انتهت أطول حرب أميركية قبل دقيقة من منتصف ليل 31 آب الموعد النهائي الذي حدده الرئيس جو بايدن لاكتمال عملية الانسحاب الاميركي من أفغانستان، مع إقلاع طائرة نقل عسكرية من كابول، محملة جنودا وأسلحة وسفير الولايات المتحدة. ومع مغادرة تلك الطائرة العملاقة من طراز سي-17 انتهى الجسر الجوي...
انتهت أطول حرب أميركية قبل دقيقة من منتصف ليل 31 آب/أغسطس الموعد النهائي الذي حدده الرئيس جو بايدن لاكتمال عملية الانسحاب الاميركي من أفغانستان، مع إقلاع طائرة نقل عسكرية من كابول، محملة جنودا وأسلحة وسفير الولايات المتحدة.
ومع مغادرة تلك الطائرة العملاقة من طراز "سي-17"، انتهى الجسر الجوي الذي أجلي عبره أكثر من 120 ألف شخص من أفغانستان عقب استيلاء طالبان على السلطة قبل أسبوعين، بعد 20 عاما من تدخل الولايات المتحدة وإلاطاحة بالحركة المتشددة.
وبذلك، تكون أفغانستان التي رفضت وجود الإمبراطورية البريطانية والاتحاد السوفياتي في الماضي، أنزلت المصير نفسه بالولايات المتحدة، القوة العظمى في العالم الحديث.
وقفزت هذه الحرب التي تابعها الاميركيون لسنوات طويلة عن بعد، فجأة إلى الواجهة بعد مقتل 13 جنديا أميركيا في هجوم انتحاري تبناه تنظيم الدولة الإسلامية-ولاية خراسان.
وبعد قرابة عام ونصف عام دون مقتل أي أميركي في أفغانستان، ستبقى صورة جو بايدن واضعا يده على قلبه أمام نعوشهم لدى وصولها إلى القاعدة العسكرية في دوفر الأحد، محفورة في الأذهان.
وكان خمسة جنود من بين الضحايا في العشرين من العمر، أي أنهم كانوا رضعا عندما نفّذ تنظيم القاعدة المتمركز في أفغانستان والمحمي من طالبان، هجمات 11 أيلول/سبتمبر 2001 التي أشعلت فتيل الصراع. بحسب فرانس برس.
ومن المفارقات أن طالبان هي التي ضمنت جزئيا الأمن لانسحاب الولايات المتحدة بعدما هددها تنظيم الدولة الإسلامية-ولاية خراسان.
وقال الجنرال كينيث ماكنزي مسؤول القيادة المركزية للجيش الأميركي الاثنين إن "طالبان كانت براغماتية ومحترفة جدا".
وأفغانستان التي كانت الجبهة الأولى في "الحرب على الإرهاب" بعد 11 أيلول/سبتمبر، سرعان ما تراجعت إلى المرتبة الثانية من الاهتمام الأميركي عندما قرر جورج دبليو بوش غزو العراق العام 2003 لإطاحة صدام حسين من السلطة.
وبدلا من مغادرة هذين البلدين بعد أولى الانتصارات، احتلتهما الولايات المتحدة في محاولة لبناء دولتين ديموقراطيتين على صورتها.
في أفغانستان، أثبتت الحكومة المدعومة من واشنطن أنها فاسدة وغير فعالة فيما واصل مسلّحو طالبان تمرّدهم.
وكان المدنيون والجيش الأفغاني أكثر من عانى بسبب هذه الإخفاقات مع مقتل عشرات الآلاف في صفوفهم.
لكن الولايات المتحدة دفعت أيضا ثمنا باهظا، مع مقتل 2350 عسكريا وكلفة مالية إجمالية بلغت 2,3 تريليون دولار وفقا لجامعة براون.
النهاية
بدأت النهاية في عهد الرئيس دونالد ترامب الذي تولى منصبه العام 2016 متعهدا إنهاء "الحروب التي لا تنتهي".
لكن ترامب واجه مقاومة من البنتاغون في البداية حتى أنه زاد الانتشار العسكري في أفغانستان إلى 16 ألف جندي، من دون أن يكون لذلك تأثير يذكر على طالبان.
