تنتج المؤسسات العسكرية، على مستوى العالم، كمّيات هائلة من غازات الدفئية. ولا يوجد من يعرف بالضبط مقدار ما تُصدِره، إذ تتراوح التقديرات في هذه المساحة بين 1٪ و5٪ من إجمالي الانبعاثات العالمية، وهو ما يضارع قطاعَي الطيران والشحن (إذ تصل انبعاثات كل منهما 2٪). بَيْدَ أن المؤسسات العسكرية ظلت بدرجة كبيرة بمنأى عن إجراءات الإبلاغ عن الانبعاثات...
بقلم: محمد علي رجائي فر، وأوليفر بيلشر، وستيوارت باركنسون، وبنجامين نيمارك، ودوج فاير، وكيرستي أشورث، وروبن لاربي، وأوليفر هايدريش
تنتج المؤسسات العسكرية، على مستوى العالم، كمّيات هائلة من غازات الدفئية. ولا يوجد من يعرف بالضبط مقدار ما تُصدِره، إذ تتراوح التقديرات في هذه المساحة بين 1٪ و5٪ من إجمالي الانبعاثات العالمية، وهو ما يضارع قطاعَي الطيران والشحن (إذ تصل انبعاثات كل منهما 2٪). بَيْدَ أن المؤسسات العسكرية ظلت بدرجة كبيرة بمنأى عن إجراءات الإبلاغ عن الانبعاثات. وينبغي لهذا الوضع أن يتغير الآن، وإلا فإن تدابير التخفيف من حدة الإنبعاثات قد تصبح ضربًا من ضروب التَّخمين1.
يحتل الجيش الأمريكي، على سبيل المثال، المركز الأول بين جيوش العالم من حيث الإنفاق. وإذا تعاملنا مع القوات الأمريكية بوصفها دولةً مستقلة بذاتها، فإنها ستسجل النسبة الأعلى من الانبعاثات لكل فرد من أفرادها بين دول العالم بأسره، بقيمة 42 طنًا متريًا من مكافئ ثاني أكسيد الكربون (CO2eq) لكل مواطن من مواطني هذه الدولة الافتراضية. ولكل مئة ميل بحريّ طيران، ينبعث من الطائرة النفاثة المقاتلة من طراز «F-35» التابعة لسلاح الجو الأمريكي قدر من ثاني أكسيد الكربون (2.3 طنًا متريًّا من مكافئ ثاني أكسيد الكربون)2 يعادل متوسط ما ينبعث من قيادة سيارة إنجليزية تعمل بالبنزين لمدة عام كامل. وفي كل عام، ينتج عن استخدام الجيش الأمريكي وحده لوقود المحركات النفاثة انبعاثات تعادل ستة ملايين سيارة ركاب أمريكية2.
لماذا تتجنّب التقارير الواردة من «الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغيُّر المناخ» (انظر go.nature.com/3ssar) ومؤتمرات قمم الأمم المتحدة المعنية بالمناخ (انظر go.nature.com/3gag5) الحديثَ مباشرةً عن الانبعاثات العسكرية؟ الإجابة المختصرة هي الجوانب السياسية بالطبع، إلى جانب الافتقار إلى الخبرة الفنية اللازمة. فخلال مفاوضات بروتوكول كيوتو لعام 1997، حشد مندوبو الولايات المتحدة أنفسهم من أجل الضغط لاستثناء القوات المسلحة من متطلبات الإبلاغ عن حجم إصدارات غازات الدفيئة، لاعتبارات تتعلق بالأمن القومي. وقد أصبح ذلك التوجه أمرًا واقعًا مستمرًا، رغم أن هذه الحجة لم تعد صالحة، فالأساليب متاحة الآن لحساب الانبعاثات على طول سلاسل التوريد العالمية، دون مساس بحقوق الملكية الفكرية أو الكشف عن معلومات ذات حساسية خاصة.
