لم تعرف السعودية يوما من الايام استقرارا سياسيا حقيقيا منذ سنوات، او على اقل تقدير منذ الالفية وحتى والان، فعلى الصعيد الداخلي شهدت البلاد تحركات معارضة من قبل مواطنين شيعة استمرت لمدة سنوات وكانت ذروتها قبل اعدام المرجع الديني المعروف الشيخ نمر باقر النمر، ثم تحولت الاوضاع الى اضطرابات اجتماعية تطالب بالمساواة اثر التعقيدات التي خلفها تراجع اسعار النفط.
اما على الصعيد الاقليمي فتكافح المملكة مع عدوها اللدود والقوي جدا "ايران" وحلفاءها الذين يتزايدون يوما بعد اخر، نتيجة "الغباء" السياسي السعودي في التعامل مع الملفات المعقدة، وابرز خسائرها كانت انجرارها في الحرب على اليمن والتي دخلت عامها الثالث دون تحقيق نتائج تستحق الذكر، بالاضافة الى خسارتها المؤكدة في سوريا والعراق ولبنان، اما الازمة مع قطر فيكفي انها ادخلت الدوحة رسميا ومن الباب الواسع الى احضان طهران.
على الصعيد الدولي تكاد تكون صورتها انعكاسا لمشكلاتها الداخلية والإقليمية، فلا يخلو شهر الا وتصدر فيه المنظمات الحقوقية الدولية تقارير تتحدث عن وجود انتهاكات لحقوق الانسان سواء ضد المواطنين داخل البلاد، من خلال الاعتقالات التعسفية ضد النشطاء والمعارضين السياسيين ورجال الدين، او تقارير تتحدث عن جرائم حرب في اليمن تحديدا وانتهاك قوانين الحرب باستخدام اسلحة محرمة دولية بالاضافة الى ضرب المدنيين وباعتراف تحالفها بنفسه.
صحيفة واشنطن بوست الأميركية رصدت الازمات التي تحيط بالسعودية وقالت ان السعودية "الجديدة" التي وعد بها ولي العهد السعودي محمد بن سلمان في رؤيته لعام 2030 لا تزال تشبه الزنزانة، وإنها يهمين عليها الفكر القديم وحبيسة العصور الغابرة، أوضحت الصحيفة في مقال لها أنه على الرغم من الخطاب المبشر لولي العهد السعودي ورؤية 2030، يبدو الأمير محمد بن سلمان، وبشكل متزايد، أشبه بالقادة المستبدين من الجيل الماضي.
وبحسب الصحيفة، تبدو السعودية مصممة على البقاء زنزانة للذين يتطلعون إلى حرية التعبير والرأي، وأشارت إلى أن أحدث الأدلة التي تدل على السياسة القمعية لدى السلطات السعودية هو ما يتمثل في الحملة الواسعة النطاق التي شنتها على الناشطين والمؤثرين من رجال الدين والصحفيين والكتّاب الذين زجت بهم في السجون دون أي تفسير علني يذكر.
وأشارت الصحيفة إلى بيان صادر يوم 12 سبتمبر/أيلول الجاري عن الجهاز الأمني الجديد للحكومة السعودية، الذي سبق أن أنشأه الملك سلمان بن عبد العزيز في يوليو/تموز الماضي، وقالت إن هذا البيان أشار بشكل غامض إلى أن هذه الاعتقالات جاءت بسبب أن "جهات أجنبية" كانت تحاول الإساءة إلى أمن المملكة ومصالحها ومنهجها وقدراتها والسلام الاجتماعي لديها، وذلك من أجل إثارة الفتنة والإضرار بالوحدة الوطنية في البلاد، وأنه جرى تحييدها.
هذه اللغة الغامضة في البيان تخفي حقيقة أن العديد من المعتقلين كانوا صريحين نسبيا عبر شبكة الإنترنت، وأنهم لم يكونوا عملاء سريين يتآمرون ضد المملكة، وأكدت الصحيفة أن المعتقلين بالعشرات، وأن عددا منهم هم من مشايخ الدين المعروفين الذين يحظون بأتباع كثيرين عبر وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة مثل سلمان العودة وعوض القرني وعلي العمري وغيرهم، وسبق لهم أن انتقدوا الحكومة السعودية، لكنهم ظلوا هادئين في الآونة الأخيرة، أو أنهم لم يقوموا بدعم السياسات السعودية على العلن بما فيها حصارها لدولة قطر.