ثم بدأ مفاوضات ثنائية مع المتمردين أسفرت عن اتفاق يقضي بانسحاب الجنود الأميركيين من أفغانستان في الأول من أيار/مايو في مقابل موافقة طالبان على التفاوض مع الحكومة في كابول والتعهد عدم مهاجمة الجنود الأميركيين في غضون ذلك.
لكن طالبان صعّدت هجومها ضد الجيش الأفغاني الذي يعتمد بشكل كبير على الولايات المتحدة.
عندما وصل جو بايدن إلى البيت الأبيض في كانون الثاني/يناير، لم يكن قد تبقى إلا 2500 جندي أميركي في أفغانستان.
وبعد درس الوضع مليا، قرر الرئيس الديموقراطي منتصف نيسان/أبريل المضي قدما في عملية الانسحاب، علما أن الموعد تأخر أربعة أشهر عن الموعد المقرر سابقا.
وقال بايدن "ذهبنا إلى أفغانستان بسبب هجوم مروع قبل 20 عاما. هذا لا يفسر سبب بقائنا فيها العام 2021. حان الوقت لإنهاء الحرب التي لا تنتهي".
انتهت الحرب لكن أسرع مما كان يتوقع المسؤولون الأميركيون.
فقد خططوا لعملية إجلاء منظمة للمدنيين الراغبين في المغادرة، بهدف تجنب مقارنات بالذكرى المؤلمة لسقوط سايغون والصورة التي خلدت هزيمة الولايات المتحدة في فيتنام: لاجئون يصعدون على مروحية على سطح أحد المباني.
وقال جو بايدن في الثامن من تموز/يوليو "لن تشاهدوا اجلاء الناس من فوق سطح سفارة الولايات المتحدة في أفغانستان".
وبعد خمسة أسابيع، عندما دخلت طالبان كابول من دون مقاومة، هبطت مروحيات من طراز شينوك على أرض السفارة الأميركية لنقل دبلوماسيين أميركيين إلى بر الأمان.
والحرب التي بدأت في وقت لم تكن فيه الهواتف الذكية ولا وسائل التواصل الاجتماعي موجودة، انتهت بمقطع فيديو انتشر على نطاق واسع للضابط في مشاة البحرية ستيوارت شيلر الذي طالب بمحاسبة القيادات العسكرية الاميركية في أفغانستان على إجراءات الانسحاب.
وقال في المقطع "الناس غاضبون لأن رؤساءهم خذلوهم. ولا أحد منهم يرفع يده لتحمل المسؤولية ويقول +لقد أفسدنا كل شيء+".
ومنذ ذلك الحين، تم إعفاء ستيوارت شيلر من منصبه.
اقلاع آخر طائرة
وقال قائد القيادة المركزية الأميركية الجنرال كينيث ماكنزي خلال مؤتمر صحافي "أنا هنا لأعلن أننا أنجزنا انسحابنا من أفغانستان".
وأضاف الجنرال ماكنزي الذي تتبع أفغانستان لنطاق عمليات قيادته أنّ "آخر طائرة سي-17 أقلعت من مطار كابول في 30 آب/أغسطس" في الساعة 19:29 ت غ.
وأوضح أنّ آخر أميركيين غادرا كابول هما روس ويلسون سفير الولايات المتّحدة في كابول والجنرال كريس دوناهو القائد الميداني للقوات الأميركية في أفغانستان.
لكنّ الجنرال ماكنزي لفت إلى أنّه "إذا كانت عمليات الإجلاء العسكرية قد انتهت فإن المهمة الدبلوماسية الرامية للتحقّق ممّا إذا كان هناك مزيد من المواطنين الأميركيين أو الأفغان المؤهلين الراغبين بالرحيل تتواصل".
وأوضح أنّه منذ 14 آب/أغسطس وحتى ليل الإثنين، أي خلال الـ18 يوماً الماضية، أخلت طائرات الولايات المتّحدة وحلفائها أكثر من 123 ألف مدني من مطار حامد كرزاي.
