الإمام كان ينطلق من رؤية أن البشر متساوون في الخلقة فهو لا يفرق بينهم في المعاملة والحقوق على أساس اللون أو القومية أو الغنى والفقر وكلهم سواء أمام القانون ولم يستثنِ نفسه من الدستور عكس ما نراه اليوم في الحكومات من امتيازات وحصانات خاصة للرئيس أو الحاكم...

عقد مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث حلقته النقاشية الشهرية ضمن ملتقى النبأ الأسبوعي تحت عنوان (الحكم الرشيد وسياسات الرحمة في نهج الغدير)، شارك في الملتقى عدد من الكتاب والباحثين والأكاديميين.

وقدم الورقة واعدها الباحث في المركز محمد علاء الصافي:

إحتل مفهوم الحكم الرشيد حيزا واسعا من الاهتمام؛ كونه يمثل إستجابة واعدة لحاجة ملحة لإعادة النظر في دور الدولة وبنيتها المؤسساتية عبر التخفيف من مكانتها وسلطتها المركزية، بإعادة توزيع معظم أدوارها على مؤسسات وفاعلين جدد في مواجهة الإخفاقات والأزمات التي عانت منها من جراء تنامي الضغوط عليها مع ارتفاع معدلات الفقر والبطالة والفساد ومع تنامي الوعي والمطالبات المجتمعية بالحقوق والحريات والعدالة الاجتماعية، فجاء طرح مفهوم الحكم الرشيد في أروقة المنظمات الدولية نهاية الثمانينيات بوصفه خيارا ومنهجاً في الحكم والإدارة للارتقاء بقدرات الدولة لمواجهة مثل هذه التحديات على طريق تحقيق الإصلاح والتنمية الشاملة.

ولدى مراجعة الأدبيات السياسية تتضح لمفهوم الحكم الرشيد أبعادا تستجلي أهم ملامحه وأركانه ومزاياه، فهذا النوع من الحكم لا يعني تخفيف دور الدولة في تنظيم المصالح وتجميعها والتعبير عنها والرقابة عليها، بل يعني تغيير دورها على نحو فعال ورشيد عبر تحقيق نوعِ الشراكة بين الدولة والمجتمع المركونة إلى قاعدة حفظ التوازن النوعي في العلاقة التي تربط بين الطرفين؛ فهدف الحكم الرشيد إذن، هو تثبيت وتحديد القواعد الجديدة للعبة السياسة بمشاركة قطاعات المجتمع ضمن نسق يتناغم مع هيكل من القيم والممارسات التي تحظى بمقبولية عالمية.

في ذكرى عيد الغدير الأغر، ذلك اليوم الذي أكمل الله فيه الدين وأتم فيها النعمة، يوم تتويج وصي رسول الله (ص) بتاج الخلافة العظمى والإمامة الكبرى، نستذكر أهم نماذج القيادة الإسلامية الرشيدة الامام علي بن ابي طالب (ع).

في اليوم الثامن عشر من شهر ذي الحجة، وفي حجة الوداع لرسول الله (ص) في العام العاشر بعد الهجرة، جاء الأمر الإلهي المباشر الى النبي الأكرم بأن يعين علي بن أبي طالب خليفة من بعده، وهتف عالياً أمام حوالي مائتي ألف مسلم في تلك الظهيرة التاريخية الخالدة: "من كنت مولاه فهذا عليٌ مولاه، اللهم وال من والاه وعادِ من عاده وانصر من نصره واخذل من خذله"، فلما أتم الناس بيعتهم لأمير المؤمنين في الخيمة التي ضربها له رسول الله، نزلت الآية الكريمة:

، ويعني بوضوح أن اكتمال دين الانسان المسلم مشروط بولاية أمير المؤمنين الامام علي (عليه السلام)، فهذه مرحلة التأسيس التي يجب أن يكون فيها المعيار للحكم؛ الدين وليس المال والسلاح والتحالفات السياسية.

وهذا ما لم يفهمه المسلمون آنذاك نظراً للذهنية الجاهلية المتعمّقة لدى الكثيرين، فالحاكم المطاع هو ذلك المتوفر على شروط السلطة والهيمنة كما كان عليه حال أبناء أمية في مكة قبل الإسلام، فقد كانوا يمثلون القوة العسكرية والمالية، كما كانوا يجسدون الغدر، والفتك، والخيانة، والفجور، بينما كان حال أبناء هاشم، الكرم، والشجاعة، والنجدة، والفضيلة، فكانوا في قلوب الناس أجمعين.

