قبل نحو 40 عاماً صوت ثلثي الشعب البريطاني على مصلحة البقاء فيما يسمى آنذاك بـ "الجماعة الأوربية"، أو ما يعرف حالياً بـ "الإتحاد الأوربي"، منذ ذلك الوقت، أخذت تكرس لندن وجودها بشكل يخدم مصالحها حتى قيل أنها وصفت بأنها كمن "ينتقي حبات الزبيب"، لكن الثلث الذي بقي يضمن قرار الانسحاب بدأ يكبر شيئاً فشيئاً ليتحول هذا القرار مع الوقت أمراً واقعاً، فهل هذا الانسحاب هو ما يتطلع إليه الشعب البريطاني حقاً؟
تشير نسب استفتاء الخروج الذي أجري في عام 2016 إلى أن 51,9% من البريطانيين صوتوا مؤيدين قرار الخروج من الاتحاد الأوربي، فيما يفضل 48,1% البقاء فيه، وهذا الفارق الضئيل يؤكد أن البريطانيين لم يكونوا يفكرون بشكل جدي يوماً ما بالخروج من الاتحاد الأوربي، لكن ثمة مخاوف جراء ما يحدث في العالم من اضطرابات دفعت بهم نحو تركه، وهناك من يحاول إثارة هذه المخاوف عبر قنوات خاصة.
في الوقت الحالي، ربما التحدي الأكبر الذي ترى بريطانيا أنها يجب تتجنب مواجهته هو التحدي الاقتصادي إلى جانب مخاوف ليست ببعيدة عن هذا الجو تتعلق بسياسة أوربا تجاه الهجرة إليها الذي بدأ يتسع شيئاً فشياً بعد اجتياح الجماعات الإرهابية المسلحة للعديد من الدول.
انفصال بفاتورة ضخمة
ثمن -سياسي وآخر اقتصادي- باهظ جداً قد يدفعه الجانبان سيطفو على السطح بعد قرار الانفصال النهائي في غضون عامين، والذي يراه مراقبون أنه ينذر بتفكك بريطانيا وتصدع كبير قد يصيب الاتحاد الأوربي، فلندن واحدة من أكبر المساهمين في ميزانية الاتحاد، وخروجها سوف يسبب ثلمة كبيرة.
خلال هذين العامين، بريطانيا التي كانت تعتبر الطفل المدلل داخل الاتحاد، ملزمة بتفاوض ستضع أسسه قمة سيعقدها قادة الدول الاعضاء الـ 27 في السادس من نيسان/ أبريل الجاري، يتضمن تفاصيل شائكة، منها مناقشة 60 الف نص قانوني و مشاكل وضمانات يجب أن تقدم لمواطني بريطانيا في دول الاتحاد والعكس أيضا، وفقاً لمحللين.
كما أن بريطانيا مطالبة بدفع مبلغ يصل إلى نحو 60 مليار يورو في إطار الالتزامات التي قطعتها لندن كمساهمة في ميزانية الاتحاد الأوربي الذي كانت جزءاً منه، لكن البريطانيون حددوا المبلغ بنحو 20 مليار يورو، فهم يرون أنفسهم ليسوا مجبرين على دفع هذه الفاترة الضخمة التي يفرضها الاتحاد عليهم.
بريطانيا: لن ندفع مبالغ هائلة من المال
وترى دول الاتحاد الأوربي أنها ستبقى تتحمل مسؤولية التزامات تتعلق بلندن، وأن هذه الالتزامات ستترك جيوب الدول الـ 27 خالية، فـ : "... يجب تسوية الحسابات، لا أكثر ولا أقل". هكذا يقول أحد المفاوضين في الاتحاد الأوربي، وفقاً لرويترز.
لكن رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي خاطبت قادة الاتحاد الأوربي بقولها: "بريطانيا لن تدفع مبالغ هائلة من المال إلى الاتحاد الأوروبي كل عام".
ما يثير غضب بروكسل هو أن لبريطانيا أسهم وحصص في ممتلكات تابعة للاتحاد الأوربي ويمكن أن تستخدمها كورقة مقايضة للخروج وقد تكون أهمها مبانٍ ومقرات لمؤسسات الاتحاد، كما أن للندن دور كبير في توفير الأمن للاتحاد الأوربي ومن الممكن جداً أن يدخل ضمن خيارات الضغط على الاتحاد في مسألة التفاوض.