ومع انعدام وجود حالة من التوافق الدولي حيال المساءلة أو متطلبات التبليغ أو القيادة، أو حتى الإرادة لاتخاذ تدابير عملية، فإن مراقبة الانبعاثات العسكرية، وخفضها، تقبع في موقعٍ متدنٍ من سلم الأولويات. فعدد محدود من القوات المسلحة، من بينها قوات المملكة المتحدة (انظر go.nature.com/3zl8e) والولايات المتحدة (انظر go.nature.com/3sdrf)، هي التي قررتْ نشر وثائق استراتيجية بشأن الأعمال المتصلة بالمناخ. ولو نظرنا إلى الدول السبع والعشرين الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، فإننا لن نجد سوى عشرة جيوش فحسب، هي التي انتبهت إلى الحاجة الماسة للتخفيف من حجم إنتاج غازات الدفيئة، وسبع دول منها فقط هي التي وضعت أهدافًا واضحة.
وفي السياق نفسه، نلاحظ حالة افتقار فادح في المنهجيات الدقيقة التي تحسب انبعاثات الدفيئة الناتجة عن الأنشطة العسكرية. وبالنسبة إلى أي مؤسسة أعمال كبيرة، فالوصول إلى نسب الانبعاثات الصادرة من المواقع العسكرية الدائمة، ومن استخدام وسائل النقل الروتينية، هو أمر بسيط بالفعل، لكن تسجيل الانبعاثات يكاد يكون مستحيلًا في المواقع المُعرّضة لأعمال عدائية، أو تلك التي تكون سريعة التغيُّر أو في حالة غير آمنة. أضف إلى ذلك أن الافتقار إلى البيانات المنشورة يجعل من الصعب تقدير إجمالي الانبعاثات العسكرية3.
ما ينبغي علينا فعله هو وضع الانبعاثات العسكرية على جدول الأعمال العالمي، إذ لا بد من الاعتراف بها رسميًّا، والإبلاغ عنها بدقة في قوائم الجرد الوطنية، كما يلزم إزالة الكربون من العمليات العسكرية. الأمر الذي يتطلب أكثر من مجرد «تخضير» البنية التحتية العسكرية أو المعدات، أو جعلها أقل ضررًا للبيئة وأكثر استدامة. يقتضي هذا بذل جهود متضافرة لتقليل الإنفاق العسكري على البرامج والمعدات كثيفة الانبعاثات الكربونية. وينبغي على الباحثين وضع أُطُر تتسم بالشفافية للإبلاغ عن الانبعاثات ذات الطابع العسكري، كما يجب عليهم الوقوف على الثغرات الكامنة في البيانات. ويمثل «مؤتمر الأمم المتحدة للأطراف المعني بتغيُّر المناخ لعام 2022»، اختصارًا «كوب 27» (COP 27)، الذي انعقد في مدينة شرم الشيخ بمصر، ومؤتمر 2023 الذي من المقرر عقده في مدينة دبي بالإمارات العربية المتحدة، اختصارًا «كوب 28» (COP 28)، فرصتين لإضفاء الطابع الرسمي على هذا التغيير.
انبعاثات غير محسوبة
يمكننا وصف عملية الإبلاغ عن الانبعاثات العسكرية التي توجبها «اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغيُّر المناخ» (UNFCCC) بأنها منقوصة وغير واضحة وغير متسقة (انظر go.nature.com/3eyzi). وصحيح أنه قد جرى تبادل بعض البيانات حول الانبعاثات المباشرة الناتجة عن استهلاك الوقود وتشغيل المرافق والطاقة المُستهلَكة، إلا أن بيانات الانبعاثات غير المباشرة على امتداد سلاسل التوريد لا تزال غائبة تمامًا حتى الآن، بل وفي غالب الأحيان تكون حسابات الانبعاثات معيبة (أي أن بها مواطن خلل حقيقية). وأحيانًا لا تُطرح بعض الأرقام على حقيقتها، أي بوصفها عسكرية المصدر، وبدلًا من ذلك يجري تصنيفها ضمن فئات أوسع نطاقًا، مثل المباني والخدمات العامة أو الطيران العام أو الشحن.
في تلك المساحة، تمتلك المملكة المتحدة واحدًا من أفضل السجلات من حيث الإبلاغ عن انبعاثات الكربون الناتج عن القوات المسلحة. ومنذ عام 2012، نُشرت بيانات عن الانبعاثات المباشرة في ملاحق تقارير وزارة الدفاع البريطانية. ومنها نعرف أنه في عام 2018، على سبيل المثال، أطلقت القوات البريطانية نحو 2.7 مليون طن متري من مكافئ ثاني أكسيد الكربون (مرجع 44)، ما يعادل تقريبًا ما تطلقه 1.5 مليون سيارة من انبعاثات في بريطانيا.