كان على الإمام بعد توليه الخلافة بعد الانقلابات التي حصلت وتغيير الكثير من الأفكار والمنهج المغاير لمنهج الرسول (ص)، أن يغير البناء السياسي والتشكيلة الوزارية التي كانت من قبله. فاعتمد على عزل العناصر الفاسدة واستبدل مكانها اصحاب السمعة الجيدة في الوسط الاجتماعي والسياسي والذين كان لهم بعد ذلك دور كبير في دولته وحكومته أمثال مالك الاشتر وعمار بن ياسر وعبد الله بن عباس وغيرهم من الوجوه المعروفة بالورع والإيمان. ثم انه من الركائز الأخرى التي انتهجها هو عدم انفصاله عن الناس والجلوس لسماع مشاكلهم مع السلطة والموظفين مما يكون ذلك سبباً للمتابعة فضلاً عن وضع شرطة سرية ترصد حركات الموظفين والعمال الحكوميين مما يساعد الإمام على سياسة العزل والتنصيب وأيضا التأمين الاجتماعي للعاطلين والعاجزين عن العمل بحيث يصرف لهم من بيت المال راتباً شهرياً وانعاش الاقتصاد عبر نظام اقتصادي يتيح للفرد التملك ضمن سياسة إحياء الأراضي فكان الإمام علي(ع) يشجع على التنمية الاقتصادية والزراعية فضلاً عن إلغاء المحسوبية والرشوة والطرق الملتوية في نظام الحكم الجديد واعتماده على المساواة وإلغاء الحواجز العنصرية في سبيل مجتمع متكامل.

رغم المصاعب التي لاقاها من الناس وخذلانهم له إلا انه لم يكن سبباً في عدم الرأفة بهم والتودد إليهم، رغم دعائه بان يستبدله الله بغيرهم ويستبدلهم بغيره إلا انه كان مثالاً في كل الميادين سواء السياسية والاقتصادية والاجتماعية بل حتى مع المعارضة كما في معركة الجمل والخوارج حيث قادوا حملة عسكرية ضده متهمينه بقتل عثمان ورغم كل ذلك نجده يتعامل معهم بمنطق انساني بحت ولم يستخدم نفوذه السياسي عليهم فحاورهم والقى الحجج عليهم ولم يبدأ بقتالهم حتى بدأوا بقتاله وبعد انتصاره عليهم تجاوز عنهم وارجع عائشة مع اخيها في عدة من النساء. 

إن الإمام كان ينطلق من رؤية أن البشر متساوون في الخلقة فهو لا يفرق بينهم في المعاملة والحقوق على أساس اللون أو القومية أو الغنى والفقر وكلهم سواء أمام القانون ولم يستثنِ نفسه من الدستور عكس ما نراه اليوم في الحكومات من امتيازات وحصانات خاصة للرئيس أو الحاكم وحواشيهم، فهو يعتبر نفسه مسؤولاً أمام القانون في حالة تقصيره وعدم أدائه للحكم بصورة صحيحة بل يعتبر ذلك خيانة عظمى كما جاء في نهج البلاغة وعند اقتراح الناس عليه أن يميز في العطاء بين الكبير والصغير يقول (لو كان المال مالي لسوّيت بينهم فكيف والمال مال الله).

فهو يرى انه موظف مسؤول أمام أموال المسلمين وأنها مسؤولية مقدسة لا يمكن التفريط بها وأن التقصير خيانة وجريمة كبرى والحفاظ على أموال المسلمين واجب مقدس. والوثيقة التي بعثها الإمام علي(ع) إلى مالك الاشتر تشعرنا بأنه كان ناذراً نفسه لخدمة الشعب فيقول فيها (واشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم اكلهم فانهم صنفان أما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق، يفرط منهم الزلل وتعرض لهم العلل ويؤتى على ايديهم في العمد والخطأ فاعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب أن يعطيك الله من عفوه وصفحه فانك فوقهم ووالي الأمر عليك فوقك، ولا تنصبن نفسك لحرب الله فانه لا يَدَيْ لك بنقمته ولا غنى بك عن عفوه ورحمته)، في هذا المقطع من عهد الإمام(ع) لمالك الاشتر نجد معاني سامية وعظيمة قلما توجد في حاكم من الحكام. إن هذه الوثيقة هي اعلان عن حقوق الإنسان والمواطنة تجاه السلطة أو الحكومة بشكل عام واعطاء الحقوق للفرد تجاه الحاكم والحاكم تجاه الفرد وتحديد مسؤوليتهما تجاه الآخر وبهذا تحكي الوثيقة مدى العلاقة الإيجابية التي تربط الرعية بالحاكم والعكس وهذا عين ما نراه من الممارسة العملية التي كان الإمام يمارسها تجاه أفراد شعبه من الرأفة حتى مع الد اعداءه بل مع قاتله عبد الله بن ملجم. 

وكان يشارك الناس في طعامهم وشرابهم وكان يتفقد الأرامل والأيتام والمعوزين ليلاً حاملاً كيس الدقيق على ظهره وطائفاً بين الازقة ليتفقد من لا عهد له بالقرص ولا طمع له بالشبع كان يعطف عليهم كالأب على أولاده بل أكثر، وهم ربما لا يعرفون انه الخليفة ولكن كل ذلك من أجل أن يكون واقعياً في خطابه وكلماته وإيمانه بالله ورغم كل سلبيات الرعية وتقصيرها تجاهه إلا انه لم يكن سبباً ليحول دون الرأفة والرحمة بهم وإن رجلاً مثل الإمام علي ينزل من علياء سلطته إلى بيوتات الناس ليسأل عنهم وعن أحوالهم ويتفقد صغيرهم وكبيرهم حريٌ أن يكون قدوة ومثالاً لباقي الحكام ولكل الإنسانية.