ورأت الصحيفة أن حملة الاعتقالات الأخيرة قد تعكس الغضب والعصبية السعودية إزاء أي ملامح تدل على عدم الرضا داخل المملكة بسبب حصارها لقطر. وأشارت إلى أن بعض التقارير تقول إنه تم اعتقال هؤلاء لأنهم لم يتحدثوا بصوت عال لدعم السياسات الرسمية التي تتبعها السلطات السعودية. وقالت إن قادة السعودية ومؤسستها الدينية المحافظة يتجولون في حقبة سابقة من قرون غابرة، وإلا فكيف بهم يفسرون استمرار اعتقال المدون السعودي رائف بدوي الذي اعتقلته السلطات السعودية منذ 2012 وحكمت عليه بالسجن عشر سنوات وبجلده 1000 جلدة - تم جلده خمسين منها لحد الآن- وكل ذنبه أنه أنشأ موقعا على الإنترنت لمجرد التعبير عن الرأي.
كما تساءلت الصحيفة كيف تفسر لنا السلطات السعودية دعوتها الأخيرة للسكان لاستخدام تطبيق مجاني عبر الهاتف للإبلاغ عن أي شخص قد يعتبر مخربا؟ وأضافت أن هذه ربما تكون طريقة ستالين في استخدام تويتر وتختم صحيفة واشنطن بوست بالقول إنه من السهل وضع مخططات الإصلاح، كما فعل ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، إلا أن بناء مجتمع حديث وصحي أصعب بكثير.
حملات قمع مروعة
السعودية خسرت الكثير في الاونة الاخيرة وهي الان مثل الوحش المجروح يحاول ان يفترس كل من يقف امامه ظنا منه انه هو المتسبب في ايذائه، فتزيد بذلك تشويها لصورتها المشوهة امام العالم بشقيه المتخلف والمتقدم، وقد تكون اكبر خسائرها هو تحول بعض اذرعها الاعلامية الى اصوات معارضة وهذا يعني الكثير في دولة تعودت رسم الإستراتيجيات على رمال متحركة، وصور بلا واقع.
الكاتب السعودي المعروف جمال خاشقجي وصف حملات القمع والترهيب التي تقودها المملكة حاليًا بـ"الأمر المروع والغريب والمتناقض"، ولم يشهد المجتمع السعودي مثله من قبل، موضحًا أنّ معظم الذين طالتهم حملة القمع الأخيرة كانوا يؤيدون ابن سلمان وأيدوا خططه الاقتصادية والاجتماعية، واستنكر مطاردة المملكة للإسلاميين وجماعة الإخوان المسلمين على الرغم من أنها "أم الإسلام السياسي"؛ حتى إنها تتجنب في قانونها مصطلح "دستور" لاعتباره علمانيًا، حسبما ذكر في مقال على "الواشنطن بوست".
وقال الكاتب السعودي "عندما أتكلم عن الخوف والترهيب والاعتقالات والإرهاب العلني للمثقفين ورجال الدين الذين تجرؤوا على التعبير عما يدور في أذهانهم أقول لك إنني من السعودية. هل تفاجأت؟ فمع صعود ولي عهد الأمير محمد بن سلمان إلى السلطة وعد بإدخال إصلاحات اجتماعية واقتصادية، وتحدّث عن جعل السعودية أكثر انفتاحًا وتسامحًا، ووعد بأن يعالج الأمور التي تعرقل تقدمها؛ مثل حظر قيادة المرأة للسيارات".
وأضاف: "لكنّ كل ما رأيته حتى الآن هو موجة الاعتقالات الأخيرة. وفي الأسبوع الماضي، أفادت التقارير بأن السلطات احتجزت نحو 30 شخصًا قبيل صعود ولي العهد إلى العرش"، وبعض المعتقلين أصدقاء شخصيًا له، وهم جيدون، مضيفًا: "ما تفعله السعودية بالمثقفين ورجال الدين الذين يعبّرون عن آرائهم المختلفة مع القيادات السعودية أمرٌ مخجل".
