أخذت الفجوة بين الخبراء المتخصّصين وعموم المواطنين في الاتّساع. كما بدأ تصاعُد الشكوك في العلوم وتنامي نظريات المؤامرة التي تتحدَّى عملية صنع القرار القائمة على الأدلة. فالهجوم الشعبي على المؤسسات التي تعمل على نقل الخبرات إلى الجمعيات الديمقراطية والعمليات الديمقراطية، بما في ذلك الهجوم على مؤسسات مثل...
بقلم: مارك إي. وارين
خوارزميةٌ مُبتكَرة تُتيح الاختيار العادل للأعضاء التمثيليين في جمعيات المواطنين النيابية، بهدف بحث قضايا معينة والتشاور بشأنها، وتبشِّر تلك الجمعيات بتقليص الفجوة بين آليات الديمقراطية واعتبارات الخبرة.
أخذت الفجوة بين الخبراء المتخصّصين وعموم المواطنين في الاتّساع. كما بدأ تصاعُد الشكوك في العلوم وتنامي نظريات المؤامرة التي تتحدَّى عملية صنع القرار القائمة على الأدلة. فالهجوم الشعبي على المؤسسات التي تعمل على نقل الخبرات إلى الجمعيات الديمقراطية والعمليات الديمقراطية، بما في ذلك الهجوم على مؤسسات مثل الهيئات الإدارية والجامعات والمؤسَّسات البحثية، يشهد حاليًا تزايدًا، بعدما يسَّرت السبيل إليه وسائل التواصل الاجتماعي. فهل بمقدورنا تعزيز آليات الديموقراطية في الوقت ذاته الذي نضمن فيه انتفاع سُبل الحوكمة من الخبرة والتخصّص؟ إجابة عن ذلك السؤال، في بحثٍ نُشر مؤخرًا في دورية Nature، تطرح بايلي فلانيجان وفريقها البحثي1 آليةً عادلة وديمقراطية لاختيار المجموعات النيابية الممثِّلة للمواطنين، المُكلَّفة بتقديم المشورة بشأن قضايا تتداخل فيها آليات السياسة مع اعتبارات الخبرة. وتُعد هذه الهيئات مُكمِّلةٌ لدور المؤسسات التقليدية المعنيّة بالديموقراطية الانتخابية. لذا، تنعقد الآمال عليها في أن تصبح وسيلةً لتقليص الفجوة بين آليات الديمقراطية واعتبارات الخبرة.
استخدمت فلانيجان وفريقها في بحثهم مصطلحَ "جمعيات المواطنين النيابية"، وتلك الجمعيات هي من صور جمعيات التشاور العامة المُصغَّرة، وهو المصطلح الذي أستخدمه هنا، ويشير إلى هيئات تضمّ عددًا يتراوح بين 20 و500 مواطن عادي، يقع الاختيار عليهم بطريقة شبه عشوائية، من خلال عملية يُطلق عليها في أغلب الأحيان "ديمقراطية الاختيار بالقرعة". ويجتمع هؤلاء المواطنون للتباحُث والتشاور وتقديم التوصيات لصانعي القرار وللجمهور بنطاقه الأوسع في بعض الأحيان. وهم يحقّقون ثلاث مزايا لا تُحققها مؤسسات الحكم الديموقراطي الأكثر شيوعًا.
جمعيات المواطنين النيابية مِن صور الجمعيات التشاورية العامة المُصغَّرة، ويُختَار لعضويتها بطريقة شبه عشوائية عددٌ من الأفراد يتراوح ما بين 20 إلى 500 فرد، يمثِّلون ديموغرافيات جمهور أوسع نطاقًا. وتهدف هذه الجمعيات إلى التباحُث والتشاوُر وتقديم توصيات بشأن قضايا معينة. وقد ابتكرت بايلي فلانيجان وفريقها البحثي خوارزميةً لاختيار أعضاء هذه الجمعيات النيابية بشكلٍ عادل وبطريقةٍ تضمن تمثيل تلك الجمعيات لديموغرافيات الجمهور الأوسع نطاقًا.
جمعيات المواطنين النيابية مِن صور الجمعيات التشاورية العامة المُصغَّرة، ويُختَار لعضويتها بطريقة شبه عشوائية عددٌ من الأفراد يتراوح ما بين 20 إلى 500 فرد، يمثِّلون ديموغرافيات جمهور أوسع نطاقًا. وتهدف هذه الجمعيات إلى التباحُث والتشاوُر وتقديم توصيات بشأن قضايا معينة. وقد ابتكرت بايلي فلانيجان وفريقها البحثي خوارزميةً لاختيار أعضاء هذه الجمعيات النيابية بشكلٍ عادل وبطريقةٍ تضمن تمثيل تلك الجمعيات لديموغرافيات الجمهور الأوسع نطاقًا.