يذكر المرجع الراحل السيد محمد الحسيني الشيرازي قدس سره في كتابه (نحن والامام علي (ع)): (أن أول فائدة في معرفة الإمام والاعتقاد به يعود للإنسان نفسه، فإن أمير المؤمنين كلما تَعرَّف عليه المجتمع البشري بشكل عام والمجتمع الإسلامي بشكل خاص كلما كان يعود بالنفع عليهم، وإن لم يكتسب هو من ذلك أيَّة منفعة لنفسه، كما أنه لا يضرُّه شيء حتى لو أساءت كل الدنيا إليه وهجرته.

فمعاوية عندما أخذ يسبُّ ويلعن علياً (ع) على المنابر وأمر بذلك جميع ولاته، لم يتضرر به الإمام أي ضرر، حيث أنه مستغنٍ عن مدحنا له على المنابر أو في المحافل العامة وإنما تضرر معاوية، وتضرر المسلمون، وتضررت البشرية جمعاء، وحتى الأجيال القادمة، (من تلك الفِعلة الشنيعة لمعاوية وبني أمية الطلقاء من أبناء الشجرة الملعونة في القرآن).

فالمسألة بالعكس تماماً، فنحن الذين ننتفع بمدحه ونستفيد من فضائله ومناقبه، ونتضرر إذا ابتعدنا عن نهجه وتكبّرنا عن الاقتداء به، ومن هنا قال رسول الله (ص): (ذِكْرُ عَلِيٍّ عِبَادَة)، فإن العبادة توجب التقرُّب إلى الله، وتكامل الإنسان وسعادته في الدنيا والآخرة، وهكذا يكون ذِكر علي فإنه يُوجب السعادة الدنيوية والأخروية.

وحتى اليوم والى يوم القيامة، الأمة في محنة هذه الأمانة الرسالية والسماوية، كيف تتعامل معها، حتى نعرف أننا حقّاً ممن يدّعي الاقتداء بأمير المؤمنين، ونكون من المؤمنين الحقيقيين الذين لا يحيدون عن منهجه، عليه السلام، ونحن نستذكر هذه الأيام المباركة والسعيدة، ذكرى يوم الغدير، ونعده العيد الأكبر، يجدر بنا أن نكون غديريين طوال أيام السنة، وما حيينا.

حاجة المسلمين في تلك الفترة الى العدل والحرية والمساواة وتحكيم القيم الدينية والاخلاقية، هي نفسها التي يظهرها مسلمو اليوم، ومنهم؛ الشيعة اتباع أمير المؤمنين الذين يعتقدون أن علّة كل المآسي والانحرافات والخسائر التي منيت بها الأمة منذ عهد رسول الله الى اليوم، في عدم الالتزام ببيعة الغدير، وإبعاد الإمام عن الحكم، والاعتقاد جزماً بأن "منهج الغدير" هو الامتداد الحقيقي لرسالة النبي ولقيم السماء، بمعنى اختزال كل قيم الخير لحياة الانسان –الشيعي وكل انسان في العالم- في هذا المنهج، وفي ظل حكم أمير المؤمنين، عليه السلام.

أين الحكام الحاليون من نهج ابن عم النبي الاكرم صلى الله عليه وآله، وخليفته من بعده، اذ نجد من يتولى زمام الأمور في هذه الأيام وكأنه لم يسمع بنهج علي سلام الله عليه، فنراه يبتعد الى اقصى درجة ممكنة، والاشد من ذلك انه يتبجح بانتمائه الى هذه المنظومة القيمية المتكاملة، وعلى العكس من ذلك تماما فهو لا يُجيد استخدام أي منها خدمة لرعيته، هذا التناقض العجيب بين ما نمتلك من تراث وتجربة في الحكم لا مثيل لها والانفصال التام عنها نحو منهج الظلم والفساد والاستبداد والحكم باسم امير المؤمنين وإدعاء السير على نهجه يستحق منا بذل الجهود لدراسته وعرض نتاج ذلك على الناس وتبرئة المنهج النبوي والعلوي من كل ما يلصق به من إتهامات وتشويه الصورة البيضاء الناصعة.

المطلوب من المتصديين للعمل السياسي وضع المنهج العلوي الخاص بإدارة الدولة امام اعينهم وعدم التغاضي مطلقا عنها، فلا نهضة اممية دون العودة الى قانونه المسنون منذ أربعة عشر قرنا، فان ما يجمل هذه القواعد هي انها سارية المفعول بمختلف الازمان، وصالحة للعمل والقياس مهما تغيرت الأنظمة وتعاقبت الحكومات، تبقى لها من المرونة ما يجعلها تتميز بفاعلية وحيوية على العكس من القوانين الأخرى التي سرعان ما تتآكل ويذهب مضمونها.

الأمة العربية والإسلامية بأنظمتها القائمة بحاجة الى تطعيم افكارها بالفكر النيّر لسيد البلغاء، منعا لحالات الظلم وإيقاف الحيف الذي لحق بالرعية، والعمل على تعزيزها بجميع المجالات، وأكثرها الحاحا التي على تماس مع حياة الشعوب المضطهدة.