بَيْدَ أنَّه بالنظر إلى الأرقام التي أُبلِغَت بها «اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغيُّر المناخ» في عام 2019، تبيَّن أن 64٪ لا غير من انبعاثات وزارة الدفاع المُعلَنة صراحةً تعود إلى القوات المسلحة، وهي تلك التي ترتبط بالطائرات العسكرية والسفن البحرية. ومن غير الواضح كيف جرى الإبلاغ عن الانبعاثات الناتجة عن القواعد العسكرية والمركبات الأرضية. ومن المحتمل أن يسهم إجراء مزيد من البحوث في التحقق مما إذا كانت هذه الانبعاثات مُدرَجة ضمن الفئات المدنية. لكن من غير الواضح أيضًا ما إذا كانت جميع أنواع وقود الصهاريج المُستخدَمة في النقل العسكري الدولي قد تم تضمينها أم سقطتْ من الحسابات.
مع وضع ذلك في الاعتبار، فإن هناك بلدانًا أخرى قد تكون عمليات الإبلاغ عن الانبعاثات فيها أكثر عشوائية من ذلك. ففي الولايات المتحدة، توجد سجلات للانبعاثات العسكرية المباشرة في جميع وزارات الحكومة، وفي كثير من الأحيان تتسم هذه السجلات بالغموض بسبب «مخاوف الأمن القومي». ويشير أحد التقديرات إلى أن أنشطة وزارة الدفاع الأمريكية (DOD)، التي تشمل جميع فروع القوات المسلحة الأمريكية وموظفي الدعم التابعين لها من المدنيين، قد أطلقتْ 55.4 مليون طن متري من مكافئ ثاني أكسيد الكربون، في عام 2018 (انظر go.nature.com/3waw9)، ما يعادل تقريبًا انبعاثات 12 مليون سيارة أمريكية. وتتجاوز انبعاثات غازات الدفيئة الصادرة عن الجيش الأمريكي تلك الصادرة عن العديد من البلدان، مثل سويسرا وغانا ونيوزيلندا. ولو تعاملنا مع وزارة الدفاع الأمريكية بوصفها دولة افتراضية مستقلة، فستكون في المرتبة الرابعة والخمسين في ترتيب الدول الأعلى إصدارًا للانبعاثات على مستوى العالم.
وبالانتقال إلى الدول الأخرى التي تمتلك قوات مسلحة كبيرة الحجم، فسنجد أن البيانات المتوفرة لدينا شحيحة. وتشمل هذه الدول روسيا، التي تخوض حربًا في الوقت الحالي مع أوكرانيا، والصين والهند، اللتين تمتلكان عددًا من الأفراد العسكريين العاملين أكبر من الولايات المتحدة. ويُمكِننا تَوقُّع حدوث نمو سريع لأكبر قوة عسكرية التي تمتلكها الصين وقوامها مليونا فرد عامل؛ ففي وقت سابق، أعلن الرئيس شي جين بينج أن بلاده تعتزم امتلاك "جيش عالمي المستوى" بحلول عام 2049.
وهناك بلدان أخرى، مثل بيرو وإندونيسيا وجنوب إفريقيا، لا يوجد ما يُلزمها بالإبلاغ عما تصدره من انبعاثات في البلاد بصفة سنوية، لأن الالتزامات المفروضة بموجب «اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغيُّر المناخ» تتباين وفقًا لمستويات التنمية الاقتصادية. ونظرًا لأن الاقتصادات الناشئة في غالب الأحيان تُنتج انبعاثات كربونية كثيفة، فمن المحتمل أن تكون انبعاثاتها العسكرية أكثر جسامة من تلك التي نعرفها أو يمكننا تقديرها.