بيد أنّ القائد العسكري الأميركي أقرّ في الوقت عينه بأنّ عدد الذين تمكّن من إجلائهم من كابول قبل إنجاز الانسحاب هو أقلّ ممّا كان يأمل.
وقال "لم نتمكّن من إجلاء كلّ من كنّا نريد إجلاؤهم"، مشيراً إلى أنّ عمليات الإجلاء انتهت قبل "حوالى 12 ساعة" من موعد مغادرة آخر عسكري أميركي أفغانستان، لكنّ القوات الأميركية ظلّت "حتى اللحظة الأخيرة" في مطار كابول جاهزة لإجلاء كلّ من استطاع الوصول إلى المطار.
وبذلك تكون الولايات المتّحدة قد انسحبت من أفغانستان قبل 24 ساعة من المهلة النهائية التي حدّدها بايدن لهذا الاستحقاق.
وبانسحابها من أفغانستان تكون واشنطن قد تركت هذا البلد في أيدي طالبان، الحركة الإسلامية المتشدّدة التي خاضت ضدّها الولايات المتّحدة حرباً هي الأطول في تاريخها على الإطلاق وشنّتها ردّاً على هجمات الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2001.
طالبان تحتفل
وسارعت الحركة المتشدّدة التي سيطرت بسرعة خاطفة على البلاد منذ دنا موعد الانسحاب، إلى الاحتفال برحيل القوات الأميركية و"انتهاء الاحتلال".
وكتب المسؤول الكبير في الحركة أنس حقّاني في تغريدة على تويتر "لقد صنعنا التاريخ مرة أخرى. هذه الليلة انتهى احتلال الولايات المتّحدة وحلف شمال الأطلسي لأفغانستان والذي استمرّ 20 سنة. أنا سعيد جداً لأنّني بعد 20 سنة من الجهاد والتضحيات والمشقّات، أشهد بكل اعتزاز هذه اللحظات التاريخية".
وأرفق حقّاني تغريدته بمقطع فيديو ظهر فيه مقاتلون من الحركة وهم يكبرّون ويهتفون ويطلقون النار في الهواء احتفالاً بانسحاب آخر جندي أميركي.
ومع إقلاع آخر طائرة عسكرية من مطار كابول دوّى أزيز الرصاص في سائر أنحاء العاصمة احتفالاً بسيطرة طالبان عليه.
وسمع مراسلو وكالة فرانس برس دوي إطلاق النار الاحتفالي من مواقع عديدة من العاصمة يتمركز فيها مقاتلو الحركة الإسلامية المتشددة، في حين علا هتاف رفاق بينما كانوا يجتازون الحواجز المؤدية إلى المنطقة الخضراء.
وكان التوتر المحيط بالمرحلة الأخيرة من عمليات الإجلاء بلغ ذروته الخميس حين وقع تفجير انتحاري عند مدخل المطار تبنّاه تنظيم الدولة الاسلامية-ولاية خراسان وأوقع أكثر من مئة قتل بينهم 13 عسكرياً أميركياً.
والإثنين تبنى تنظيم الدولة الاسلامية-ولاية خراسان إطلاق ستة صواريخ على المطار، لكنها لم تؤثر على عمليات الاجلاء التي استمرت "بدون توقف" بحسب البيت الأبيض. وقال مسؤول من طالبان في المكان إنّ الصواريخ اعترضها نظام الدفاع الجوي في المطار.
وبايدن الذي يواجه انتقادات شديدة بسبب إدارته لهذه الأزمة، استقبل الأحد في قاعدة دوفر جثامين العسكريين الذين قتلوا في كابول الخميس.
وقتل 2500 أميركي في افغانستان وأنفقت الولايات المتحدة أكثر من الفي مليار دولار في 20 عاما. وهي تخرج الآن من هذه الحرب، الأطول في تاريخها، وقد لطّخت صورتها بسبب عجزها عن توقّع سرعة انتصار طالبان وطريقة إدارتها عمليات الإجلاء.
وبرّر بايدن قراره عدم إرجاء موعد سحب قوات بلاده برفضه إطالة أمد هذه الحرب وبأن مهمتها أنجزت مع مقتل أسامة بن لادن على أيدي القوات الخاصة الأميركية في باكستان عام 2011.