هذا السؤال يدفعنا لسؤال آخر من واقعنا المعاصر؛ لماذا يجب أن نستسهل تحقيق العدل والحرية والمساواة والكرامة الانسانية في مجتمعاتنا الإسلامية وكل ما حمله هذا منهج أمير المؤمنين، في وقت نعلم أن المطالبين بها من الأوائل فشلوا في تفهّم المشروع، رغم حاجتهم اليه؟

تأسيساً على ما تقدم يمكن القول أن الحكم الرشيد لا يشير فقط لنوع معين للحكومة (الديمقراطية) ولكنه يتضمن أيضاً عدداً من العناصر والادوات الأخرى للنهوض بشؤون الحكم والادارة على نحو فاعل من امثال، (حكم القانون، والمساءلة، ومزيد من الرقابة، واللامركزية، ومكافحة الفساد وإصلاح الخدمة المدنية، وتطوير نظم المعلومات (الشفافية)، سواء لصانعي القرار، أو للجمهور، وهي ادوات ومثل تتكامل مع مقومات البناء الديمقراطي وترصنه.

وقد استدعى تناول الأبعاد السياسية للحكم الراشد الحديث عن دعم الديمقراطية، والتعددية، والانتخابات، وحقوق الإنسان (وحماية الأقليات) ومشاركة المرأة، مما جعل الحكم الرشيد يعني حزمة من الإصلاحات الدستورية والسياسية والإدارية، وأصبحت أجندة وكالات المساعدة الدولية تتبنى نفس تلك المبادئ، التي قامت عليها الديمقراطيات الغربية، وتسعى لفرضها وتعميمها كنمط عالمي على الدول المتلقية للمعونات.

وما تقدم يقودنا إلى تأكيد العلاقة التبادلية الوطيدة بين الحكم الرشيد والديمقراطية، فكما لايمكن اقامة الحكم الرشيد الا في ظل اجواء وقيم وأدوات ديمقراطية، فان هذه الاخيرة تحتاج إلى المزيد من ادوات الاصلاح المؤسسي والتنمية الانسانية لاستكمال مسيرتها وتحقيق اهدافها الانسانية وترسيخ جذورها المجتمعية.

المطلوب تحقيق عناصر القوة في الاقتصاد والتجارة أولاً، ومعالجة ظواهر مثل البطالة والفقر، ثم عناصر القوة في الثقافة، ومنها؛ الأمية والجهل والتبعية الفكرية، وتأصيل الافكار، وايجاد تطبيقات عملية لكل ما لدينا من مناهج وأنظمة وقوانين غديرية، ثم يأتي الحكم ونظرياته ليستقر على قاعدة رصينة من الولاء والالتزام ومستوى مطلوب من الفهم والاستيعاب لكل ما يتعلق بمنهج الغدير.

عندما يكون الغدير في القلوب الناصعة، وفي العقول الناضجة، والنفوس المطمئنة، نشهد تجليات هذا الغدير الذي يُعد بحق تحفة سماوية للعالمين، أما اذا كان في أروقة السياسة والسلطة والحكم فانه يسفر عمّا نعيشه اليوم من المساوئ والكوارث وكل ما يبعث في النفس على السلبية والكآبة واليأس المطبق، ولا نريد في القع الامعان في الواقع السلبي والتنظير له والخوض فيه مع وجود البدائل العظيمة ومنها؛ هذا الغدير العظيم، فارجوا ان نصل يوماً الى ضفاف هذا الغدير.

وبعد الورقة تم فتح باب النقاش من خلال طرح السؤالين الآتيين:

السؤال الاول: كيف قرأ الامام علي (ع) فشل اساليب البطش والأمن الصلب في تحقيق السلم الإجتماعي؟

 السؤال الثاني: كيف يمكن للحكومات أن تبني الاستقامة الاجتماعية من خلال نهج الغدير؟

المداخلات

مناهج ومواد تدريبية عن العمل السياسي والحكومي

- الباحث صلاح الجشعمي، مؤسسة مصباح الحسين:

قبل عهد امير المؤمنين علي بن ابي طالب (ع) كان هناك سياسات ترتبت عليها الكثير من المظاهر، المظهر الأول في عهد أبو بكر وسياسة ما يسمى بحروب الردة، لبسط نفوذ الدولة في تلك الفترة، ترتب عليه الكثير من الدماء وخلل اجتماعي كبير استمر لسنوات طويلة، بعد ذلك كان عهد عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان الذي تميز بسياسة الفتوحات والحروب واكتناز الأموال والطبقية بين الناس وتمكين الأقارب في المناصب، ترتب على اثر ذلك الكثير من المشاكل وثورة داخلية بسبب الفساد والمحسوبية انتهت بقتل عثمان بن عفان بسبب السياسة التي انتهجها.

استطاع الامام علي (ع) بعد ذلك ان يجمع هذه التناقضات، فجيش الامام والدولة كان كبيرا لكن لم يكن بالضرورة موالياً له، لكنهم مثلا كانوا بالضد من معاوية والشام وتركة تلك الحقبة السابقة فانضووا تحت لواءه، مثل القبائل العربية في العراق والخوارج وغيرهم.

اهتم الامام علي بالسياسة الداخلية للدولة من حيث تحسين الأوضاع الاقتصادية والتعليم والثقافة والأمور الشرعية والتنظيمية وتأسيس مبادئ الحكم الرشيد وتجميد السياسة الخارجية مع غير المسلمين ولم يهتم بها كثيرا، لذلك نحن اليوم بحاجة الى إقامة دورات للسياسيين الجدد والمرشحين السياسيين للحكومات المحلية ومجلس النواب وغيرها تدرس وتفهم كمناهج ومواد تدريبية عن العمل السياسي والحكومي للإمام ونهجه السياسي والمبادئ التي أسس لها وعمل بها حتى نحيي هذا النهج المبارك ونطبقه على ارض الواقع عملياً.

