حرب القنصليات والاتهامات المتبادلة ترفع درجة التوتر بين بكين واشنطن وتذكر بأجواء أشبه بحرب باردة جديدة بين الصين والولايات المتحدة في ظل تصاعد منسوب التوتر بينهما يوماً تلو آخر، وسط توقع أن يبقى خطر مواجهة واسعة النطاق ماثلاً إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية الأميركية...
تفاقمت الخلافات والازمات بين الولايات المتحدة والصين بشكل كبير في الاشهر الاخيرة، بسبب بعض الملفات والقضايا الرئيسية وهو ما يهدد بتصعيد الموقف بين الجانبين لما يشبه الحرب الباردة، هذه الخلافات ازدادت بعد تفشي وباء كورونا (كوفيد-19) وما اعقبها من تصريحات واتهامات امريكية ضد الصين، يضاف الى ذلك الخلافات حول التجارة وتايوان وهونغ كونغ وغيرها من القضايا الاخرة المعقدة، وهو ما اثار قلق ومخاوف المجتمع الدولي الذي يخشى من تصعيد الخلافات والتوترات.
اتهم الرئيس الأميركي دونالد ترامب بكين بعدم الشفافية فيما يتعلق بانتشار فيروس كوفيد-19 في مدينة ووهان الصينية. ونفت الصين بشدة هذه المزاعم، محذرة من أنها تدفع التوترات إلى "حافة حرب باردة جديدة". كما أثار ترامب ووزير خارجيته مايك بومبيو غضب بكين من خلال الإشارة مرارا إلى الفيروس باسم "الفيروس الصيني" أو "فيروس ووهان" ودفعهما بفرضيات تقول إنه تسرب من مختبر صيني.
وفيما يخص الحرب التجارية فقد اكد ترامب، أن الصين تحظى بميزة تجارية غير عادلة على حساب الولايات المتحدة، متهماً بكين أيضاً بعدم التحرك حيال ما اعتبره سرقة الملكية الفكرية. وأطلق ترامب حربه التجارية على الصين في أوائل عام 2018 في محاولة لإنهاء ما اعتبره صفقات تُعرض بلاده "للسرقة" من جانب الصين، كما صعَّد حرب الرسوم الجمركية التي انتهت بفرض رسوم بقيمة مئات المليارات من الدولارات على السلع المستوردة بينهما.
كما ألغت وزارة الخارجية الأميركية الوضع التجاري الخاص الذي كانت تتمتع به هونغ كونغ كمركز مالي عالمي، قائلة إن المدينة لم تعد مستقلة بما فيه الكفاية عن الصين. بسبب فرض قانون للأمن الوطني على المدينة. ووجهت إدارة ترامب ايضا انتقادات مباشرة للصين واتهمتها باعتقال أكثر من مليون مسلم من الأويغور والأقليات الأخرى في مقاطعة شينجيانغ الصينية. ويتهم الغرب الصين بوضع أكثر من مليون مسلم من أقلية الأويغور في معسكرات اعقتال جماعية، الصورة من الأرشيف.
وفيما يخص وضع تايوان التي تتمتع بالحكم الذاتي وتعدها الصين جزءاً من أراضيها. فما تزال واشنطن وهي الحليف الرئيسي للجزيرة التي تزودها بالأسلحة دون أن تعترف بها دبلوماسياً وبكين تستنكر أي مبيعات أسلحة أو اتصالات رفيعة المستوى بين الولايات المتحدة وتايوان. وتواجهت الولايات المتحدة والصين أيضا حول بحر الصين الجنوبي، وهو ممر مائي غني بالموارد ومصدر للنزاع في المنطقة. وتؤكد الصين أحقيتها على معظم البحر الذي بنت فيه جزراً اصطناعية لتعزيز قوتها في المنطقة. وتقوم السفن الحربية الأميركية بتمارين تحت مسمى "حرية الملاحة" في البحر، وتبحر بالقرب من المعالم التي تؤكد الصين أحقيتها بها، فتؤجج غضب بكين.
حرب باردة جديدة
وفي هذا الشأن صار المشهد أشبه بحرب باردة جديدة بين الصين والولايات المتحدة في ظل تصاعد منسوب التوتر بينهما يوماً تلو آخر، وسط توقع أن يبقى خطر مواجهة واسعة النطاق ماثلاً إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية الأميركية. وقال أستاذ العلاقات الدولية في جامعة رنمين الصينية تشي يينهونغ "من الصعب توقع المدى الذي سيبلغه تدهور العلاقات"، مبدياً اعتقاده أنّ الخصمين "شرعا في الانتقال إلى حرب باردة جديدة". واتصفت الاسابيع الماضية بسلسلة من العقوبات والردود والردود المضادة.