فأولًا، نظرًا إلى أن أعضاء هذه الجمعيات التشاورية العامة المُصغَّرة يقع عليهم الاختيار ليُمثّلوا جمهورًا مُحدَّدًا تجمعهم علاقة به (إذ يحملون صفة ممثلي هذا الجمهور)، فهم يُمثِّلون المجموعات التي لا تحظى بالتمثيل الكافي على نحو أفضل منه في الهيئات المنتَخبة (مثل الهيئات التشريعية)، أو في العمليات الانتخابية التي ينتخِب فيها المشاركون أنفسهم (كما يحدث في جلسات الاستماع العامة والالتماس ومجموعات الضغط). وثانيًا، يُمثِّل بعض المواطنين العاديين غيرهم من المواطنين، وعادة ما تروق مثل هذه الهيئات لعموم الأفراد وتحظى بثقتهم، والسبب في ذلك يرجع -على الأرجح- إلى أن هؤلاء الممثلين لا ينتمون إلى نخبة ما، كما لا يكونون من محترفي السياسة. وثالثًا، تعمل الجمعيات التشاورية العامة المُصغَّرة على تضمين الأخذ بالخبرات في آلياتها، لأن أعضاء تلك الجمعيات يُكلَّفون ببحث قضية ما، والاستماع إلى الخبراء والمناصرين للقضايا، ومن ثمَّ التشاور بشأن التوصيات التي يقدِّمونها.
وثمة أدلةٌ وفيرة3-4 تشير إلى أنه عند تقديم الدعم للمواطنين العاديين في إطار عملياتٍ مُحكَمة التصميم، يصبح بإمكانهم تحقيق التكامل بين الاعتبارات الأخلاقية واعتبارات المنفعة والسياسة والخبرة، ففي ما يتعلق بالقضايا "الساخنة" (مثل الإجهاض والتغيّر المناخي و"البريكست")، يصبح استقطاب ممثلي مجموعات المواطنين الديموغرافية في الجمعيات التشاورية العامة المُصغَّرة أقلَّ في أغلب الأحيان من الاستقطاب الذي ينشأ في أوساط مناصري القضايا والمُمثِّلين المنتخَبين. ويرجع ذلك في جانبٍ منه إلى أن عملية الاختيار لا تؤدِّي إلى تمثيلٍ أكبر مما يجب لمن يُسمَّون المجادلين من ذوي الدوافع؛ أي أولئك الذين ينتقون المعلومات التي تدعم موقفًا يتبّنونه بشكلٍ مسبقٍ.
وتركِّز فلانيجان وفريقها البحثي على بنية الجمعيات التشاورية العامة المُصغَّرة. من هنا، يطرح الفريق ويختبر دقة خوارزميةً تُعزِّز لأقصى درجةٍ ممكنة تحقيقَ العدالة لدى اختيار أعضاء هذه الجمعيات، من خلال المساواة بينهم في فرص اختيارهم. فما سببُ أهمية هذا الإجراء؟ بوصف هذه الجمعيات كياناتٍ سياسية، يجب أن ينظر الجمهور الأوسع نطاقًا إليها على أنها هيئات تمثيلية شرعية، إذا أرادت تقليص الفجوة بين آليات الديموقراطية واعتبارات الخبرة. ورغم تفاوُت نتائج الأبحاث في هذا الصدد وضعف دقتها، تُشير الأدلة إلى أن الجمهور الأوسع نطاقًا يرى أن شرعية تلك الجمعيات تُستَمد من كونها تُعبِّر عن أناس "يشبهوننا"؛ وهو ما يبرز ويؤكد الأهمية السياسية لهذه الصفة التمثيلية.
ونعي حاليًا أن الأفراد تروق لهم تلك الجمعيات التشاورية المُصغَّرة، ويرجع السبب في جزء منه إلى أنها تُعبِّر عن أشخاص عاديين، لا نُخَبًا تحمل أجندات سياسية. وبناءً عليه، تزداد احتمالية وثوق الأفراد بالنتائج التي تخلص إليها هذه الجمعيات. إضافةً إلى ذلك، يكون للتوصيات التي تُقدِّمها جمعيات المواطنين النيابية هذه تأثيرٌ أكبر أغلب الأحيان في الجمهور، مقارنةً بتأثير المعلومات ذاتها عندما يُقدِّمها الخبراء. ولإضفاء شرعية كهذه على تلك الجمعيات، يحتاج القائمون على تنظيمها إلى التأكّد من مصداقية عمليات اختيار أعضائها.
إلا أن تحقيق ذلك ليس بالمهمة السهلة كما يُفتَرض. فغالبًا ما تتشكَّل الجمعيات التشاورية العامة المُصغَّرة على خطوتين: تُرسل دعوات إلى عددٍ معين من الأفراد، يقع عليهم الاختيار عادة عشوائيًا بصورة أو أخرى من قوائم الناخبين على سبيل المثال. غير أن فلانيجان وفريقها البحثي يشيرون إلى أن من يُلبُّون الدعوة لا يُمثِّلون الجمهور الأوسع نطاقًا؛ فهم في العادة من كبار السن، وأكثر ثقافة من عموم الجمهور، ويرجِّح أن يتحدثوا اللغة السائدة في المجتمع وأن ينتموا إلى العِرق السائد فيه، وأن يمتلكوا مَسكنًا مستقرًا. من ثمَّ، قد لا يتمخَّض الاختيار العشوائي لتلك المجموعة عن هيئة تُوصف بأنها ممثلة للجمهور.