تصدير الفكرة

- الكاتب والاعلامي خليفة التميمي:

من الصعوبة نقل الفكر والنهج العلوي الى حكومات اليوم والمجتمعات الإسلامية، لأن نسبة الشيعة قياسا بالعالم الإسلامي قليلة مقارنة ببقية المذاهب الإسلامية، كما ان حكومات اليوم تنتهج نهج الفكر السياسي الغربي ولا بد من تقديم نموذج مقارب لحكومة الامام علي تقدم الأسلوب العملي والواقعي حتى نتمكن من تصدير الفكرة لبقية الشعوب.

الاستقامة الاجتماعية

- الدكتور خالد العرداوي، مركز الفرات للتنمية والدراسات الستراتيجية:

من المحزن بعد 1400 سنة ونحن نتحدث كيف حكم الامام علي وكيف كان نهجه وسيرته ونرى في الوقت نفسه بعض من يدعي الولاء كيف يمارسون الحكم وهم بعيدون جداً عن نهجه وحكمته.

هناك فجوة بين المنهج الديمقراطي والمنهج الإسلامي في الحكم اليوم، لو نظرنا لقضية الديمقراطية والأنظمة التي تتشح برداء المنهج الإسلامي على سبيل المثال السعودية وايران لوجدناها انها بعيدة تماما عن الديمقراطية.

على حكومات اليوم التحلي بالاستقامة أولاً، وطالما هي بعيدة عن الاستقامة فمن غير الممكن ان يكون هناك استقامة اجتماعية، نحتاج بشدة العمل ضمن الوسطية والاعتدال وابعاد الفاسدين والمنافقين والجهلة من التصدي لحكم الناس وتولية الاكفاء والمعتدلين لهذه الأمور. 

الامام علي (ع) اعطى القدسية للوظيفة والعمل وخدمة الناس لا قدسية الأشخاص وهذا ما نعمل عليه حالياً لكن بشكل معكوس تماماً، لذا نحن بحاجة ماسة اليوم لإعادة الأمور لموازينها الصحيحة، المؤسساتية وسيادة القانون وتحقيق العدل والعدالة للجميع.

سياسات الانصاف وتكافؤ الفرص

- الشيخ مرتضى معاش:

الحكم الرشيد يعني الحكم العقلاني في مقابل الحكم الغرائزي، على طول التاريخ ابتلينا بحكومات قائمة على غرائز الحكام وشغفهم الاعمى بالسلطة، وفرض الهيمنة والبطش والقمع والتحكم بمقدرات الناس وبناء القصور واشعال الحروب، نحن بحاجة ماسّة الى بناء الانسان الرشيد وتخليصه من هذه الامراض والغرائز وهذا هو الفكر والنهج العلوي، لا التي تسير على مبدأ الغاية تبرر الوسيلة.

الحكم الغرائزي يؤسس الى قيم فاسدة، النفاق والانتهازية والفساد، هذا الأسلوب من الحكم يقوم على استخدام الامن الصلب ضد الناس وقمعهم لأنه غير قادر على خدمتهم وحفظ كرامتهم، بالمقابل ان الحكم الرشيد يؤسس الى قيم صالحة أبرزها النزاهة والشفافية والامام علي عليه السلام عندما كان يمارس سياسات الرحمة هو كان يؤسس لهذه المبادئ التي يحتاجها المجتمع في كل زمان ومكان، وفي عهده الى مالك الاشتر وضع لنا منهج متكامل يؤسس لنظام حكم رشيد ومجتمع فاعل وصالح.

لدينا اليوم العديد من الدول التي تتخذ سياسات لينة وهادفة وتقلل الطبقية وتحقق نسبة عالية من العدالة وفيها قدر من الشفافية والنزاهة وتطبق العديد من مبادئ الحكم الرشيد مثل النرويج واليابان وأسست لقيم جيدة تؤدي الى تطور اجتماعي مستمر يؤدي الى تحقيق الاستقرار السياسي والاجتماعي والاقتصادي بنسبة جيدة.

كذلك نرى العديد من الدول في الشرق والغرب تذهب اكثر ميزانياتها الى التسليح والعسكرة وأجهزة الاستخبارات قد تصل أحيانا الى ثلاثة ارباع الميزانية، وكل ذلك من اجل التحكم بالشعوب وقمعها بينما يجب أن تكون للحكومات سياسات سليمة ومنصفة وعادلة وتحقق مبدأ تكافؤ الفرص لكي لا تخاف من شعوبها.

