قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لما يسمى إسرائيل، والذي اثار موجة من ردود الفعل الغاضبة والرافضة لهذا القرار، عده بعض المراقبين تحدي جديد للولايات المتحدة الأمريكية، التي أصبحت اليوم بسبب تفردها وقرارات ادارتها المنحازة في موقف عالمي ضعيف، خصوصا بعد ان صوت مجلس الأمن الدولي وعلى الرغم من التهديدات الامريكية المعلنه، ضد قرار اعتراف الرئيس الأمريكي الاخير. قد تكون انتكاسة واشنطن الكبيرة بحسب بعض المصادر، في تصويت الجمعية العامة للامم المتحدة بشأن القدس مصدر احراج للولايات المتحدة لكن اي مزاعم عن خسارة دورها كوسيط في الشرق الاوسط ستكون سابقة لاوانها على الارجح.

وأيدت غالبية ساحقة من الدول الاعضاء في الامم المتحدة، وبينها عدد من حلفاء واشنطن وأخرى تتلقى مساعدات كبيرة منها، القرار الذي يدين اعتراف دونالد ترامب بالقدس عاصمة لاسرائيل. وفي مؤشر على اهمية التصويت، حذرت السفيرة الاميركية نيكي هايلي بان ترامب سيراقب العملية وبأنها "ستسجل اسماء" الدول التي تخذله. لكن الواقع أن سياسة "أميركا أولا" التي يتبعها ترامب أفضت مرة جديدة إلى "أميركا وحيدة"، ما جعل بعض الفلسطينيين يجاهرون بأنه لا يمكن للولايات المتحدة بعد الان أن تلعب دور وسيط سلام.

وأرجا نائب الرئيس الاميركي مايك بنس زيارة كانت مقررة الى المنطقة، بعد ان رفض القادة الفلسطينيون ورجال الدين المسيحيين العرب استقباله. ويقول بعض الخبراء أنه قد يكون من الافضل لواشنطن ان تلزم الهدوء لبضعة اسابيع بانتظار تبدد العاصفة. لكن ان كان هناك اي إمكانية للتوصل إلى اتفاق سلام لطالما تم السعي إليه بين اسرائيل والفلسطينيين، هناك وسيط واحد يمكنه الاسهام فيه.

وقلل دان شابيرو، السفير السابق لدى اسرائيل في عهد الرئيس باراك اوباما، من اهمية التصويت ووصفه بـ"مهزلة مثيرة للشفقة للامم المتحدة" وحث واشطن على اعادة التركيز على هدفها. وقال على تويتر "ما هي استراتيجية الولايات المتحدة لانهاء النزاع، التوصل الى دولتين، تجنب واقع قوميتين؟ او على الاقل ابقاء تلك الاهداف حية؟". ومن المفترض أن تتضح هذه الاستراتيجية في الاسابيع او الاشهر القادمة عندما يكشف صهر ترامب وموفده الخاص الى الشرق الاوسط جاريد كوشنر مقترحه المرتقب. ومنذ تولي ترامب منصبه تقريبا، يقوم كوشنر وزميله محامي العقارات جيسون غرينبلات بزيارات مكوكية بين البيت الابيض والمنطقة، عاملين على وضع خطط.

تحدي ترامب

وفي هذا الشأن تحدت أكثر من 120 دولة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وصوتت في الجمعية العامة للأمم المتحدة لصالح قرار يدعو الولايات المتحدة إلى سحب اعترافها بالقدس عاصمة لإسرائيل. وهدد ترامب بقطع المساعدات المالية عن الدول التي تصوت لصالح القرار. وأيدت 128 دولة في الِإجمال القرار، وهو غير ملزم، فيما صوتت تسع دول ضده وامتنعت 35 دولة عن التصويت ولم تدل 21 دولة بصوتها.

وبدا أن تهديد ترامب أتى بنتائج إذ امتنعت دول عن التصويت أو صوتت ضد القرار بعدد أكبر مما هو معتاد في القرارات المرتبطة بفلسطين. لكن واشنطن وجدت نفسها معزولة على الساحة العالمية مع تصويت الكثير من حلفائها الغربيين والعرب لصالح القرار. ومن بين تلك الدول الحليفة مصر والأردن والعراق وهي دول تتلقى مساعدات ضخمة عسكرية أو اقتصادية لكن التهديد الأمريكي بقطع المساعدات لم يحدد دولة بعينها.

ووصف متحدث باسم الرئيس الفلسطيني محمود عباس التصويت بأنه انتصار لفلسطين في حين رفضه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. وخالف ترامب سياسة أمريكية متبعة منذ عقود وأعلن اعتراف الولايات المتحدة بالقدس عاصمة لإسرائيل وقال إن بلاده ستنقل سفارتها من تل أبيب إلى القدس. وقبل التصويت الذي أجري قالت نيكي هيلي السفيرة الأمريكية لدى المنظمة الدولية أمام الجمعية العامة ”ستتذكر الولايات المتحدة هذا اليوم الذي عزلت فيه واستهدفت بهجوم في الجمعية بسبب ممارستنا لحقنا كدولة ذات سيادة“. وأضافت ”سنتذكر ذلك عندما تتم دعوتنا مجددا لنقدم أكبر مساهمة في العالم للأمم المتحدة وتأتي الكثير من الدول لتدعونا، كما تفعل دائما، لندفع أكثر ولنستخدم نفوذنا لصالحهم“.

