الاستفتاء الذي أجري في تركيا، وأسفر عن تأييد توسيع صلاحيات الرئيس رجب طيب أردوغان، اصبح محط اهتمام اعلامي واسع، خصوصا مع تشكيك الإطراف المعارضة والمراقبين الدوليين في نزاهة النتيجة المعلنة والتي تجاوزت 51%. وكانت اللجنة المشتركة لمكتب منظمة الأمن والتعاون في أوروبا للمؤسسات الديموقراطية وحقوق الإنسان، والجمعية البرلمانية لمجلس أوروبا انتقدا ظروف إجراء الاستفتاء في تركيا، قائلين إن الفرص في الحملة التي سبقت التصويت على توسيع صلاحيات الرئيس "لم تكن متكافئة" كما أن عملية فرز الأصوات شابتها عملية تغيير للإجراءات في اللحظة الأخيرة.
كما تظاهر بحسب بعض المصادر، نحو ألفي شخص في شوارع إسطنبول رفضا لنتيجة الاستفتاء على توسيع سلطات الرئيس، وهتف المتظاهرون "جنبا إلى جنب ضد الفاشية" وسلكوا شوارع منطقة كاديكوي على الضفة الآسيوية لإسطنبول وصولا إلى مقر المجلس الانتخابي الأعلى. وتزامنا، تجمع حشد آخر في حي بشيكتاش المعروف بمناهضته لأردوغان وتمسكه بالعلمانية على الضفة الأوروبية للمدينة.
وسارع أكبر حزبين معارضين، حزب الشعب الجمهوري وحزب الشعوب الديموقراطي، إلى رفض نتيجة الاستفتاء منددين بـ"تلاعب كبير بالنتائج" ، وأكدا عزمهما على طلب إعادة احتساب الأصوات. ونظمت تظاهرات أخرى مماثلة ولكن بحجم أقل في مختلف أنحاء تركيا. ونقلت وسائل الإعلام أن 13 شخصا اعتقلوا في أنطاليا بجنوب البلاد.
فوز أردوغان في الاستفتاء لن يكسبه تعزيزا لصلاحياته الرئاسية فحسب، بل سيتيح له أيضا إمكانية البقاء في الحكم حتى 2029. وكان تولى رئاسة الوزراء بين 2003 و 2014 قبل أن يصبح رئيسا. ويحكم إردوغان، السياسي الشعبوي الذي ترجع جذوره إلى الأحزاب الإسلامية، تركيا بلا منافس حقيقي منذ 2003 وصعدت بلاده خلال تلك الفترة لتصبح واحدة من أسرع القوى الصناعية نموا في أوروبا والشرق الأوسط. وأصبح إردوغان أيضا في محور السياسة الدولية إذ يقود ثاني أكبر جيش في حلف شمال الأطلسي على الحدود مع مناطق حرب في الشرق الأوسط مما جعل تركيا تستقبل ملايين اللاجئين السوريين وتتحكم في تدفقهم على أوروبا.
ابطال الاستفتاء
وفي هذا الشأن دعا نائب رئيس حزب المعارضة العلماني الرئيسي في تركيا لإبطال الاستفتاء على تعزيز سلطات الرئيس وقال إن الحزب سيطعن على الاستفتاء أمام المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان إذا اقتضى الأمر. وقال بولنت تزجان نائب رئيس حزب الشعب الجمهوري إن الحزب تلقى شكاوى من الكثير من المناطق بأن الناخبين لم يتمكنوا من التصويت في سرية وأضاف أن بعض عمليات الفرز تمت في السر.
وذكر أن قرار لجنة الانتخابات العليا قبول بطاقات اقتراع غير مختومة هو مخالفة صريحة للقانون. وقال خلال مؤتمر صحفي "في تلك اللحظة من المستحيل تحديد كم عدد هذه الأصوات وكم عدد أوراق الاقتراع التي خُتمت في وقت لاحق. لذا فإن القرار الوحيد الذي سينهي الجدل بشأن شرعية (التصويت) وتهدئة مخاوف الناس القانونية هو أن تبطل لجنة الانتخابات هذه الانتخابات." وأضاف أن الحزب سيقدم شكوى لسلطات الانتخابات البلدية ولجنة الانتخابات وبحسب نتيجة هذه الشكاوى سيتوجه إلى المحكمة الدستورية والمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان وغيرها من الجهات المعنية.