لكنّ عدداً من المحللين يخشون أن تؤدي عودة طالبان الى السلطة الى تقوية الجماعات الجهادية مثل تنظيم الدولة الاسلامية المسؤول عن أشدّ الاعتداءات الدموية التي وقعت في السنوات الماضية في أفغانستان، أو تنظيم القاعدة.
وقال الناطق باسم طالبان ذبيح الله مجاهد في مقابلة مع وكالة فرانس برس ان هجمات تنظيم الدولة الإسلامية ستتوقف بعد رحيل الأميركيين وإلا فان النظام الجديد "سيهتمّ بذلك".
وأتى إنجاز الانسحاب في ختام نهار شهد حراكاً دبلوماسياً كثيفاً، إذ جمعت واشنطن عبر الفيديو شركاءها "الأساسيين" (فرنسا وكندا والمانيا وايطاليا واليابان وبريطانيا وتركيا وقطر والاتحاد الاوروبي وحلف الاطلسي) لبحث "مقاربة مشتركة" للمستقبل بعد 31 آب/اغسطس.
كما أصدر مجلس الأمن الدولي في ختام اجتماع عقده الإثنين قراراً يدعو حركة طالبان إلى احترام "التزاماتها" من أجل خروج "آمن" لكلّ الذين يريدون مغادرة أفغانستان، لكن من دون أن يطالب بإقامة منطقة آمنة كانت فرنسا دعت إليها.
وصوّت 13 من أعضاء مجلس الأمن الـ15 لصالح القرار الذي صاغته الولايات المتحدة، فيما امتنعت كل من الصين وروسيا عن التصويت.
وينصّ القرار على أنّ مجلس الأمن "يتوقّع" من طالبان أن تفي بكل "التزاماتها"، لا سيّما في ما يتعلق بـ"المغادرة الآمنة" و"المنظمة" من أفغانستان "لمواطنين أفغان والرعايا الأجانب" بعد انسحاب الولايات المتحدة.
بالمقابل لم يأت القرار على ذكر "المنطقة الآمنة" أو المنطقة المحمية التي تحدّث عنها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون.
وكان ماكرون أعلن الأحد أن باريس ولندن ستدعوان في الأمم المتحدة لإنشاء "منطقة آمنة" في كابول للسماح خصوصا بمواصلة "العمليات الإنسانية".
لكنّ حركة طالبان التي أطاحت في منتصف آب/اغسطس بالحكومة المدعومة من الغرب أكّدت أنها ستحكم بطريقة مختلفة عن فترة حكمها بين 1996 و2001 عندما منعت الفتيات والنساء من الدراسة والعمل.
وحاولت الحركة المتشدّدة أن تظهر بمظهر الاعتدال والانفتاح، لكنّ عدداً من الدول والمراقبين يشكّكون في ذلك.
والاثنين وصلت طائرة تنقل 12,6 طنا من الأدوية والمواد الطبية من منظمة الصحة العالمية الى افغانستان، للمرة الأولى منذ سيطرة طالبان على البلد.
بايدن يدافع عن قرار انسحابه
ودافع الرئيس الأمريكي جو بايدن عن قرار الانسحاب من أفغانستان مؤكدا أنه يتحمل مسؤولية توقيت الانسحاب مشيرا إلى أنه يتعامل مع الأخطار التي تهدد أمريكا في عام 2021 وليس في عام 2001، بإشارة إلى أحداث "11 سبتمبر" التي تتحمل مسؤوليتها طالبان.
وقال بايدن: "أنا أتحمل مسؤولية القرار وأختلف مع وجهة النظر التي تقول إننا كان يجب أن ننسحب في وقت مبكر أكثر، لأننا كنا حينها سنغادر وسط حرب أهلية وسنهرع إلى المطار كما فعلنا حاليا، وكنا سنترك البلاد خارج السيطرة"، حسب قوله.