ولهذا السبب، عادةً ما يفرض المنظِّمون بعد ذلك حصصًا ديموغرافية لفئاتٍ معينة عند اختيارهم أعضاء جمعية عامة مُصغَّرة من بين مجموعة من المتطوعين، ليُشكِّل المتطوعون هيئةً تشبه كثيرًا الجمهور الأوسع نطاقًا. وهنا، يأتي دور الخوارزمية التي صمَّمتها فلانيجان وفريقها البحثي. فباستخدام الأفكار المُستَقاة من حقل بعنوان "التقسيم العادل" في الخوارزمية، وهو من ملامح نظرية الألعاب، تُساوي الخوارزمية بين المتطوعين في فرص وقوع الاختيار عليهم لخدمة من يمثّلونهم، حتى في ظل الحصص المقيِّدة، لتلافي الانحيازات الكامنة في اتجاهات مجموعة المتطوعين. وهذا الإجراء يُعزِّز احتمالات أن يبدو تكوين الجمعية مماثلًا للجمهور الأوسع نطاقًا، دون وقوع أي شكل من أشكال عدم الإنصاف في عمية الاختيار.
لكن تبقى تحديات قائمة. فالجمهور الأوسع نطاقًا، وبالأخص الذي يضم نسبةً كبيرة من المواطنين المتشككين في هذه الآلية، يظلّ بحاجةٍ إلى من يُقنعه بأن عمليات الاختيار المستَخدمة عادلة، ويرجّح أن قلة فقط من أفراد هذا الجمهور ستفهم آليات خوارزمية الاختيار نفسها. من ثمَّ، يتوقَّف كثيرٌ على مصداقية المنظِّمين وقدرتهم على ترجمة خوارزمية الاختيار إلى عمليةٍ معلنة تتسم بالشفافية وبالمنطقية بداهة. ويتأتَّى ذلك -على سبيل المثال- بالبرهنة على أن الخوارزمية تُشبه آلياتها آليات القرعة. ويجب على المنظِّمين تجنّب الاعتقاد بأن الحصص الهادفة إلى تجنّب التحيُّز "تُفسد" نزاهة العملية. كما يجب ألا يكون الوثوق بهذه الجمعيات التشاورية العامة المُصغَّرة قاصرًا على عموم المواطنين، لكن ينسحب الأمر ذاته على النُخب السياسية التي قد تكون آراء أفرادها بشأن قدرة المواطنين على فهم أبعاد قضية ما متأثرة بنجاحات الساسة الشعبويين الذين يستغّلون الجهل ويحشدونه.
ورغم تلك التحديات، تُعدّ الجمعيات التشاورية العامة المُصغَّرة من أكثر الأساليب جاذبية لما تعد به من تقليص الفجوة المتنامية بين آليات الديموقراطية واعتبارات الخبرة. وقد تزايد الاعتماد على هذه الجمعيات، ونما تأثيرها6. وصحيحٌ أنه ليس هناك إجماع يُعتدّ به بخصوص مثل هذه المبادرات، لكن عند إجراء عملية بحث على الموقع الإلكتروني «بارتيسيبيديا دوت نت»Participedia.net (https://participedia.net) القائم على التعهيد الجماهيري، بالجمع بين مصطلح البحث "اختيار العينات عشوائيًا" أو "اختيار الشرائح الممثِّلة عشوائيًا" مع البحث في الوقت ذاته عن طريقةٍ تتضمَّن "عملية تشاورية حوارية"، سوف يظهر في نتائج البحث ما يزيد على 520 فعالية حول العالم تتباحث وتتشاور فيها مجموعاتٌ من الأفراد، جرى اختيارهم بطريقة عشوائية. وقد نُشر العام الماضي تقريرٌ6 صادرٌ عن منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) يسرد 290 عمليةً "تمثيلية تشاورية" في الدول الأعضاء بالمنظمة، من بينها أنشطة بدأت في تسعينيات القرن العشرين، رغم أن أغلبها جرى تنظيمه خلال العقد الماضي.
ومع اتّساع نطاق الاعتماد على الجمعيات التشاورية العامة المُصغَّرة، أصبح من الأهمية بمكانٍ أن يعُدها المواطنون والنُخب السياسية كياناتٍ شرعية وذات مصداقية. وتُعد خوارزميةُ الاختيار التي طرحتها فلانيجان وفريقها البحثي خطوةً مهمة للغاية على هذا الطريق، ويُرجَّح أنها ستكون معيارًا مرجعيًا عالميًا لتعزيز الاعتماد على هذا الابتكار الديموقراطي الواعد.
اضف تعليق