى أن هذه المواقع ليست للأديان وحدها، بل سمات مشتركة للذاكرة الجماعية.
تحت الأنقاض، بأعمال ترميم بطيئة، يبدو هناك أعمال تنقيب أو بناء وهي دلائل حضارات أقدم، فهذا التنقيب يذكر بأن الأرض تحوي طبقات من الروح والتاريخ، وأن محاولات الإرهاب والمسح بالأيدي العنيفة لا تمحو ما في القلب العميق للتربة.
الخلافة انتحار سياسي
ثم جامع النوري؛ المكان الذي أعلن منه البغدادي ما أُسمي وقتها "بالخلافة"، حيث الباحات التي يزورها الناس للصلاة بين جدران المدينة لازالت تحمل ندوب انفجارات، وناس يقفون لالتقاط أنفاسهم، فالأزقة المحيطة كان فيها الأبنية المدمرة أو تحت الترميم، وكنت أفكر كيف يمكن للحفاظ على وجود متنوع أن يتحول إلى فعل مقاومة بطيء لكنه عميق.
غرقت المدينة في تفاصيل عديدة، أما الكنائس فإنها إفصاحات عن ذاكرة مشتركة لمجتمع اختبر الفقد لكنه لا يريد أن ينسى، حيث هناك كنائس أعيد رصفها، وإصلاح بطيء لأخرى، ومنازل أنهكتها الحرب، زرنا كنيسة مار توما السريانية، التي عانت خلال هيمنة تنظيم داعش، وكان أتباع الكنيسة يعملون بهدوء، يلتقطون الرخام والأحجار كما يلتقطون لحظات الأمل، فيما كان صوت الجرس ينتظر أن يُرفع ليكون أشبه بأغنية فرح صغير لا تتطلب قواعد بروتوكولية، فقط إنساناً يريد أن يعيد ذاكرته.
أما الحديث مع الأهالي فكشف عن أوجه ألم لا تندمل بسهولة، فحدثنا أحد المقيمين في كنيسة مارتوما عن قصص فقدان المنازل، وفقدان المعيل، وكيف كان المكان مرتعا لتنظيم داعش كما حدثنا عن الخراب مع أمثلة عن الصمود، وعن عائلات تعيد ترتيب منازلها، انها قصص تشبه أفلام الحروب، فهذا الخليط من الألم والعمل يظهر أن إعادة الإعمار عملية طويلة وتدريجية، وأن الأولوية يجب أن تكون للفرد قبل الشعار.
التقينا رهباناً مثل القس وسام، وهو يحاول أن يشرح لنا إعادة ترتيب الأمكنة بعد سنين من الانقطاع، ويوصف لنا ما تحمله بعض الكتب من تاريخ كنسي وموصلي، وعلى الطاولة، كان هناك قلم ودفتر صغير يستخدمه الزائرون لتسجيل ملاحظاتهم وانطباعاتهم في سجل الزيارات، وكأن كل كلمة تُسجل هي جزء من ذاكرة المدينة نفسها وجسراً بين الماضي والحاضر، ووسيلة لإحياء الحكايات المنسية ونقل الدروس، والأهم من ذلك القيم الأساسية المتعلقة بالعيش معاً.
زرنا أيضا كنيسة الطاهرة "حوش البيعة"، التي لم تسلم من آثار هيمنة داعش، وكانت أطلالها تتحدث عن سنوات من العنف والتدمير، رأينا الجدران المحطمة والأرضيات المهدمة، وكيف أثر الإرهاب على حياة المصلين والمجتمع المحيط.
ومع ذلك، كانت هناك جهود لإعادة الإعمار، العمال يجمعون الحجارة ويعيدون ترتيب الرخام، في محاولة لإعادة روح المكان، فكل زاوية تحمل قصة صمود، وكل حجر يُعاد ترتيبه يرمز إلى استمرارية الحياة وإصرار السكان على إعادة بناء مدينتهم رغم كل الدمار.
الأب جلال أخبرني بصراحة أن المسيحيين لم يعودوا للموصل كما كانوا، واكتفت كل عائلة أن يمثلها شخص، أما الآخرون فيأتون وهم يحملون ذاكرة عن أصوات لا تُنسى، وإن مهمته ليست فقط الحفاظ على المكان، بل استمرار وجود المكونات العراقية وكيف يقرؤون العالم من حولهم بطريقة لا تُعيد إنتاج العنف. ولكن حتى هذه الروح لم تسلم من العتاب، حيث استوقفتنا امرأة مسنة انهالت على الأب جلال بالعتاب، كون أعمال الترميم أثرت على جدران منزلها القديم، وما شاهدناه لم يكن سوى بضع نقاط من الصبغ انتقلت لجدران منزلها، ولم يكن الأمر سهلا لتركها إلا عندما تنتهي من حديثها، ومع ذلك استمرت فاضطررنا الانسحاب من المكان بينما هي استمرت بإلقاء اللوم.
الدكتور خالد العرداوي، المحلل السياسي، لاحظ ذلك معنا وأشار إلى أن التعايش لا يعني مجرد قبول الآخر، بل بناء مساحة مشتركة تُعيد للمدينة روحها، حيث يلتقي المسلم والمسيحي والصابئي والايزيدي وبقية المكونات على أساس التجربة الإنسانية الواحدة، بعيداً عن مظاهر الاستفزاز التي مزقت النسيج الاجتماعي في الماضي، وان ليالي التخلص من الإرهاب لها طعم مر، فهي إشارة لرحابة الأمن الموعود".