ويشكل وضع القدس أحد أشد العقبات في طريق التوصل إلى اتفاق سلام بين إسرائيل والفلسطينيين الذين أغضبهم إعلان ترامب. ولا يعترف المجتمع الدولي بسيادة إسرائيل على المدينة بأكملها. ووصف نتنياهو القرار بأنه ”مخالف للمنطق“. وقال في مقطع فيديو على صفحته على فيسبوك ”القدس عاصمتنا، هكذا كانت دائما، وهكذا ستبقى. لكنني أقدر العدد المتزايد من الدول التي رفضت المشاركة في هذا المسرح الهزلي“.

واحتلت إسرائيل القدس الشرقية في عام 1967 وهي ما يريدها الفلسطينيون عاصمة لدولتهم المستقبلية. من بين الدول التي امتنعت عن التصويت استراليا وكندا والمكسيك والأرجنتين وكولومبيا وجمهورية التشيك والمجر وبولندا والفلبين ورواندا وأوغندا وجنوب السودان. وانضمت جواتيمالا وهندوراس وجزر مارشال وميكرونيزيا وبالاو وناورو وتوجو للولايات المتحدة وإسرائيل في التصويت ضد القرار.

وقالت سفيرة استراليا لدى الأمم المتحدة جيليان بيرد إن بلادها تريد أن تواصل الولايات المتحدة لعب دور قيادي في الوساطة في السلام وامتنعت عن التصويت لأننا ”لا نرغب في أن يتم عزل أي طرف عن العملية“. وتقول بيانات من الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (يو.إس. إيد) إن الولايات المتحدة قدمت في 2016 مساعدات عسكرية واقتصادية تصل قيمتها إلى نحو 13 مليار دولار لدول في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى و1.6 مليار دولار لدول في شرق آسيا ومنطقة الأوقيانوس.

ووفقا لتلك البيانات قدمت الولايات المتحدة نحو 13 مليار دولار لدول في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا و6.7 مليار دولار لدول في جنوب ووسط آسيا و1.5 مليار دولار لدول في أوروبا وأوراسيا و2.2 مليار دولار لدول في النصف الغربي من الكرة الأرضية. وأجري التصويت بدعوة من دول عربية وإسلامية. واستخدمت الولايات المتحدة حق النقض (الفيتو) دعما لإسرائيل في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة الذي يضم 15 عضوا.

وصوتت الدول الأربعة عشر الأخرى جميعا لصالح القرار الذي أعدته مصر والذي لم يذكر الولايات المتحدة أو ترامب لكنه أبدى ”الأسف الشديد إزاء القرارات التي اتُخذت في الآونة الأخيرة والتي تتعلق بوضع القدس“. وأكد القرار الذي تم تبنيه على أن ”أي قرار وإجراءات تفضي إلى تغيير في طابع ووضع مدينة القدس أو تكوينها السكاني ليس له أثر قانوني وهو لاغ وباطل ويجب أن يلغى“. بحسب رويترز.

وقال سفير فرنسا لدى الأمم المتحدة فرانسوا ديلاتر في بيان ”القرار الذي تم تبنيه اليوم لا يؤكد إلا على بنود القرارات الدولية ذات الصلة بالقدس“ وصوتت فرنسا لصالح القرار. ويأتي القرار الذي تبنته الجمعية العامة بعد عام من تبني مجلس الأمن الدولي لقرار يطالب بوقف الاستيطان الإسرائيلي. وفي ذلك الحين صوتت 14 دولة لصالح القرار في حين امتنعت الولايات المتحدة عن التصويت في أواخر عهد الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما الذي تحدى ضغوطا من إسرائيل ومن ترامب الذي كان منتخبا وقتها لاستخدام حق النقض ضد القرار. وبعد التصويت قال متحدث باسم البعثة الأمريكية في الأمم المتحدة ”من الواضح أن كثيرا من الدول فضلت علاقتها مع الولايات المتحدة على محاولة لا جدوى منها لعزلنا بسبب قرار كان من حقنا السيادي أن نتخذه“.

عباس وواشنطن

من جانب اخر يشدّد الرئيس الفلسطيني محمود عباس لهجته تجاه واشنطن بعد اعترافها بالقدس عاصمة لإسرائيل، لكن المحللين يتساءلون إلى اي مدى يمكنه الاستمرار في ذلك. ويتولى عباس البالغ من العمر 82 عاما رئاسة السلطة منذ العام 2005، وهو غالبا ما يتوخى الحذر في تصريحاته وتحركاته، لكنه لكم يكن كذلك إزاء القرار الأميركي الأخير الذي أثار موجة من الغضب في الأراضي الفلسطينية والعالم العربي والإسلامي.