وتعكس الملفات الشائكة مدى الخلافات، إذ إنّها تشتمل على مستقبل هونغ كونغ ودور عملاق الاتصالات هواوي في تكنولوجيا الجيل الخامس، مروراً بالتيبت وبحر الصين الجنوبي ومسألة مسلمي الاويغور. ومن المتوقع بالتالي أن تحتل الصين مكانة مهمة في صلب الحملة الانتخابية بين المرشحَين للانتخابات الرئاسية الأميركية المرتقبة في 3 تشرين الثاني/نوفمبر، دونالد ترامب ومنافسه جو بايدن. ويصف ترامب بايدن بأنّه ضعيف في مواجهة بكين. والمشهد شبيه بما حصل في انتخابات 2016، حين تعهد المرشح الجمهوري خفض العجز التجاري مع الصين، ما شكّل واحداً من أسباب فوزه.
غير أنّ المواقف المتشددة للرئيس الأميركي في ولايته الأولى إزاء الصين، جاءت على خلفية حرب تجارية جرى التوصل خلالها إلى اتفاق ينقسم على عدة مراحل. في ما عدا ذلك، لم يكن الجمهوري، رجل الأعمال السابق، يبخل على نظيره الصيني شي جينبينغ بالثناء. ووفق مستشاره السابق لشؤون الأمن القومي جون بولتون، فإنّ ترامب كان يبحث عن قوة دفع انتخابية تأتي من الصين عبر زيادة مشترياتها من المنتجات الزراعية الأميركية، بغية إرضاء قاعدته الانتخابية الريفية.
إلا أنّ نشوب أزمة تفشي فيروس كورونا المستجد الذي كشف عنه للمرة الأولى في مدينة ووهان الصينية في نهاية 2019، ألقى الضوء على أزمة أكثر عمقاً بين الطرفين. فبعدما "شكر" ترامب بحرارة في نهاية كانون الثاني/يناير جينبينغ "لجهوده" في "احتواء" الفيروس، بدّل الرئيس ال45 للولايات المتحدة خطابه جذرياً، ليحمل الصين مسؤولية الأزمة الصحية والاقتصادية العالمية.
وتبنى عملياً استراتيجية المواجهة المباشرة التي ينتهجها وزير خارجيته مارك بومبيو. ووفق ستيفان والت، أستاذ الشؤون الدولية في جامعة هارفرد، فإنّ أكبر قوتين اقتصاديتين عالميتين دخلتا في "تنافس أمني طويل الأمد (...) تفاقمه رؤى استراتيجية متضاربة". وقال إنّ "الأمر يشبه الحرب الباردة في بعض أوجهه"، ولكنّه شدد على أنّ التنافس الحالي "ليس بخطورة" ما جرى بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي. ورغم أنّ الخصومة كانت ماثلة منذ ما قبل عهد ترامب، فإنّ "السبب الرئيس خلف التدهور (الحالي)، يتوجب البحث عنه في تنامي الطموحات الدولية للصين"، خصوصا لناحية رغبتها في الهيمنة في آسيا.
وبعد 70 عاما من نشوئها، تؤكد الصين الشيوعية أكثر من اي وقت وضعيتها كقوة كبرى تنافس الولايات المتحدة. أما في واشنطن، فإنّ الطبقة السياسية تخطت الأمل القديم بأن يؤدي مسار العولمة إلى إدخال تغييرات على النظام الحاكم في الصين عبر توفير مزيد من الديموقراطية والحريات توازياً مع الازدهار الاقتصادي. ولم يعد مايك بومبيو يرفض الإحالة على الحرب الباردة، وذلك بعدما كان في 2018 يعترض على أي مقارنة. وإذ يشير إلى مدى "التشابك البالغ" بين الاقتصادين الأميركي والصيني مقارنة بما كان عليه الحال بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، فإنّه يرمي بذلك إلى تبرير ضرورة سعي الدول الغربية إلى استعادة سيادتها الصناعية والتكنولوجية والتوقف عن الاعتماد على الصين.