وبالنظر إلى تحليلات استهلاك الوقود الأحفوري، يمكننا ملاحظة أن ما يصدر عن جيوش العالم من انبعاثات قد يصل إلى قيمة تتراوح بين 0.45 مليار و2.2 مليار طن متري من مكافئ ثاني أكسيد الكربون سنويًا5. بل ويحتمل أن يكون الإجمالي الحقيقي أعلى من ذلك؛ فوضع الانبعاثات الأخرى الناتجة عن إمدادات الطاقة والمواد الخام وسلاسل التوريد وتصنيع المعدات في الاعتبار، من شأنه أن يُزيد تلك التقديرات إلى ثلاثة أمثالها6. وربما تضيف الانبعاثات الناتجة عن الحرب مزيدًا من الانبعاثات، لكن سيكون من الصعب قياسها. وبحسب بعض التقديرات، فمن المحتمل أن استهلاك الوقود خلال حرب العراق قد أطلق أكثر من 250 مليون طن متري من مكافئ ثاني أكسيد الكربون، في الفترة بين عامي 2003 و2011، أي أكثر من الانبعاثات السنوية الصادرة من العديد من البلدان5.
التعقُّب والتَّبليغ
لم تُنشَر حتى الآن أي منهجيات لتعقب الانبعاثات، سواء في القواعد العسكرية أو في مناطق الصراع. وجدير بالذكر أن منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) تعمل على استحداث هذا الإطار لأعضائها، ولكن لا يُعرف إلا القليل عن منهجية هذا الإطار وتماسكه وقابليته للتطبيق7. ومن المتوقع أن انبعاثات سلاسل التوريد أو الانبعاثات الناتجة عن النزاعات المسلحة ستمر دون دراسة متمعّنة.
ثمة حاجة حقيقية لوجود منهجيةٍ موحدة، جنبًا إلى جنب مع إطار تقييم شامل، ترصد انبعاثات غازات الدفيئة، ويشمل ذلك تلك الكامنة في المنتجات على امتداد دورات حياتها. ورغم أن بالإمكان فهم الكثير من قطاعات الصناعة الأخرى، فإنه من الواجب مراعاة البيئات والظروف العسكرية على وجه التحديد.
توجد ثغرتان رئيسيتان هنا: أولًا، ينبغي أن تشتمل البصمة اليومية للجيوش نفسها على الانبعاثات المرتبطة بإدارة القواعد والعقارات، من توفير البنية التحتية والأسمنت والمواد الغذائية؛ لإطعام القوات وإيوائها. وثانيًا، هناك حاجة ماسة إلى تقدير آثار الأضرار التي تلحق بالبنية التحتية، وتغيُّرات استخدام الأراضي، والتحولات الاجتماعية والاقتصادية، وإعادة الإعمار والتعافي بعد الحرب8. وعلى الرغم من التقدم المُحرز على امتداد عقدين من الزمن في توثيق الأبعاد البيئية للنزاعات المسلحة، فإن الجهود المبذولة لحساب هذه الانبعاثات لا تزال في مهدها.
وقد استرعت الحرب الروسية في أوكرانيا الانتباهَ من جديد إلى دور الوقود الأحفوري في تمويل الصراعات، بوصفه هدفًا للإكراه السياسي، وأداةً من أدواته كذلك. وتعمل الحكومة الأوكرانية على حساب التكاليف المالية والبيئية لتأثير الصراع على المناخ، وهي المرة الأولى التي تقرر فيها أي دولة متأثرة بالصراع أن ترصد هذا الأمر، وقد كان من المُرجّح أن يثار ذلك الموضوع في مؤتمر «كوب 27».
وبالنظر إلى ميادين الأبحاث التي تحتاج إلى الاستثمار، فإننا نجد أنها تنطوي على إيجاد طرق للتحقق بشكل مستقل مِن تولي أطراف ثالثة لحساب الانبعاثات العسكرية، ومن بين هذه الأطراف الأكاديميون وجماعات المجتمع المدني، مع الحرص على عدم المساس بالأمن القومي. وسيساعد تقسيم الانبعاثات، بحسب قطاعات التكنولوجيا، في تحديد أولويات الإجراءات والأهداف. ومن العوامل الأساسية فعلًا إجراء دراسات حول جدوى اعتماد تقنيات منخفضة الانبعاثات الكربونية. وقد يكون من المفيد تبني برنامج ينشئ رمزًا شريطيًا، يمكن مسحه ضوئيًا، للكشف عن بيانات انبعاثات المُنتَج، وهو ما يُستخدَم فعلًا في القطاع الخاص لتعقُّب الانبعاثات عبر سلسلة التوريد، في مبادرات الأغذية والزراعة على سبيل المثال. وبوسع هذه البيانات أن توجه الإعلانات الخاصة بالانبعاثات، سواء تلك الناتجة عن العمليات أو المنتجات أو الخدمات9.