وأضاف الرئيس الأمريكي قائلا: "هل كنا سنذهب إلى أفغانستان لشن حرب لو أن هجوم 11 سبتمبر جاء من اليمن؟ رغم أن طالبان كانت تسيطر حينها؟ بالتأكيد الجواب الصريح هو لا"، في إشارة إلى أن المشكلة ليست مع طالبان بل مع التهديد الذي واجه أمريكا من طالبان عام 2001.
وتابع بايدن قائلا: "أنا لست هنا لأتعامل مع مخاطر عام 2001 بل عام 2021 والمستقبل"، حسب قوله. بحسب سي سي ان.
وشرح الرئيس الأمريكي الأسباب التي دفعته للانسحاب من أفغانستان مشيرا إلى أن كان أمام أمريكا خيارين: إما بالتصعيد أو الانسحاب، وأضاف قائلا: "لم أكن لأسمح لهذه لحرب التي لا تنتهي بأن تطول"، مؤكدا أ، الحرب هناك كان يجب أن تنتهي منذ وقت طويل.
وأردف بايدن قائلا: "هناك 100 إلى 200 أمريكي ما زالوا في أفغانستان وهم من مزدوجي الجنسية ونحن ملتزمون بإجلائهم إذا أرادوا ذلك".
صورة غائمة لجنرال أمريكي تدخل التاريخ
سائرا وسلاحه في يده، كان الميجر جنرال كريس دوناهو قائد الفرقة 82 المحمولة جوا ذائعة الصيت آخر عسكري أمريكي يستقل الرحلة الأخيرة من أفغانستان قبل دقيقة واحدة من إعلان دقات الساعة حلول منتصف الليل يوم الاثنين.
الصورة التُقطت بجهاز للرؤية الليلية من نافذة جانبية في طائرة النقل سي-17، وتَعرض بلونيها الأخضر والأسود صورة غائمة للجنرال وهو يتجه إلى الطائرة الرابضة على المدرج في مطار حامد كرزاي بكابول، وقد نشرتها وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون) بعد ساعات من إنهاء الولايات المتحدة وجودها العسكري الذي دام 20 عاما في أفغانستان. بحسب رويترز.
ولأنها لحظة تاريخية، قد تحتل صورة رحيل دوناهو موقعا بجانب أخرى لجنرال سوفيتي كان يقود رتلا مدرعا عبر جسر الصداقة إلى أوزبكستان، حين انسحب الجيش الأحمر انسحابا نهائيا من أفغانستان في 1989.
وإتماما لعملية عسكرية أمكنها بمساعدة دول حليفة إجلاء 123 ألف مدنى من أفغانستان، رحلت آخر طائرة تحمل على متنها قوات أمريكية في جنح الليل.
وعلى الرغم من أنها صورة ثابتة، بدا دوناهو يتحرك بخفة بينما خلا وجهه من التعبيرات. كان يرتدي زيه القتالي كاملا، ويضع نظارة للرؤية الليلية فوق خوذته، ويتدلى سلاحه من يده بجانبه. كان عليه أن يترك أفغانستان وراءه في نهاية المطاف وأن يصل لبر الأمان.
على النقيض، ظهر الجنرال بوريس جورموف، قائد الجيش الأربعين للاتحاد السوفيتي في أفغانستان، في الصور وهو يسير مع ابنه متأبطا ذراعه على الجسر الممتد فوق نهر آمو داريا حاملا باقة من الزهور الحمراء والبيضاء.
جرت الانسحابات الأمريكية والسوفيتية من البلد الذي بات يُعرف بمقبرة الإمبراطوريات بطرق صارخة الاختلاف، لكنها على الأقل تجنبت الهزيمة الكارثية التي عانت منها بريطانيا في الحرب الإنجليزية الأفغانية الأولى عام 1842.
والصورة الراسخة من ذلك الصراع لوحة رسمتها بالزيت إليزابيث تومسون اسمها (بقايا جيش) تصور فارسا وحيدا منهكا هو الجرّاح والمساعد العسكري وليام بريدون وجسده يميل إلى الخلف على متن صهوة حصان أكثر إنهاكا خلال الانسحاب من كابول.
