تُسلِّط الحرب التي شنَّتها روسيا على أوكرانيا الضوءَ على مدى هشاشة نظام إمداد الغذاء العالمي، ولا بدّ من ضخّ استثمارات مُستدامة لتوفير الغذاء للعالم في ظل التغيُّر المناخي المستمر، وقد أدَّى الغزو الروسي لأوكرانيا من بين جُملة ما أسفر عنه، إلى نشوء اضطرابات في إمدادات الغذاء العالمية على المدى القصير والمتوسط والطويل...
بقلم: أليسون بنتلي
تقبع ستة صناديق من بذور القمح في مخزن التبريد لدينا. وعلى مدار عشر سنوات، تُعدّ هذه المرة الأولى التي يتعذَّر فيها على فريقي إرسال البلازما الجرثومية المُحسَّنة لهذا المحصول إلى أوكرانيا، وهي بذور طوَّرناها في إطار برنامج القمح العالمي في المركز الدولي لتحسين الذرة والقمح في تيكسكوكو بالمكسيك، إذ عُلِّقت خدمات الشحن ونقل البريد الدولية إلى أوكرانيا، التي تعصف بها الآن حرب مدمرة، بعد أن كانت إنتاجيتها من غلات هذه البذور قد شهدت تزايدًا عامًا بعد عام.
تستند أبحاثي أنا وفريقي إلى الإرث الذي خلَّفه نورمان بورلوج، الذي كان سببًا في قيام الثورة الخضراء، ودرء المجاعات عن جنوب آسيا في سبعينيات القرن الماضي. وبفضله، أدركت كيف يمكن لحبة القمح أن تؤثر في العالم.
وقد أدَّى الغزو الروسي لأوكرانيا من بين جُملة ما أسفر عنه، إلى نشوء اضطرابات في إمدادات الغذاء العالمية على المدى القصير والمتوسط والطويل. ويُذكر أن أوكرانيا وروسيا تبلغ حصتهما من صادرات القمح العالمية الثُلث (كما يفرزان تقريبًا ثُلث الإنتاج العالمي من الشعير وخُمس إنتاجه من الذرة، وهو ما يوفِّر نسبة قوامها تقريبًا 11% من السُعرات الحرارية المستهلَكة في العالم). على سبيل المثال، يحصل لبنان على 80% من احتياجات القمح من أوكرانيا وحدها.
"هذه المشكلة ليست متعلقة بالمحاصيل التي تُركت في الحقول المُعرَّضة للقصف فحسب، ولكنها تضرب بجذورها إلى أسباب أبعد وأعمق كثيرًا".
وقد قفزت أسعار القمح بالفعل إلى مستويات غير مسبوقة. ولا يزال مصير ما يقرب من 6 ملايين هكتار من الحقول المزروعة به في أوكرانيا مجهولًا. فهل ستُدار، وتُوفر لهذه الحقول الاستثمارات اللازمة لضمان حصاد وفير؟ وهل سيصل هذا المحصول الصيفي إلى الأسواق المحلية وأسواق التصدير؟ يُرجَّح أن هذه الصورة ستزداد قتامة في ظل ارتفاع تكاليف الاستثمار اللازم لهذا المحصول، إذ تؤدِّي اضطرابات سلاسل التوريد، لا سيّما سلاسل توريد الأسمدة والوقود، إلى انخفاض إنتاجية هذا المحصول في المناطق الواقعة داخل منطقة الحرب وخارجها. وفي ضوء ذلك، يُعدّ هذا أسوأ توقيت أمكن للأمطار الغزيرة فيه أن تضرّ بمحصول القمح الشتوي في الصين.
وتجدر الإشارة إلى أن الدول الغنية، وسلاسل الأغذية عالية القيمة ومستهلكي هذه الأغذية، سوف تستوعب ارتفاع الأسعار بسهولة أكبر بكثير مقارنة بالدول الفقيرة. ففي الدول منخفضة الدخل، يُتوقَّع أن تضعف قدرة الحكومات على الاستمرار في دعم الخبز، وأن تمتد الآثار غير المباشرة لذلك إلى إجمالي الإنفاق الحكومي وتوفير الخدمات العامة لتتجاوز في تبعاتها القمح. على سبيل المثال، في المرة الأخيرة التي ارتفعت فيها أسعار القمح ارتفاعًا حادًا في عام 2008، وقعتْ أعمال شغب احتجاجًا على نقص الغذاء، امتدَّت من بوركينا فاسو إلى بنجلاديش.
ويتطلّب الوضع الآن مستوى غير مسبوق من العمل السياسي والاقتصادي الدولي، لحماية إمدادات الغذاء المباشرة للفئات الضعيفة بالفعل، بما في ذلك في الجنوب العالمي. وفي الوقت ذاته، يجب تبنِّي مجموعة من التدخّلات الزراعية لتحسين قدرة القمح على تحمل الظروف غير المواتية في السنوات المقبلة.