عمليات إزالة الكربون
بمجرد وضع آليات للتبليغ، يجب وضع تقييم لخطط إزالة الكربون من القطاع العسكري ثم إدخال تحسينات على هذه الخطط. وسوف تحتاج القوات المسلحة إلى دعم الباحثين لتنفيذ ذلك بفاعلية. وأحد التحديات الرئيسية في هذه المساحة هو "حصر" الانبعاثات. فالانبعاثات الخارجة من المعدات العسكرية مُثَبَّتة لعقود، نتيجة لطول عمليات الشراء والعمر الافتراضي. فعلى سبيل المثال، دخلت الطائرات المقاتلة من طراز «F-16» الخدمة مع القوات الجوية الأمريكية عام 1979، ولن يحين موعد خروجها من الخدمة حتى عام 2040 تقريبًا. ورغم وجود مقترحات قُدِّمَت للتحول إلى المركبات البرية الكهربائية، وترويج استخدام الوقود الاصطناعي في الطيران10، فإن استخدام الوقود الأحفوري في القوات المسلحة على مستوى العالم سوف يواصل الارتفاع لسنوات عديدة قادمة.
من الضروري خلاف ذلك أن تصبح السفن الحربية، والطائرات المقاتلة، والمركبات الأرضية، أكثر كفاءةً في استهلاك الوقود، وأن تستفيد من مصادر الطاقة المتجددة. وفيما يتعلق بأعمال الاستطلاع، ينبغي الاستعانة بمركبات خفيفة الوزن، مثل الطائرات بدون طيار، وبيانات الأقمار الصناعية في أغلب الأحيان. ومن الضروري أن تصبح المصفوفات الشمسية الفوتوفولطية والمركبات الكهربائية هي العرف السائد في القواعد العسكرية. وتعمل وزارة دفاع المملكة المتحدة، ومخطط الأفكار الخاص بصندوق الابتكار الدفاعي التابع لها، ويعرف بـ«مختبر فيتال ليفينج» ViTAL Living Lab، على تطوير الطاقة الشمسية، والطاقة الحرارية الأرضية، والهيدروجين، والطاقة الكهربائية، ثم تسخيرها لاستخدامها في قاعدة «ليمينج» التابعة لسلاح الجو الملكي بوصفه منصة اختبار مناسبة.
تمثل الآثار المتعلقة بدورة الحياة والمواد الخام اللازمة صندوقًا أسود من نوع آخر، فهي لا تزال مساحة يكتنفها الغموض. ومن المحتمل أن تكون هناك عواقب غير مخطط لها عند تحولنا إلى استخدام تقنيات بديلة. ففيما يخص بعض التقنيات، مثل بطاريات أيونات الليثيوم، يلزم وجود كميات كبيرة من الطاقة، ومن ثم، الانبعاثات اللاحقة، في سلسلة التوريد. وقد يؤدي استخدام تقنيات جديدة إلى زيادة الاعتماد على المواد الخام النادرة، مثل الكوبالت أو الأنتيمون.
وفي زمن الحرب، قد تختلف المواد المطلوبة عن تلك اللازم وجودها في البيئات المدنية اليومية. فعلى سبيل المثال، تدعونا الحاجة إلى توجيه مزيد من الاستثمارات البحثيّة للوصول إلى مواد منخفضة الانبعاثات الكربونية ذات خصائص قوية مضادة للانفجار، بديلة عن الخرسانة. وقد يعود الابتكار العسكري ببعض الفوائد على القطاع المدني أيضًا، مثل اكتشاف مواد بناء جديدة، أو تطوير خلايا الفوتوفولطية، ومصادر طاقة جديدة، يمكن استخدامها مؤقتًا في الأماكن التي لا تتوافر فيها الطاقة، مثلما هو الحال مع عمليات الإغاثة في حالات الكوارث.