حين انسحب الجيش الأحمر الروسي، كانت هناك حكومة شيوعية موالية لموسكو ما زالت في السلطة وظل جيشها يحارب لثلاث سنوات أخرى، في حين أن الحكومة الأفغانية المدعومة من الولايات المتحدة استسلمت بالفعل وسقطت كابول في يد طالبان خلال ما يزيد قليلا عن أسبوعين قبل انقضاء مهلة في 31 أغسطس آب لانسحاب القوات الأمريكية من البلاد.
كان انحساب قوات جروموف منظما، ومع هذا واجهت القوات التي كان قوامها 50 ألفا هجمات متفرقة أثناء توجهها شمالا إلى حدود أوزبكستان، على الرغم من أنها قدمت المال لمجموعات من المجاهدين لضمان ممر آمن على طول الطريق.
وعَبر الرتل الذي يقوده جروموف جسر الصداقة في 15 فبراير شباط 1989، منهيا حرب الاتحاد السوفيتي في أفغانستان والتي استمرت عشر سنوات قُتل خلالها ما يزيد عن 14450 جنديا سوفيتيا.
وحين سئل عن شعوره لدى العودة إلى التراب السوفيتي، قيل إن جروموف رد "شعور بالبهجة، أننا أدينا واجبنا وعدنا للوطن. لا أنظر إلى الوراء".
وسيعتمد الحكم على الإجلاء الأمريكي النهائي من كابول على عدد من تم إجلاؤهم وعدد من تُركوا.
لكن دوناهو ورفاقه سيحملون صورا مروعة عن أيامهم الأخيرة التي اتسمت بالفوضى في كابول، ومنها آباء يمررون أطفالا رضّع للجنود عبر السلك الشائك، وشابان أفغانيان يسقطان من طائرة تحلق في السماء، والأسوأ من ذلك كله.. ما أعقب هجوما انتحاريا نفذه تنظيم الدولة الإسلامية خارج المطار في 26 أغسطس آب وأسفر عن مقتل عشرات الأفغان و13 جنديا أمريكيا.
آخر خطأ أميركي كارثي
عندما عاد إزمراي أحمدي إلى منزله في كابول الأحد سلم مفاتيح سيارته لابنه وشاهد الأطفال الآخرين في المنزل وهم يندفعون إلى السيارة بفرح، قبل أن يسقط صاروخ ويقتل عشرة أشخاص في المكان، كما يقول شقيقه.
يقول أيمال أحمدي شقيق إزمراي الاثنين إن "الصاروخ أصاب السيارة المليئة بالأطفال المتوقفة في باحة منزلنا" في حي كواجا بورغا المكتظ بالسكان في شمال غرب كابول. وأضاف "قتلهم جميعا".
ويؤكد أيمال أحمدي أن عشرة من أفراد عائلته قتلوا في الغارة الجوية بمن فيهم ابنته وخمسة أطفال آخرين.
وعندما زارت وكالة فرانس برس مكان القصف الإثنين، كان الأب المفجوع ينتظر بفارغ الصبر وصول أقربائه لمساعدته في تنظيم دفن معظم أفراد أسرته.
وقال بحزن أمام هيكل السيارة التي تحولت إلى كومة من المعدن المتفحم "قُتل شقيقي وأطفاله الأربعة. فقدت ابنتي الصغيرة وأبناء لإخوتي ولأخواتي".
وصرح المتحدث باسم القيادة المركزية للجيش الأميركي (سينتكوم) الكابتن بيل أوربان في بيان "نحن على علم بأنه تم الإعلان عن سقوط ضحايا مدنيين على إثر ضربنا مركبة في كابول اليوم".
في اليوم نفسه، أعلنت الولايات المتحدة أنها دمرت سيارة محملة بالمتفجرات في غارة جوية وأحبطت بذلك محاولة من قبل تنظيم الدولة الإسلامية لتفجير سيارة مفخخة في مطار كابول.
وقد تكون هذه الضربة آخر خطأ يرتكبه الجيش الأميركي في أفغانستان التي انسحب منها آخر جنوده ليل الإثنين إلى الثلاثاء بعد حرب دامت عشرين عاما ضد حركة طالبان قتل خلالها عشرات المدنيين إن لم يكن مئات اعتبروا "أضرارا جانبية".