وقال حزب الشعوب الديمقراطي الموالي للأكراد إنه قدم شكاوى بشأن بطاقات اقتراع غير مختومة أثرت على ثلاثة ملايين ناخب وهو أكثر من ضعف الهامش الذي فاز به إردوغان. وقال حزب الشعب الجمهوري العلماني المعارض إنه ليس من الواضح بعد عدد الأصوات التي تأثرت. وقال بولنت تزجان نائب رئيس الحزب "القرار الوحيد الذي سينهي الجدل بشأن شرعية (التصويت) وتهدئة مخاوف الناس القانونية هو أن تبطل لجنة الانتخابات هذه الانتخابات."
ونجا إردوغان من محاولة انقلاب العام الماضي ورد بحملة قمع سجنت 47 ألف شخص وعزلت أو أوقفت عن العمل أكثر من 120 ألفا من وظائف حكومية مثل المعلمين والجنود وأفراد الشرطة والقضاة وآخرين. وقد تبقيه تلك التغييرات في السلطة حتى عام 2029 أو ما بعد ذلك ليصبح بسهولة أهم شخصية في التاريخ التركي منذ أن أقام مصطفى كمال أتاتورك الجمهورية الحديثة على أنقاض الإمبراطورية العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى.
العقلية الصليبية
الى جانب ذلك ندد الرئيس التركي طيب إردوغان بما وصفها "العقلية الصليبية" للغرب بعدما انتقد مراقبون استفتاء يمنحه سلطات واسعة فاز به بأغلبية بسيطة كشفت عن الانقسامات في البلاد. وألقى إردوغان كلمة من على درج قصره في أنقرة أمام حشد من أنصاره لوحوا بالأعلام وأبلغ المراقبين بأنه لن يصغي إليهم مضيفا أنه لن يكون من الأهمية بمكان بالنسبة لتركيا أن يعلق الاتحاد الأوروبي محادثات انضمامها لعضويته.
وقال الرئيس التركي إن تصويت يوم أنهى كل الجدل بشأن تعزيز سلطات الرئاسة وتعهد بالبدء فورا في تنفيذ الإصلاحات. لكن حزب المعارضة الرئيسي رفض النتيجة ودعا إلى إبطال الاستفتاء. وشارك الآلاف في مسيرات في ثلاث على الأقل من ضواحي اسطنبول وهتف بعضهم "إردوغان.. لص" و"لا للرئاسة" و"هذه مجرد بداية" وذلك بعد دعوات على وسائل التواصل الاجتماعي للاحتجاج في عدة مدن.
وقالت السلطات الانتخابية إن النتائج الأولية تظهر أن 51.4 بالمئة من الناخبين أيدوا أكبر تعديل على النظام السياسي التركي منذ تأسيس الجمهورية الحديثة. ويقول إردوغان إن تركيز السلطات في أيدي الرئيس ضروري لمنع الاضطرابات. غير أن فوزه بأغلبية ضئيلة قد يأتي بأثر عكسي ويزيد الاضطراب في بلد خرج في الآونة الأخيرة من محاولة انقلاب وشهد هجمات نفذها متشددون إسلاميون ويواجه تمردا كرديا واضطرابات أهلية والحرب في سوريا المجاورة.
وكشفت النتيجة عمق الانقسام بين الطبقة المتوسطة في المدن التي ترى مستقبل البلاد في الإطار الأوروبي والفقراء المحافظين في الريف الذين يؤيدون قبضة إردوغان القوية. وأوضح إردوغان نيته تحويل مسار البلاد بعيدا عن أوروبا إذ كشف عن خطط لإعادة العمل بعقوبة الإعدام وهو ما سيقضي فعليا على مسعى بلاده منذ عقود للانضمام لعضوية الاتحاد الأوروبي.