وبعد ايام على موقف واشنطن في السادس من كانون الاول/ديسمبر، اعلن عباس أنه لن يلتقي نائب الرئيس الأميركي مايك بنس اثناء زيارته التي كانت مقررة وأرجئت أخيرا إلى منتصف كانون الثاني/يناير. وصعد الرئيس الفلسطيني من لهجته قائلا إنه لن يقبل أي خطة سلام تقترحها واشنطن لأنها "لم تعد وسيطا نزيها في عملية السلام (...) بسبب انحيازها وخرقها للقانون الدولي". وتتوافق هذه التصريحات مع الموقف الشعبي الفلسطيني الذي يريد أن تكون القدس الشرقية عاصمة الدولة العتيدة. أظهر استطلاع أعده مركز السياسة والدراسات أن 86 % من الفلسطينيين يؤيدون قطع العلاقات مع الولايات المتحدة.

لكن عددا من المحللين يرون أن الولايات المتحدة هي الطرف الوحيد القادر على التأثير على إسرائيل ولا سيما على حكومة بنيامين نتانياهو التي تعدّ أكثر الحكومات تشددا في تاريخ الدولة العبرية، وهو امر تدركه القيادة الفلسطينية. وإذا كان عباس أرسل مبعوثين إلى روسيا في ما يبدو أنه بحث عن دعم بديل عن الولايات المتحدة، فإن إسرائيل تعلم أنها لن تنال دعما كالذي تناله من واشنطن، وبالتالي فمن المستبعد جدا أن تقبل بأي وسيط آخر.

وبذلك، يوشك عباس أن يجد نفسه عالقا بين هذا الواقع، وبين الرأي العام الفلسطيني الذي يرى أن التعاون مع الولايات المتحدة في عملية السلام لم يحقق شيئا. وأظهر استطلاع حديث نشره المركز الفلسطيني أن 70 % من الفلسطينيين يريدون استقالة عباس. وأدى تسعة من الفلسطينيين بين السادس والحادي عشر من كانون الأول/ديسمبر في مواجهات مع القوات الإسرائيلية وغارات على قطاع غزّة ردا على إطلاق صواريخ، إلى زيادة الضغوط على عباس.

ويرى عوفر سالزبرغ الباحث في مجموعة الأزمات الدولية أن عباس قد يحاول على الأرجح "تعزيز الموقف الدولي الرافض للموقف الأميركي، وقد يرفض أي مفاوضات في ظل عدم وجود وسيط حيادي". ويقول "يرى عباس أن ذلك هو الخيار الأقل سوءا". لكن ثمن ذلك قد يكون باهظا، وفقا للباحث، إذ إنه من دون واشنطن لن تكون هناك عملية سلام.

من جهتها، ترى نادية حجاب مديرة شبكة الدراسات الفلسطينية أن على الرئيس الفلسطيني أن يحصل على تنازلات مهمة "كي يحافظ على ماء الوجه". وتقول "الشيء الأهم هو أن تتراجع الولايات المتحدة عن قرار الاعتراف بالقدس (عاصمة لإسرائيل) لكن لا أظن أن ترامب سيفعل ذلك". ويقول الكاتب غرانت روملي، مؤلف كتاب عن عباس، إن القادة الفلسطينيين يدركون تماما "في أعماقهم أنهم بحاجة إلى الولايات المتحدة في وقت ما". ويضيف "في حسابات ترامب، سيعود الفلسطينيون في وقت ما إلى طاولة المفاوضات".

ومن المخاطر التي تلوح في الأفق القريب أمام الفلسطينيين، فقدان جزء من المساعدات الأميركية البالغة 400 مليون دولار سنويا. فالكونغرس يناقش الآن مشروع قانون يشترط على السلطة الفلسطينية، مقابل الحصول على هذا الجزء، أن تتخلى عن مساعدة عائلات الذين يسقطون في عمليات ضد الإسرائيليين. ويعرب عباس منذ سنوات عن معارضته لهذا الشرط، وهو يدرك أن أي قرار بوقف هذه المساعدات سيكون له أثر سيء جدا لدى الرأي العام الفلسطيني الذي يرى أن هذه العمليات تندرج في إطار المقاومة المشروعة ضد الاحتلال. بحسب فرانس برس.

وفي الوقت نفسه، تتسارع وتيرة الاستيطان الإسرائيلي في الضفة الغربية المحتلة وهي تقضم الأراضي التي يمكن أن تقوم عليها يوما ما الدولة الفلسطينية المنشودة. إزاء ذلك، ليس أمام عباس سوى رفع عدد الدول التي تعترف بدولة فلسطين، من دون أن ينتظر نتيجة مفاوضات السلام التي تبدو بعيدة، رغم أن ذلك قد لا يغيّر كثيرا ما يجري على الأرض في الضفّة الغربية المحتلة.

اضف تعليق