في عهده الى عامله على مصر مالك الاشتر يقول: (وَأَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ)، يعني اجبار النفس على الشعور باللين والرحمة حتى تستطبع ذلك في مقابل القسوة والقمع والتوحش، وهذا يتحقق من خلال اصلاح الجانب الطبقي وتحقيق العدالة ورفع مستوى الرضا عند الناس وتحقيق صلاح المجتمع. وهذا العهد فيه من النصوص والنهج العظيم، فيوصيه مقدمة لإشعار الرحمة في القلب: (فَلْيَكُنْ أَحَبَّ الذَّخَائِرِ إِلَيْكَ ذَخِيرَةُ الْعَمَلِ الصَّالِحِ فَامْلِكْ هَوَاكَ وَشُحَّ بِنَفْسِكَ عَمَّا لَا يَحِلُّ لَكَ فَإِنَّ الشُّحَّ بِالنَّفْسِ الْإِنْصَافُ مِنْهَا فِيمَا أَحَبَّتْ أَوْ كَرِهَتْ)، فتحقيق الانصاف في المجتمع يؤدي الى تحقيق تكافؤ الفرص وانتشار الرحمة بين الناس.

كما يصف الامام علي (ع) سيرة الرسول (ص) في الحكم بقوله: (سِيرَتُهُ الْقَصْدُ وَسُنَّتُهُ الرُّشْدُ وَكَلَامُهُ الْفَصْلُ وَحُكْمُهُ الْعَدْلُ...)، وهذا وصف عظيم لمعنى الحكم الرشيد الذي يحقق الانصاف والعدالة للناس. وبناء منهج إسلامي معتدل يركز على الانسان بأن له دور ووجود في الحياة، يحقق بناء الاستقامة والاعتدال والنهضة بالاقتصاد والادارة الجيدة وهذا النهج هو نهج الغدير وهو نهج اهل البيت عليهم السلام، حيث يتحقق التوازن بين صلاح الرعية وصلاح الحاكم.

ان تصاعد الشعبوية اليوم في معظم دول العالم وصعود أحزاب اليمين المتطرف سببه ان الناس تشعر انها غير ممثلة بصورة حقيقية والديمقراطية مجرد حبر على ورق، لاتحقق المساواة في فرص الحياة الكريمة.

أمة الظلم

- الأستاذ احمد جويد، مركز ادم للدفاع عن الحقوق والحريات:

البيئة في زمن الرسول والامام علي صلوات الله عليهم لم تكن مناسبة لاستيعاب الرسالة المحمدية والنهج العلوي، حيث ان منهجهم خفف سطوة المتجبرين والظالمين على الناس كما كان في زمن الجاهلية أو ما تبعهم من ذرية من بني أمية والحجاج وكل هذه النماذج التي ظلمت وقمعت الناس وكان لها وعاظ سلاطين تدعو لعدم الخروج على الحاكم الظالم. أمة كان الظلم فيها هو الأساس من اكل المال الحرام والربا ووأد البنات وغيرها الكثير. نهج أمير المؤمنين (ع) هو نفس نهج رسول الله (ص)، لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم.

الوعي والتعليم الجيد

- الكاتب علي حسين عبيد:

الامام علي (ع) تربى في المدرسة النبوية وترعرع في بيت النبوة وتعلم منها أدق تفاصيل الحياة وأعتمد على ما نهله من رسول الرحمة وأثرت في شخصيته ودوره القيادي في إدارة الدولة.

عدم استخدام العنف والقسوة في إدارة الدولة تحتاج عدة مقومات منها الوعي والتعليم الجيد والمساواة بين الناس والعدالة وكل هذه الأمور تساعد على تحقيق السلم الاجتماعي بين الناس وتحقق الاستقرار.

من المستغرب ان نتحدث عن همومنا وبلدنا وحكومتنا وطبقتنا السياسية التي في غالبها تدّعي انها قريبة من الامام علي (ع)، أو انها من اتباعه، لكنهم بعيدون اشد البعد عن نهجه وسيرته وتعامله مع الناس، لم نرى منهم كيف يطورون من اساليبهم ونهجهم وتصحيح اخطائهم وكيف يقودون الدولة.. السياسي اليوم شبه جاهل ولا يمتلكون الإمكانيات لإدارة الدولة.

دستور متكامل

- الدكتور خالد الاسدي:

الامام علي (ع) اصطدم مع أصحاب ما يسمى بالخدمة الجهادية وأصحاب الامتيازات وكبار الصحابة عندما قطع عنهم الامتيازات وحقق المساواة بين الجميع، لم يجامل على حساب مصلحة الامة والدين وهذا سبب له مشاكل كثيرة جداً وليومنا هذا معظم الناس لا تريد دولة العدل والمساواة التي لا تجامل أحد على حساب الحق.

الامام علي أراد إعادة تنظيم وترتيب المجتمع الا انهم لم يدركوا ذلك وما زال الغالبية لا يدرك نهجه، يقول في احدى خطبه: (وَإِنِّي لَعَالِمٌ بِمَا يُصْلِحُكُمْ وَيُقِيمُ أَوَدَكُمْ وَلَكِنِّي لَا أَرَى إِصْلَاحَكُمْ بِإِفْسَادِ نَفْسِي). ولقد علمت أن الذي يصلحكم هو السيف، وما كنت متحريا صلاحكم بفساد نفسي، ولكن سيسلط عليكم بعدي سلطان صعب.

عهد الامام الى مالك الاشتر هو دستور متكامل في إدارة الدولة والتعامل مع الشعب وهو يجب ان يكون المحرك الأول لكل سياسي ومسؤول في العالم.