وقال إردوغان لأنصاره لدى وصوله إلى مطار أنقرة معلقا على تقييم المراقبين "العقلية الصليبية للغرب ولخدامه في الداخل هاجمتنا." وفي أشد انتقاد وجهه مراقبون أوروبيون لانتخابات تركية قالت بعثة المراقبين من مجلس أوروبا الذي يضم 47 عضوا، وهو المؤسسة الرائدة بالقارة في مجال حقوق الإنسان، إن الاستفتاء لم يكن منافسة متكافئة.
وقالت البعثة إن الدعم لحملة المؤيدين للتعديلات الدستورية هيمن على التغطية للحملات الانتخابية وإن اعتقال صحفيين وإغلاق وسائل إعلام منع إيصال وجهات النظر الأخرى. وقال سيزار فلورين بريدا رئيس البعثة "بوجه عام... لم يرق إلى معايير مجلس أوروبا. الإطار القانوني لم يكن كافيا لإجراء عملية ديمقراطية حقيقية."
وأضافت البعثة أنه برغم أنه لم تكن لدى المراقبين معلومات عن تلاعب فعلي فإن قرار السلطات الانتخابية في اللحظات الأخيرة السماح بفرز أوراق اقتراع غير مختومة قوض أحد الضمانات المهمة وتعارض مع القانون الانتخابي. ورفضت وزارة الخارجية التركية انتقادات المراقبين ووصفتها بأنها تفتقر إلى الموضوعية والنزاهة. وكشفت الحملات الانتخابية الشرسة والتصويت "بنعم" بفارق ضئيل عن الانقسامات العميقة في تركيا حيث من المرجح أن المدن الثلاث الرئيسية في البلاد إلى جانب الجنوب الشرقي ذي الأغلبية الكردية قد صوتوا "بلا". ومن المقرر إعلان النتائج خلال الاثني عشر يوما المقبلة.
وقالت وزارة الخارجية الأمريكية إنها أحيطت علما بالمخاوف التي أثارها المراقبون الأوروبيون بشأن الاستفتاء وتتطلع إلى تقرير نهائي. وحثت الحكومة التركية على حماية حقوق وحريات كل المواطنين بغض النظر عن التصويت. وقالت ألمانيا التي يقيم فيها نحو أربعة ملايين تركي إن الأمر يعود لإردوغان نفسه لرأب الصدوع التي كشفها التصويت. بحسب رويترز.
وقالت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل ووزير الخارجية زيجمار جابرييل في بيان مشترك "نتيجة الاستفتاء المتقاربة تظهر عمق الانقسام في المجتمع التركي وتعني أن القيادة التركية عليها وعلى الرئيس إردوغان ذاته مسؤولية كبيرة." وتوترت علاقات أوروبا مع تركيا خلال الحملة السابقة للاستفتاء عندما منعت دول أوروبية من بينها ألمانيا وهولندا وزراء أتراكا من عقد لقاءات جماهيرية لحشد التأييد للتعديلات الدستورية. ووصف إردوغان القيود بأنها تشبه تصرفات النازي. وفقا للتعديلات الدستورية، التي لن يدخل أغلبها حيز التنفيذ إلا بعد الانتخابات القادمة المقررة في 2019، سيعين الرئيس مجلس الوزراء وعددا غير محدد من نواب الرئيس وسيتمكن من إقالة موظفين مدنيين كبار دون موافقة البرلمان.
توافق وطني
على صعيد متصل قالت المفوضية الأوروبية إنه يجب على تركيا السعي إلى التوصل لتوافق وطني واسع بشأن تعديلاتها الدستورية في ضوء الفارق البسيط بين مؤيدي التعديلات ومعارضيه في الاستفتاء الذي أجرته. وقالت المفوضية في بيان "في ضوء النتيجة المتقاربة للاستفتاء والآثار البعيدة المدى للتعديلات الدستورية ندعو أيضا السلطات التركية إلى السعي إلى التوصل إلى أكبر توافق وطني ممكن في تنفيذها."
وأصبحت تركيا العضو في حلف شمال الأطلسي والتي بدأت محادثات للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي في 2005 شريكا مهما للاتحاد باستيعابها لملايين اللاجئين الفارين من الحرب الدائرة في سوريا منذ ست سنوات. ولكن حملة قمع شنها إردوغان منذ وقوع انقلاب فاشل في يوليو تموز الماضي قوبلت بإدانة في العواصم الأوروبية.