وفي استعارة لمصطلح عسكري، حذّر وزير العدل الأميركي بيل بار عمالقة هوليوود وسيليكون فالي من "حرب اقتصادية خاطفة" من الصين بغية "تجاوز الولايات المتحدة بصفتها القوة العظمى الأولى عالمياً". وبهدف بث الروح مجدداً في فكرة كتلة في مواجهة أخرى، ترغب إدارة ترامب في ضمّ الاتحاد الأوروبي إلى صفوفها. وتدعو من أجل ذلك إلى الدفاع عن "الحرية" في وجه الطغيان". إلا أنّ الباحثة في مركز "اميريكن انتربرايز انستيتيوت" للأبحاث اوريانا سكيلار ماسترو، ترى أنّ هذا التصوّر عن الصين على أنّها "تهديد ايديولوجي" خاطئ. بحسب فرانس برس.
وتفضّل عدم الحديث عن "حرب باردة جديدة"، إذ إنّ ذلك سيقود باتجاه اعتماد "تدابير استراتيجية غير مجدية". رغم ذلك، فإنّها تحذر من أنّ "ثمة احتمالا واقعيا لحرب ساخنة بين الطرفين، على مستويات لم تبلغها (المواجهة) مع الاتحاد السوفياتي البتة". وتقول إنّ "الولايات المتحدة تتفاعل مع تراجع قدراتها عبر زيادة الضغط مهما يكن ما تفعله بكين" التي ترفض من جانبها مثلاً سحب أسلحتها من بحر الصين الجنوبي من دون إدراكها "دوافع السياسة الأميركية". وتؤكد نتيجة ذلك، أنّ "رفض الصين طمأنة الولايات المتحدة من شأنه أن يقود نحو الحرب".
ائتلاف عالمي
على صعيد متصل قال وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو إن الولايات المتحدة ترغب في تشكيل ائتلاف عالمي لمواجهة الصين واتهم بكين باستغلال وباء فيروس كورونا في خدمة مصالحها. ويصف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الصين بأنها الخصم الرئيسي للولايات المتحدة واتهم الرئيس الصيني شي جين بينغ باستغلال التجارة وإخفاء الحقيقة فيما يتعلق بتفشي فيروس كورونا المستجد الذي يصفه ترامب بأنه ”وباء الصين“.
وأثنى بومبيو خلال زيارة للندن على قرار رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون منع شركة هواوي الصينية من العمل في شبكات الجيل الخامس للهاتف المحمول في بريطانيا قائلا إنه كان القرار الصائب لأن البيانات كان من الممكن أن تصل إلى الحزب الشيوعي الصيني في نهاية المطاف. بحسب رويترز.
ووصف بومبيو الصين بأنها معتدية وقال إن لها مطالب سيادة بحرية غير مشروعة وتمارس البلطجة على دول في منطقة الهيمالايا وأخفت تفشي فيروس كورونا واستغلته لخدمة مصالحها بطريقة ”مخزية“. وقال بومبيو للصحفيين وبجانبه نظيره البريطاني دومينيك راب ”نأمل في تشكيل ائتلاف يتفهم التهديد ويعمل بصورة جماعية لإقناع الحزب الشيوعي الصيني بأن مواصلة هذا السلوك ليست في مصلحته“. وأضاف ”نريد من كل دولة تتفهم الحرية والديمقراطية... أن تتفهم هذا التهديد الذي يمثله الحزب الشيوعي الصيني عليها“. ولم يقدم بومبيو دليلا على استغلال الصين لوباء كورونا.
من جانب اخر اتهمت وزارة العدل الأمريكية صينيين اثنين باختراق إلكتروني عبر الإنترنت لمتعاقدين في مجال الدفاع وباحثين في مكافحة مرض كوفيد-19 وشركات أخرى حول العالم. وفي وثائق للمحكمة نشرت، قالت السلطات الأمريكية إن الصينيين لي شياو يو ودونغ جيا تشي شاركا في حملة للتجسس عبر الإنترنت على مدى عدة سنوات لسرقة تصميمات أسلحة ومعلومات عن أدوية وشفرة المصدر لبرمجيات إلكترونية ومعلومات أخرى. وتزعم عريضة الاتهام أن متسللين إلكترونيين يعملون من 2014 وحتى 2020 وحاولوا مؤخرا سرقة أبحاث متعلقة بمرض السرطان.