ثقافة الرحمة والغدير

- الكاتب محمد علي جواد تقي:

ربط الغدير من وجهة نظر سياسية فقط قد يكون غير صحيح، الغدير هو قضية وموقف ديني اكثر مما هو سياسي والبيعة التي أرادها الله والرسول للامام علي كانت بنص ديني واضح.

الامام أراد محو أساليب البطش والقسوة في المجتمع والتي كانت تعتبر طبيعية ومعتادة لكن الحنين لزمن الجاهلة والقسوة والعنف كان اقوى وحتى اليوم في مجتمعاتنا نلاحظ الامر ذاته.

الدولة مسؤوليتها من خلال النظام التربوي والاعلام والقوانين هي من تشجع الناس على اخذ حقوقهم بالقانون وضمن المؤسسات الرسمية من خلال تفعيل أدوار جميع المؤسسات وحينها قد يعرف الناس ثقافة الرحمة والغدير.

دولة مثالية متكاملة

- الأستاذ عدنان الصالحي، مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية:

الحكومات هي افراز للمجتمعات وإن كانت المؤسسات الحكومية عليها تصحيح الكثير من الأخطاء لكن بالنتيجة هذه هي خيارات الناس، الامام علي (ع) هو نفس رسول الله يعرف جيداً كيف تبنى المجتمعات لكن هل مجتمعه تحمل ما أراده له؟

هو أراد بناء دولة مثالية متكاملة، أدوار الجميع مخصصة من الحقوق والواجبات وسجل اعتراضه حتى في أيام حكم أبو بكر وعمر وعثمان على العديد من السياسات الخاطئة مثل ما حدث في الفتوحات الإسلامية وغيرها ولا تبنى الدول بالقسوة والبطش فقط والا ستكون نهايتها وخيمة وهذا ما كان.

خلود المنهج

- الباحث حسن كاظم السباعي:

وردت فقرة في بداية عهد أمير المؤمنين عليه السلام إلى مالك الأشتر قال فيها عليه السلام: "ثم اعلم يا مالك أني قد وجهتك إلى بلاد قد جرت عليها دول قبلك من عدل وجور، وأن الناس ينظرون من أمورك في مثل ما كنت تنظر فيه من أمور الولاة قبلك، ويقولون فيك ما كنت تقول فيهم..".

من خلال هذه العبارات نستلهم أن أميرالمؤمنين(ع) كان ينظر إلى الفترة الزمنية التي سبقته حين استلامه للأمر وهي التي طالت ربع قرن من الزمن بعد رحيل رسول الله صلى الله عليه وآله، كما أنه أوصى مالك الأشتر أن يلاحظ الفترات السابقة التي كانت تحكم على مصر قبل أن يشرع بالحكم، فيضع التجربة الماضية نصب عينيه ولا يكرر ما يدعو إلى السخط وأبرزها أساليب البطش والأمن.

وإضافة إلى ذلك كان هو عليه السلام أول من وضع عبرة التجارب الماضية نصب عينيه وقام بإصلاح ما فسد من أمور.

وفي هذا الوادي يمكن ذكر بعض الأمثلة من سيرته العملية؛ فهو عليه السلام لم يجبر أحد على بيعته من رؤوس القوم كابن الخليفة الثاني، وذلك على عكس ما قام هو وصاحبه من شن الحروب التي تسمى بـ (الردة) وسبي النساء على كل من لم يدخل في طاعتهما. كما أنه واصل عطائه لمن أعلن معارضته ولم يمنعه من حقه الاجتماعي في إبداء (الرأي) وحتى غير (الرأي) من إساءة وإهانة وتجاوزات، ونموذج ذلك ما ورد في نهج البلاغة؛ أن أميرالمؤمنين عليه السلام كان جالسا مع أصحابه، فمرَّت امرأة جميلة، فرمقها القوم بأبصارهم، فقال الإمام: "إنَّ هذه الفحول طوامح، وإنَّ ذلك سبب هبابها، فمن وَجَدَ منكم في نفسه شيئا فليلامس امرأته، فإنّما هي امرأة كامرأة"، فقال: أحد الخوارج ـ وهو يعبّر عن إعجابه بهذه الكلمة ـ: "قاتله الله كافرا ما أفقهه!"، فوثب إليه القوم ليقتلوه، فقال الإمام: "رويدا، إنّما هو سبّ بسبّ، أو عفو عن ذنب". وذلك بالرغم من أن القانون والعرف قد أعطته حق العقوبة.

ومثال آخر ما ورد أيضا في نهج البلاغة حول سبي بني ناجية؛ وهم البغاة المرتدون الذين شهروا السيف في وجه أمير المؤمنين عليه السلام وتحالفوا مع أعدائه وهو في ذروة دفع الإعتداءات الداخلية، وحينما هرب مصقلة بن هبيرة الشيباني إلى معاوية، وكان قد ابتاع سبى بني ناجية من عامل أمير المؤمنين عليه السلام وأعتقه، فلما طالبه بالمال خاس به وهرب إلى الشام، فقال: قبح الله مصقلة! فعل فعل السادة، وفر فرار العبيد.."، وحينما تمكن من بني ناجية أشار إليه بعض أصحابه أن يرد الأسرى في الرق، قال عليه السلام: "ليس ذلك في القضاء بحق، فقد أُعتقوا، إذ أعتقهم الذي اشتراهم.."، مع أنه سلام الله عليه لم يستلم المال المتعارف عليه آنذاك، والسلطة القضائية قد منحت له حق المعاقبة. على عكس ما قام به من كان قبله من قتل الذراري بذنب الآباء!