وهذه المشكلة ليست متعلقة بالمحاصيل التي تُركِتْ في الحقول المُعرَّضة للقصف فحسب، ولكنها تضرب بجذورها إلى أسباب أبعد وأعمق كثيرًا. فقد سلَّطت هذه الحرب الضوءَ على حماقة اعتماد 2.5 مليار شخص اعتمادًا كثيفًا على ثلاث مناطق رئيسية لإنتاج القمح وتصديره في ظل مناخ متغيّر. ويجب اتّخاذ ثلاث خطوات لتجنّب هذه الأزمة الآن ومستقبلًا.
أولًا، على العالم أن يراهن على مناطق أخرى لإنتاج القمح. كيف؟ من خلال التوسّع في إنتاج هذا المحصول بالمناطق التي يرتفع فيها إنتاجه (مثل، أمريكا الشمالية وأروبا)، والمناطق التي تسود فيها ظروف ملائمة لزراعته (على سبيل المثال، السودان ونيجيريا بلدان واعدان لذلك)، ومن خلال زيادة إنتاجيته في المناطق التي ينخفض فيها إنتاجه (مثل إثيوبيا وتركيا).
وكل هذا يتطلَّب توفير عمالة ماهرة، وأسمدة وبذور، خاصة للدول منخفضة الدخل. ويُذكَر أن استخدام بلازما القمح الجرثومية المُحسَّنة يُسهم في إنتاج محاصيل يمكن التنبؤ بغلّاتها، والاعتماد عليها، وتكون قادرة على تحمّل الظروف غير المواتية. بيد أن ذلك لن يتحقق إلا إذا كان المزارعون على دراية بأفضل الممارسات الزراعية. من ناحية أخرى، ثمة أيضًا إمكانية غير مُستغلَّة تتمثّل في إعداد خلطات طحين جديدة، عبر استخدام نبات الكاسافا والبقوليات والدُخن، على سبيل المثال. وقد دُرِسَتْ هذه الإمكانية بغرض تحسين التغذية. ويجب الآن توسيع نطاق هذا الاستخدام من أجل سوق الغذاء، من خلال تحسين أسعار هذه النباتات وتحديد مصادرها وتوفير الإمدادات منها.
ثانيًا، يجب استخدام أنظمة رصد وتقييم آنية، وتوسيع نطاقها للحفاظ على الغلات وحماية المحاصيل الأكثر عُرضة للخطر. والتطورات التي شهدتها تقنيات التصوير بالأقمار الصناعية وأجهزة الاستشعار عن بُعد وأجهزة جمع البيانات تتيح جمع المعلومات المُتعلِّقة بالتقدم المُحرَز في هذا السياق آنيًا، على سبيل المثال، للاسترشاد بها في استخدام الأسمدة لتحسين إنتاجية القمح.
كما يجب استخدام علم الجينوم في تتبُّع انتشار مُسبِّبات الأمراض النباتية والآفات التي تنتقل عبر الحدود عن طريق البذور والتي يمكن أن تُلحق ضررًا كبيرًا بغلّات القمح. وقد حدَث ذلك بالفعل في حال مرض لفحة القمح، الذي تسبَّب به فِطر مدمر انتقل من أمريكا الجنوبية إلى بنجلاديش عام 2016، وأدَّى إلى انخفاض متوسط حجم غلات هذا المحصول إلى النصف في المناطق التي أضرَّ بها. وقد أُفيد في عام 2018 بانتشاره في زامبيا، وهو ما شكَّل تهديدًا كبيرًا لغلات القمح في إفريقيا. ويُحتمل أن يكون المرض قد انتقل في أثناء تجارة البذور.
ثالثًا، التطوّرات في العلوم والسياسات الزراعية بحاجة إلى توجيه الدعم للنساء المزارعات في المناطق الريفية. ويُذكر أنه قبل عشر سنوات، أشارت تقديرات منظمة الأغذية والزراعة إلى أنه إذا أُتيحت للنساء الموارد نفسها التي تتاح للرجل (الأرض والوسائل التكنولوجية والقروض والتعليم، وما إلى ذلك)، فبإمكانهن زيادة المحاصيل بنسبة تتراوح بين 20 و30%، ما من شأنه أن يقلل عدد من يعانون المجاعات في العالم بنسبة 12%، وربما أكثر. بيد أنه عندما تكتسب المحاصيل قيمة اقتصادية واجتماعية، فإنها تصبح سلعًا تجارية، وليست سلعًا لاستهلاك الأسر، وتزداد غالبًا سيطرة الرجال على تلك المحاصيل. ومن ثمَّ، ما لم تُنفَّذ سياسات مصممة للتصدي لتلك المشكلة، فقد يؤدِّي رفع الأسعار مع التكثيف الزراعي إلى اتِّساع الفجوات بين الجنسين بدلًا من تقليصها.
وعلى مرِّ التاريخ، ظلَّ السبب وراء الصراعات هو عدم تساوي فرص الحصول على الغذاء وعدم كفايته. ودون تدخلات عاجلة، بدءًا من البحث إلى وضع السياسات وحتى مرحلة التمويل، سيكون لأزمة الغذاء التي تلوح في الأفق آثار هائلة على سبل عيش الفقراء -حتى في الدول مرتفعة الدخل والدول متوسطة الدخل- وعلى الاستقرار العالمي والإنصاف.
اضف تعليق