مأدبة السيدة نورة البجاري
المأدبة التي استضافتنا عليها السيدة نورة البجاري في منزلها، وهي شخصية موصلية وعضو مجلس نواب سابق – إبّان حقبة داعش – بدت وكأنها امتداد للمشهد الذي رأيناه في شوارع الموصل، فبينما كانت الجدران في الخارج مثقلة بصور المرشحين وشعارات القوى المتنافسة، إلا أن السيدة البجاري وعائلتها حملوا بداخلهم صورة أخرى للمدينة.
حدثتنا السيدة البجاري عن وقائع يومية، وكيف تنقلت الأسرة بعد احتلال داعش للموصل، وكيف عاد الناس إلى المدينة، وكان حديثها عملياً، يؤكد أن إعادة الحياة هنا تشتمل على فرص عمل، وبنية تحتية، وحلول لصمود العائلات، من دون أن يخلو من الإشارة إلى التحديات السياسية والدينية والخلافات المعتادة والصراعات على المدينة.
أما على المائدة فكان الطعام الموصلي مصقولاً بنكهة المكان المتوارثة، ورز محشو وكبة موصلية فريدة المذاق وحمص طازج وعصير الزبيب ذو النكهة الفريدة، وكأنها جميعاً تذكر بأن من شروط البقاء ليس فقط مواجهة السياسة وصراع القوى، بل أيضاً الحفاظ على اللحظات الصغيرة التي تعيد التناسق النفسي وتؤكد أن الحياة أقوى من كل ما يثقل جدران المدينة من شعارات وصور.
أقول بحزم: إن إعادة بناء الحجر وحده لا يكفي، وإننا بحاجة إلى بناء العدالة أولاً، وعدالة في توزيع الفرص، وعدالة في منح الموارد، وعدالة في تمثيل المجتمعات المحلية في القرار، وإن إعادة إعمار المباني دون إعادة إعمار القلوب والعقول سيجعل من هذه المباني متاحف لذكرى ما مضى، لا منازل لناس يعيشون حاضرهم ومستقبلهم، وهذا أيضاً هو جزء من حديث السيد البجاري.
حفظ الذاكرة المشتركة
قابلنا ناشطين محليين يعملون على جمع التراث في "بيتنا" وهي مؤسسة محلية صغيرة احتضنت تفاصيل المدينة بدءاً من الوثائق والمؤن وصولاً إلى صور شخصيات سياسية واجتماعية ودينية موصلية، وأوراق مكتوبة بخط قديم، وقطع من خزف صنعها أهل الحي قبل عقود وأزياء.
قدموا لنا عصير زبيب وكأن لعصير الزبيب حضورا مزدوجا في تلك الرحلة؛ مرة يطل علينا بارداً في "بيتنا" كتحية تراثية، ومرةً أخرى يرافق المائدة الموصلية كجزء أصيل من ذاكرة المكان، يتركان أثر حلو ولاذع في آنٍ واحد، وبمثابة جسر صغير بين الماضي والحاضر.
بينما كنا نتصفح الوثائق والقطع الأثرية، تحدثوا عن حاجتهم للتواصل وثقة المجتمع والدولة، كلامهم واضح: "لا نريد مشاريع مؤقتة تشيد جدراناً ثم تترك، بل نريد شراكات حقيقية مع مؤسسات تستطيع الصمود لفترات طويلة".
بيّن لنا المسؤولون أن الفكرة ليست فقط حفظ الأشياء، بل أن تجعلها منصة للمشاعر المشتركة، فهناك قصص عن فقد، وحكايات عن عودة، وإن تبرع أسرة بقطعة من أدواتها هو نقل لدرجة من العنونة والتحمل، وكأن أصحاب هذا التراث يقولون: "ها نحن هنا، ولم نترك ذاكرة أهلنا".
نبض محلي يعود للحياة
بدأ السوق القديم يستعيد نبضه من جديد، وكأن روحنا أحست بالحياة لحظة دخولنا إلى سوق الأسماك المميز، تمنيت حينها تذوق سمك الموصل الشهير، فيما تملأ التفاصيل المكان، بائع خضار ينادي على بضاعته، وآخر للفواكه يرتب ما لديه قرب الرصيف.. في ذلك المشهد بدا واضحاً كيف يمكن لاقتصاد بسيط أن يبعث الثقة من جديد بين الناس.
وفي حي آخر شاهدت شباباً يجتمعون في ملاعب كرة القدم، تحول المكان إلى فعل مجتمعي عندما قرر الشباب أن يمنحوا أنفسهم حقهم في ممارسة الرياضة.. هنا أدركت أن أي عملية إعادة إعمار مستدامة تبدأ بقرارات فردية وجماعية لملء الفراغ الذي تركته الحرب.
المشهد الأخير
في طريق العودة إلى كربلاء، كنت أعيد ترتيب ما عشته من صور المارة في الممرات الضيقة، ومعاناة النساء والأقليات، وصدى أجراس الكنائس.. وبقي السؤال معي: كيف يمكن بناء سلام حقيقي بعد غياب القصف، وبناء حياة كريمة يتقاسمها الجميع.
زيارة الموصل كشفت لنا حجم التحديات بعد سنوات من العنف وعن إرادة صمود أهلها في إعادة بناء مدينتهم وحياتهم، سواء في التعليم والاقتصاد المحلي والبنية، وصولاً إلى أدوات لإحياء الروح المجتمعية.
اللافت هو كيف يحول السكان الألم والذكريات الصادمة إلى دروس للأجيال، مدينة يمكن أن تصبح مساحة للتجربة الإنسانية، حيث التاريخ والثقافة والحياة اليومية تتقاطع مع الأمل في غد أفضل.
اضف تعليق