حرب السفارات
في السياق ذاته قالت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الصينية هوا تشونينج إن السفارة الصينية في واشنطن تلقت تهديدات بالقتل والتعرض لهجمات بالقنابل مشيرة إلى أن المسؤولية في ذلك تقع على عاتق الحكومة الأمريكية. وطلبت الولايات المتحدة من الصين إغلاق قنصليتها في هيوستون، حسبما قالت الدولتان، فيما يضيف المزيد من التوتر للعلاقات المتدهورة بينهما. وقال مصدر إن بكين تدرس في المقابل إغلاق القنصلية الأمريكية في ووهان.
من جانب اخر قالت وزارة الخارجية الصينية إنها أبلغت السفارة الأمريكية ، بإغلاق قنصليتها في مدينة تشنغدو بجنوب غرب البلاد، بعد أيام من أمر واشنطن المفاجئ بإغلاق القنصلية الصينية فى هيوستون. وأضافت الوزارة فى بيان "أبلغت وزارة الشؤون الخارجية الصينية السفارة الأمريكية في الصين بقرارها سحب موافقتها على إقامة وتشغيل القنصلية العامة الأمريكية في تشنغدو". وتابعت: "قدمت الوزارة أيضا متطلبات محددة بشأن وقف القنصلية العامة لكل العمليات والأحداث".
وقالت وزارة الخارجية الصينية في وقت سابق إن واشنطن ”طلبت فجأة إغلاق القنصلية في هيوستون واصفة الإجراء بأنه تصعيد ”غير مسبوق“. وأوضح رئيس تحرير منفذ إعلامي رسمي صيني أن المهلة التي تحددت للصين هي ثلاثة أيام لإغلاق القنصلية. ونددت بكين بالخطوة الأمريكية متوعدة بالرد لكنها لم توضح الإجراءات التي قد تتخذها. وأكدت وزارة الخارجية الأمريكية القرار وقالت إن الخطوة تهدف ”لحماية الملكية الفكرية الأمريكية والمعلومات الخاصة للأمريكيين“.
وفي تصريحات خلال زيارة للدنمارك، لم يذكر وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو تفاصيل محددة، لكنه كرر مرة أخرى الاتهامات للصين بسرقة حقوق الملكية الفكرية الأمريكية والأوروبية، وهو ما قال إنه تسبب في فقدان ”مئات الآلاف من الوظائف“. وقال في مؤتمر صحفي ”الرئيس ترامب قال ما فيه الكفاية.. لن نسمح لهذا بالاستمرار“. وأضاف ”نضع توقعات واضحة لسلوك الحزب الشيوعي الصيني. وعندما لا يفعلون، فإننا نتخذ إجراءات لحماية الشعب الأمريكي، وحماية أمننا القومي، وكذلك لحماية اقتصادنا ووظائفنا“. ومضى قائلا ”هذه هي الإجراءات التي ترونها من الرئيس ترامب، وسنمضي في ذلك“.
وقالت مورجان أورتيجوس المتحدثة باسم الخارجية الأمريكية ”لن تسمح الولايات المتحدة بانتهاك جمهورية الصين الشعبية لسيادتنا وترهيبها لشعبنا، مثلما لا نتسامح مع ممارساتها التجارية الجائرة، وسرقة الوظائف الأمريكية، وغيرها من التصرفات الشنيعة“. ولم يتضح على الفور لماذا اختصت الولايات المتحدة قنصلية الصين في هيوستون بهذا الإجراء. وقال وانغ في مؤتمر صحفي اعتيادي ”إن إغلاق القنصلية العامة الصينية في خطوة من جانب واحد في هيوستون في غضون فترة زمنية قصيرة هو تصعيد غير مسبوق في إجراءاتها الأخيرة ضد الصين“. وأضاف ”نحث الولايات المتحدة على إلغاء هذا القرار الخاطئ فورا. وإذا أصرت على المضي في هذا المسار غير السليم، فسترد الصين بإجراءات صارمة مضادة“.
وقال وانغ إن الحكومة الأمريكية تضايق الدبلوماسيين الصينيين والموظفين في القنصلية منذ فترة من الوقت، علاوة على ”ترهيب الطلاب الصينيين واستجوابهم ومصادرة أجهزتهم الإلكترونية الشخصية، بل واحتجازهم“. ومضى قائلا إن الولايات المتحدة تدخلت في شؤون بعثات دبلوماسية صينية بما في ذلك اعتراض حقائب دبلوماسية ومصادرة مواد صينية ”لأغراض الاستخدام الرسمي“. ولم يحدد ما إذا كان لهذه الإجراءات صلة بالقنصلية في هيوستون.
اضف تعليق