والكثير من النماذج التي لا يسع المقام لإيرادها. فلو طبقناها على الوضع الراهن مع ما هو متعارف عليه من مفاهيم إنسانية، وأيضا مع التنازل عن الحقوق الفردية والفئوية للمصالح العامة لتقلصت النزاعات والصراعات والعداوات في مختلف المجالات ولتحقق السلم الاجتماعي.

ونموذج الغدير هو الرمز الأمثل حيث أنتج الصبر الطويل في قبال الحق المضيع، وفي نفس الوقت أثبت إمكانية الاستقامة والثبات على المبدأ رغم غلبة المناوئين لسنوات عجاف، ولذلك بقي هذا النهج خالدا بخلود التاريخ رغم محدودية الزمنية التي استغرقت حوالي أربعة أعوام من حكم صاحبه سلام الله عليه.

فشل الاساليب القمعية

- الأستاذ عباس الصباغ:

ثمة إرشيف طويل لفتى الاسلام الاول لايمكن اختصاره بهذه العجالة واقتضابه بكلمات محدودة المعنى فالحديث عن علي بن ابي طالب (ع) يفتح اكثر من افق بل الِافاق كلها فهو كالبحر يغترف منه الانسان ماشاء فحياته عليه السلام كلها آفاق رحبة يتيه فيها من يسبر غورها وقد لايصل الى مقصوده، فعلي بن ابي طالب(ع) اختصر بحياته تاريخ الرسالة الاسلامية وجوهرها ومعناها المحمدي الاصيل وهو كان التطبيق العملي لها. آفاق علي (ع) متعددة خاصة السياسية منها ويطيب لي ان الجَ احد هذه الافاق واطلّ عليها من كوة الاستكشاف وحب الفضول لرجل ملأ الدنيا وشغل التاريخ انه الافق الاجتماعي/ السياسي وفي وقت اصبح الحديث عن حقوق الانسان والعدالة الاجتماعية والمساواة ضربا من الخيال العلمي وترفا فكريا وفلسفة لا مكان لها في الواقع لكنها كانت واقع حال يومي عند علي بن ابي طالب ومنهج عمل ولو كان علي بن ابي طالب (ع) رجلا عاديا لمرّ عليه التاريخ مرور الكرام كنموذج للإنسان الانسان ولكن ان يكون على راس هرم لدولة تعادل رقعتها الجغرافية بمقاييس اليوم بأكثر من خمسين دولة تشكّل بالحسابات الجيوبولوتيكية والاهمية الجيوسياسية قلب العالم والعصب الحيوي للدولة الاسلامية فنرى من يتربع على "عرش" هذه الدولة يعيش في مستوى اجتماعي اقلّ من رعاياه بل هو افقرهم ويشير الى بطنه بعد ان شدها بحزام (صوّتى ماتشائين لا تشبعين حتى يشبع فقراء المسلمين)، وفي مضمار العدالة الاجتماعية يعطينا كذلك علي بن ابي طالب (ع) اعلى واكمل المبادئ ذات الامثلة العملية فضلا عن النظرية حيث يتطابق العمل مع التطبيق وتتساوق المبادئ والافكار مع الافعال والاعمال وينسجم المثال مع الواقع ونجد ان كل ذلك قد تطابق تطابقا كاملا في فكر وعمل علي بن ابي طالب (ع) الى حد اذهل كل متصفح لسيرته العظيمة بل وجعل ذلك التطابق من الصعب او المستحيل تكرار ذلك عند غيره فصارت عدالته الاجتماعية والسياسية بصمة انفرد بها وحده، ومن هذا التمهيد ممكن ان ننطلق الى رحاب علي بن ابي طالب(ع) الواسعة ومنه عدالته السياسية التي صارت مضربا للمثال ومنها نستقرئ فشل الاساليب القمعية التي مارسها حكام الجور لاسيما الذين حكموا الناس تحت لواء الاسلام والشريعة السمحاء فكان علي (ع) لوحده المثل الاعلى للحاكم الاسلامي العادل وماعداه هم نماذج شيطانية بديكور اسلامي وما حادثة منع الماء عنه وعن جيشه في صفين الا مثلا من امثلة لاتعد ولاتحصى عن اخلاق المعصوم كيف لا والامام علي هو راس العصمة وامام المعصومين (ع) فكان ان سمح لجيشه بان يسمح بتدفق المياه الى جيش عدوه الذي منعه بالامس وهذا المثل هو القمة في الرحمة والانسانية المتأتية عن الحكم الرشيد وليس هنالك مثل اعلى من علي (ع) في التعاطي مع الحكم الرشيد سوى معلمه واستاذه النبي الاكرم صلى الله عليه واله.

ولا اعتقد برأيي المتواضع ان توجد نخبة حاكمة تستطيع ان ترتقي الى مصاف العلو الذي كان عليه علي(ع) ولن يكون.

* مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث/2002–Ⓒ2024

http://shrsc.com

اضف تعليق