ويعتبر أيمال هذه العبارة كلمات جوفاء ويجد صعوبة في تصديق أن شقيقه كان متعاطفا مع تنظيم الدولة الإسلامية أو انتحاريا يخطط لتفجير سيارة مفخخة.
وأوضح أن إزمراي كان مهندسا يعمل في منظمة غير حكومية وكان أفغانيا عاديا يحاول تأمين لقمة عيشه في فترة شديدة الاضطراب.
لكن الأميركيين كانوا على درجة كبيرة من التوتر منذ تنفيذ تفجير انتحاري تبناه تنظيم الدولة الإسلامية عند مدخل مطار كابول الخميس ما أسفر عن مقتل حوالي مئة أفغاني و13 جنديا أميركيا، بينما كانت حشود كبيرة تحاول دخول المبنى على أمل مغادرة البلاد.
وأكد الكابتن أوربان "نعلم أنه وقعت انفجارات كبيرة وقوية نتيجة تدمير السيارة ما يشير إلى وجود كمية كبيرة من المواد المتفجرة بداخلها وهذا ما تسبب في خسائر إضافية". وتابع أن "ما حدث ليس واضحا وما زلنا نحقق" في الأمر.
خلال هذا النزاع الطويل، قُتل نحو 38 ألف مدني وجُرح أكثر من سبعين ألفا آخرين بين 2009 و2020 فقط حسب بعثة المساعدة التابعة للأمم المتحدة في البلاد (مانوا).
عندما سمع الجيران دوي الانفجار في الحي هرعوا ليروا ما يمكن أن يقدموه من مساعدة.
وقال أحدهم ويدعى صابر "قُتل جميع الأطفال داخل السيارة وقتل البالغون خارجها. اشتعلت النيران فيها - بالكاد تمكنا من العثور على أشلاء".
وفيما أكدت الولايات المتحدة "أنها (ستشعر) بحزن عميق لأية خسارة محتملة في أرواح الأبرياء"، عبر رشيد نوري أحد جيران أيمال، عن شعوره باليأس.
وقال إن "طالبان تقتلنا وداعش تقتلنا والأميركيون يقتلوننا"، متسائلا "هل يعتقدون جميعا أن أطفالنا إرهابيون؟".
الجيش الأميركي أعطب طائرات ومدرّعات قبل انسحابه
أعلن الجيش الأميركي أنّه أعطب قبل انسحابه من مطار كابول ليل الإثنين طائرات وآليات مدرّعة ومنظومة دفاعية مضادّة للصواريخ.
وقال قائد القيادة المركزية الأميركية الجنرال كينيث ماكنزي خلال مؤتمر صحافي إنّ قواته "نزعت سلاح" هذه الأعتدة أي أعطبتها وجعلتها غير قابلة للتشغيل مرة أخرى.
وأضاف الجنرال ماكنزي الذي تتبع أفغانستان لنطاق عمليات قيادته أنّ العتاد الذي تمّ تعطيله يشمل 73 طائرة، مؤكّداً أنّ "هذه الطائرات لن تحلّق مرة أخرى".
وأضاف "لن يتمكّن أحد من استخدامها"، مشيراً إلى أنّ "معظمها كان أصلاً خارج الخدمة (...) لكن من المؤكّد أنّها لن تتمكّن من الطيران مرة أخرى".
وأوضح الجنرال ماكنزي أنّ الجيش الأميركي الذي نشر ستّة آلاف جندي للسيطرة على مطار كابول وتشغيله اعتباراً من 14 آب/أغسطس بغية تأمين جسر جوّي لإجلاء عشرات آلاف الرعايا الأميركيين والأجانب وطالبي اللجوء الأفغان، ترك أيضاً خلفه في المطار 70 عربة مصفّحة مقاومة للألغام - تبلغ كلفة الواحدة منها مليون دولار - و27 مركبة هامفي مدرّعة خفيفة.
وقال ماكنزي إنّ كلّ هذه الآليات تمّ إعطابها وإخراجها من الخدمة وبالتالي "لن يتمكّن أحد من استخدامها مجدّداً".