وتابع: "المشهد كان مأساويًا للغاية؛ إذ اقتحم رجال الأمن المقنّعون المنازل بكاميرات، وصوروا كل شيء، وصادروا الأوراق والكتب والحواسيب، واتهموهم بتلقي أموال قطرية وأنهم جزء من المؤامرة القطرية ضد السعودية. وبجانب ذلك، يواجه كثيرون، ومنهم أنا في المنفى، خطر الاعتقال حال عودتنا إلى ديارنا".
وقال: "فُصلت من عملي في جريدة الوطن السعودية مرتين في عام 2003 ومرة أخرى في عام 2010، وما بين هذه السنوات اُنتُدبت مستشارًا إعلاميًا للأمير تركي الفيصل، السفير السعودي لدى بريطانيا ثم الولايات المتحدة. ربما يبدو غريبًا أن تفصلني الحكومة ثم تنتدبني لخدمتها في الخارج، وهو التناقض الذي أشير إليه هنا"، مضيفًا: "بأشد العبارات، تحاول المملكة العربية السعودية تخفيف وجهات النظر المتطرفة للإصلاحيين الليبراليين ورجال الدين المحافظين، والاعتقالات الأخيرة نتيجة لهذا النهج".
وتساءل الكاتب: "لماذا انتشر هذا المناخ من الخوف والترهيب بعد إعلان زعيم شاب ذي كاريزما لإصلاحات طال انتظارها لتحفيز النمو الاقتصادي وتنويع اقتصادنا؟ لقد حظي ابن سلمان بشعبية كبرى نتيجة هذه الخطط، وحظيت بتأييد معظم رجال الدين والكتاب ونشطاء السوشيال ميديا، الذين أُلقي القبض عليهم".
خلافات بين الصحفيين
انتقلت ازمة الخلافات السعودية الداخلية من مواقع القرار العليا داخل الاسرة الحاكمة الى مواقع التواصل الاجتماعي كالنار في الهشيم، ووجد بعض النشطاء ضالتهم في التعبير عن الكبت الذي يضمره صمتهم الطويل، ما دام الجميع يصرخ بالضجيج، سيما اذا كانت بين المسؤولين الكبار في الدولة.
الكاتب الصحفي جمال خاشقجي الذي اثار ضجة في السعودية بسبب مقاله في الواشنطن بوست، قال إنه انتسب إلى جماعة الإخوان المسلمين في مرحلته الدراسية، مشيراً إلى أنه ليس وحده من فعل ذلك؛ بل العديد من المسؤولين والوزراء أيضاً. وتأتي تغريدة خاشقجي عن وجود وزراء حاليين انتموا سابقاً إلى جماعة الإخوان المسلمين، في وقت تواصل فيه السعودية عداءها للجماعة، وتهاجم كل من يُظهر تعاطفاً معها، كما أن الرياض وضعت الجماعة على لائحة الإرهاب الخاصة بها.
وجاء ذلك في تغريدة كتبها خاشقجي، في وقت متأخر من مساء الخميس 21 سبتمبر/ أيلول 2017، بحسابه الرسمي على موقع تويتر، قال فيها: "كلام لورنس صحيح، انتميت لتيار الإخوان في الجامعة، ولَم أكن وحدي، وزراء حاليون ووكلاء انتموا للإخوان في شبابهم، ثم كبرنا واستقلينا برأينا".
وردّ خاشقجي في تغريدة أخرى على الصحفي السعودي عبد الرحمن الراشد، الذي قال إن "الخاشقجي إخواني اختار الالتحاق بجماعته الإخوان لا أكثر ولا أقل ولا تستحق الضجيج". وكتب خاشقجي: "لماذا تنسبون كل عمل نبيل للإخوان. مثل الدفاع عن معتقلي رأي؟! بل هذا واجب كل صاحب رأي (يستطيع ذلك) ولا تحتاج أن تكون إخوانياً للقيام به".
اضف تعليق