وقال بيان الاتحاد الأوروبي الذي أصدره رئيس المفوضية جان كلود يونكر ومسؤولان كبيران آخران إن المفوضية الأوروبية علمت بنتيجة الاستفتاء وتنتظر تقييما لبعثة مراقبة دولية "أيضا فيما يتعلق بالمخالفات المزعومة." وسيتم تقييم التعديلات الدستورية في ضوء التزامات تركيا كدولة مرشحة للانضمام للاتحاد الأوروبي وكعضو في مجلس أوروبا الذي يراقب الديمقراطية وحقوق الإنسان وسيادة القانون في القارة الأوروبية. بحسب رويترز.
وقالت المفوضية"نشجع تركيا على معالجة مخاوف مجلس أوروبا وتوصياته بما في ذلك ما يتعلق بحالة الطوارئ." وانتقد أعضاء البرلمان الأوروبي إلى حد كبير نتيجة الاستفتاء. وقال مانفريد فيبر زعيم تجمع يمين الوسط إن إردوغان قسم بلاده في حين قالت سكا كيلر الزعيمة المشاركة لأعضاء البرلمان الأوروبي من أحزاب الخضر إن هذه النتيجة "ضربة قاصمة للديمقراطية في تركيا."
ضربة قوية
من جانب اخر انتصار أردوغان كان مشوبا بطعم المرارة بسبب ضعف نسبة مؤيدي التعديلات التي ناهزت بالكاد حاجز الـ51 بالمئة. المجلس الانتخابي الأعلى أكد أن عدد المصوتين "بنعم" تقدمت على رافضي التعديلات بمليون و250 ألف صوت فقط، ما يعني أن الانقسام داخل المجتمع أصبح السمة الغالبة على الساحة التركية.
وبالرغم من "هزيمة" معسكرها في الاستفتاء، فقد تمكنت المعارضة من حشد التصويت ضد التعديلات في المدن التركية الكبرى الثلاث وهي إسطنبول وأنقرة وأزمير، وكذلك في مدن أخرى عالية الكثافة السكانية مثل أضانة وأنطاليا ومرسين ودنيزلي. وهذا التوزيع الجغرافي للتصويت يشكل ضربة قوية للرئيس أردوغان. وأظهرت نتائج التصويت أن 51.4 بالمئة من سكان إسطنبول رفضوا التعديلات، كما صوت 51.2 بالمئة من سكان أنقرة بـ"لا". وهاتان المدينتان معقلان هامان لحزب"الحرية والعدالة". لذلك تعتبر هذه النتائج بمثابة صفعة لأردوغان، فهي المرة الأولى منذ 14 عاما التي تصوت فيها إسطنبول وأنقرة وأزمير ضد الرئيس.
ميز التصويت "بلا" أيضا منطقة جنوب شرق تركيا ذات الغالبية الكردية، حيث وصل عدد رافضي التعديلات الدستورية في دياربكر إلى 67.6 بالمئة. وفي مفاجأة أخرى، لكنها هذه المرة "سعيدة" لمعسكر الرئيس التركي، تفوق عدد المؤيدين في منطقة الأناضول والتي تعد تاريخيا أحد معاقل المعارضة التركية الكردية منها والعلمانية . من جهة أخرى جاءت أصوات المغتربين لصالح التعديلات الدستورية بغالبية كبيرة وصلت إلى 63 بالمئة في فرنسا وكذلك في ألمانيا، وبلغت 75 بالمئة في بلجيكا و70.9 بالمئة في هولندا.
الى جانب ذلك اتصل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بنظيره التركي رجب طيب أردوغان لتهنئته غداة فوزه في الاستفتاء الذي يوسع صلاحياته ويضمن له نظريا الاستمرار في الحكم لسنوات أخرى. ونقلت وكالة الأنباء الحكومية "الأناضول" عن مصدر في الرئاسة التركية أن "ترامب اتصل بأردوغان وهنأه على نجاحه في الاستفتاء".
اضف تعليق