وأضاف أنّ الجيش الأميركي ترك خلفه أيضاً منظومة دفاع صاروخي من طراز "سي-رام" كان قد نصبها لحماية مطار كابول، وهي المنظومة التي اعترضت الإثنين خمس هجمات صاروخية شنّها تنظيم الدولة الإسلامية على المطار، مشيراً إلى أنّ صعوبة تفكيكها حتّمت في النهاية تدميرها.
وقال الجنرال ماكنزي "اخترنا ترك هذه الأنظمة في الخدمة حتّى اللحظة الأخيرة" أي قبيل إقلاع آخر طائرة من مطار كابول.
وأوضح أنّ "تفكيك هذه الأنظمة إجراء معقّد ويستغرق وقتاً طويلاً، لذلك قمنا بنزع سلاحها حتى لا يتمّ استخدامها مرة أخرى".
الجمهوريون يهاجمون بايدن
شنّ أركان الحزب الجمهوري في الولايات المتّحدة هجوماً حادّاً على الرئيس الديموقراطي جو بايدن الإثنين بعد إعلان البنتاغون خروج آخر جندي أميركي من أفغانستان، في انسحاب قالوا إنّه "مذلّ" ويترك مواطنين أميركيين "تحت رحمة" حركة طالبان.
وقالت رئيسة الحزب الجمهوري رونا ماكدانيل في بيان إنّ بايدن "خلق كارثة وخذل الأميركيين ومصالحنا".
وأضافت أنّ ما حصل في كابول "يُثبت ما كنّا نعرفه أصلاً: جو بايدن غير قادر على أداء دور القائد الأعلى للقوات المسلّحة، والولايات المتحدة والعالم هما أقلّ أماناً بسببه".
بدوره قال زعيم الأقلية الجمهورية في مجلس النواب كيفن مكارثي إنّ الرئيس ترك "أميركيين تحت رحمة إرهابيين".
وأعلن البنتاغون أنّ الجسر الجوي الضخم الذي أقامه منذ 14 آب/أغسطس عشية سقوط كابول في أيدي حركة طالبان واستمرّ إلى حين انتهاء الانسحاب الإثنين ساهم بإجلاء أكثر من 123 ألف شخص، غالبيتهم العظمى من الأفغان.
لكنّ قائد القيادة المركزية الأميركية الجنرال كينيث ماكنزي الذي تقع أفغانستان في نطاق قيادته أقرّ بأنّ عدد الذين تمكّن الجيش من إجلائهم من كابول قبل إنجاز الانسحاب هو أقلّ ممّا كان يأمل.
وقال "لم نتمكّن من إجلاء كلّ من أردنا إجلاءهم".
ووفقاً لوزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن فإنّ عدداً ضئيلاً من رعايا بلاده، أي ما بين 100 و200 أميركي، لا يزالون في أفغانستان.
وما أن أعلن البنتاغون انتهاء الانسحاب من أفغانستان حتى تداعى للاجتماع عدد من البرلمانيين الجمهوريين، ومن بينهم عسكريون سابقون خدموا في أفغانستان من أمثال مايكل والتز.
وقال النائب عن ولاية فلوريدا إنّه "في المنطقة يقولون إنّ الجهاد انتصر والديموقراطية هُزمت، هذا إذلال"، معتبراً أنّ القوات الأميركية ستضطر يوماً ما "للعودة إلى هذا البلد من أجل إدارة هذه الفوضى".
بدوره قال السناتور عن الولاية نفسها ريك سكوت "لا يمكننا خوض حروب لا نهاية لها، لكنّ نطاق فشل بايدن وتداعياته مذهلة".
وأدّى الانتصار الخاطف لطالبان، الذي لم تتوقّعه واشنطن، إلى حدوث فوضى في انسحاب الأميركيين وحلفائهم من كابول، وتسبّب في الداخل الأميركي بفتح جبهة جديدة في المعركة الضارية بين الجمهوريين والديموقراطيين والذين عادة ما يترفّعون عن خلافاتهم الحزبية عندما يتعلّق الأمر بمسائل الأمن القومي.
اضف تعليق