تحتاج القواعد العسكرية كذلك إلى التعامل مع الظواهر المناخية الحادة، مثل الفيضانات الناجمة عن العواصف، والرياح، والحرائق الهائلة، والجفاف. وتشرف وزارة الدفاع الأمريكية على ما يزيد عن 1700 منشأة عسكرية دولية، تقع على السواحل التي يحتمل أن تكون عُرضة للتأثر بارتفاع مستوى سطح البحر، حسب البيانات التي أصدرتها خدمة أبحاث الكونجرس. كما خلصتْ دراسة استقصائية إدارية (انظر go.nature.com/3uzh7) أُجريَت عام 2019 على 79 منشأة عسكرية، إلى أن حوالي ثلثي هذه المنشآت معرضة للخطر نتيجة لتكرار الفيضانات، وأن نصفها يواجه تهديدات من الجفاف أو حرائق الغابات.
يحتاج كل هذا منا إلى تطوير ما هو أبعد من الخطط، أو الانخراط في مناقشات رفيعة المستوى، من التي تشكل أحد أجزاء الجهود الدبلوماسية، أو إبرام معاهدات الحد من الأسلحة، وغيرها من تدابير منع الصراع. فالتحسينات الأمنية العالمية تؤدي، بشكل حاسم، إلى خفض الإنفاق العسكري الدولي والانبعاثات المرتبطة به.، مثلما حدث، على سبيل المثال، في أعقاب نهاية الحرب الباردة حيث انخفضت الانبعاثات العسكرية في أنحاء الدول الأعضاء بمنظمة حلف شمال الأطلسي والكتلة السوفيتية بصورة ملحوظة بين عامي 1991 و2000. وانخفض إجمالي الانبعاثات العسكرية الأمريكية بنسبة 44٪ (مرجع 22).
الخطوات التَّالية
أولًا، ينبغي إخضاع الجيوش في جميع أنحاء العالم للمساءلة. فصحيح أن التعهدات الوطنية بالوصول إلى صافي انبعاثات صفري قد أدت إلى تضافر الجهود في بعض البلدان، إلا أنه يجب الاتفاق على المعايير والالتزامات الدولية. وتعتبر «اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغيُّر المناخ» المحفلَ الأنسب لتلك المناقشات، ويجب أن تعزز ما قدمته من بروتوكولات للتبليغ، وأن تُدخِل إصلاحات تشمل الجيوش. كما أن مؤتمر الأطراف «كوب 27» و«كوب 28» يمثلان فرصة ممتازة لتلك الدول التي شاركتْ بالفعل في وضع جدول أعمال الانبعاثات العسكرية، مثل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، لإظهار دور قيادي رائد. ومن الضروري أن ينادي الباحثون بوضع معايير مشتركة للمساءلة والإبلاغ عن الانبعاثات العسكرية والحد منها، وينبغي أن تتسم هذه المعايير بالشفافية، وأن تكون مقيَّدةً بإطار زمني وقابلةً للقياس.
ثانيًا، يجب على الجيوش تحسين قدرتها على حساب الانبعاثات وإدارتها والحد منها، وكذلك تدريب الأفراد على فعل ذلك. إذ يجب على الباحثين تنسيق العمل مع القوات المسلحة لتبادُل المعارف وتحديد أفضل الممارسات المكتسبة من القطاع المدني، وكذلك المساعدة في وضع بروتوكولات للانبعاثات العسكرية، واستخدام أو شراء معدات منخفضة الانبعاثات الكربونية.
ثالثًا، يحتاج الباحثون إلى توثيق مدى تأثير النزاعات المسلحة على المناخ والمجتمع، وفهم هذا التأثير. هذه ديناميكية معقدة، لكنها ضرورية للوقوف على مسارات التعافي منخفضة الانبعاثات الكربونية للبلدان المتورطة في النزاعات، مثل أوكرانيا، وكذلك لفهم التكاليف طويلة المدى للنزاع المسلح. وختامًا: فالبحث العلمي المستقل هو أمر بالغ الأهمية، في محاولاتنا إخضاع الجيوش للمساءلة، وإلزامها بالتعهدات المقطوعة بموجب «اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغيُّر المناخ». ومن الواضح أن هناك حاجة مُلِحّة لمنح الباحثين دعمًا يجرون به تحليلات مستقلة، ويقدمون حلولًا قائمة على الأدلة. يجب على القوات المسلحة، في كل مكان من العالم، العمل جنبًا إلى جنب مع الأوساط الأكاديمية والصناعية بغرض إيجاد وسيلة مفهومة، على مستويات واسعة، ويمكن التحقق منها، لمراقبة الانبعاثات التي تصدرها هذه الجهات.
اضف تعليق