مغادرة لا رجعة عنها
يضم الاتحاد الأوربي 28 دولة وتأسس وفقاً لاتفاقية أو معاهدة "ماسترخت" الشهيرة، والتي وقعت عام، 1992 لكن عمر فكرة الاتحاد تكبر كثيراً عام التأسيس هذا، إذ يقال أنها سبقت ذلك بخمسين عام على الأقل.
ومنذ ذلك الحين.. هذه هي المرة الأولى التي ينفصل فيها عضو هام مثل بريطانيا عن هذا الاتحاد الذي له نشاطات عديدة أبرزها سوق موحد بعملة موحدة هي "اليورو" والذي تستخدمه نحو 19 دولة.
وبعد ستة أشهر من الاستفتاء الذي أجرته لندن، وقعت رئيسة الوزراء البريطانية ماي رسالة الإخطار بالخروج، وأعلنت في البرلمان البريطاني: "المملكة المتحدة تغادر الاتحاد الأوروبي. إنها لحظة تاريخية لا رجعة عنها".
لكن رئيسة الوزراء كانت من معارضي الخروج، غير أنها ترى بإلزام تنفيذ رغبة شعبها، وأمامها من الآن عامين لحل المشاكل العالقة مع الاتحاد وتسوية شروط الانسحاب.
مقامرة كبيرة
أما بروكسل، عاصمة الاتحاد الأوربي، فتعيش في ظل هذه الاجواء مخاوف من أن يكون خروج بريطانيا بداية لانهيار هذا الإتحاد، الأمر الذي قد تضع فيه بروكسل وباقي الدول الأعضاء لهذا الخروج ثمناً كنوع من الردع لكل من يفكر بالخروج مجدداً.
لكن لندن تحاول أن تنسحب بنبرة تصالحية، فهي تعد بإقامة شراكة مع الاتحاد الأوربي، إضافة إلى "الانخراط في الأسواق الأوروبية لأقصى درجة ممكنة" وسط حرية حركة السلع والخدمات ورأس المال والأشخاص، بحسب تيريزا ماي.
حتى الآن، يعتبر المعارضون أن قرار الخروج من الاتحاد الأوربي مقامرة كبيرة، وأن احتمالات الخسارة أكبر كثيراً من احتمالات الربح، فقد يودي هذا القرار إلى فقدان نحو 100 الف وظيفة في بريطانيا وحدها، لكن الحكومة البريطانية ومؤيدي قرار الانسحاب يقللون من أهمية ذلك بتخفيضات ضريبية وبرامج استثمارية ضخمة للشركات بهدف دعم الاقتصاد البريطاني.
مبررات لندن للانسحاب
ويتحدث الخبراء بشأن أسباب الخروج عن مخاوف لندن تجاه دول اليورو الـ 19 فيما لو سيطرت على القرار السياسي في الاتحاد الأوربي، إذ ترى بريطانيا، أن القرارات تحولت بيد الاتحاد النقدي بعد ان أصبحت تتطلب تفاوضاً مسبقاً مع أعضائه قبل اتخاذها ومن ثم تعرض على باقي الدول الاعضاء في الاتحاد الأوربي.
كما أن من أهم الأسباب التي تتعكز عليها لندن في هذا الخروج، هو القوانين التي يفرضها الاتحاد الأوربي والتي تسببت بتدفق أعداد هائلة من المهاجرين إليها أحدثوا خللاً في المستوى العيشي وشكلوا عبئاً مادياً إلى جانب تأثير هذا التدفق على الوضع الاجتماعي لبريطانيا.
وسبق وأن طالبت بريطانيا بطرق جدية للتحكم بالمهاجرين من شرق أوربا لكن الاتحاد الأوربي لم يستجب لهذه المطالب.
قد تكون وراء دفع الامور باتجاه الخروج من الاتحاد الأوربي دوافع ومصالح سياسية، وفق ما يراه خبراء ومحللين، وأن خدعة المخاوف بشأن تدفق المهاجرين إلى لندن والأزمات الاقتصادية التي تضرب الاتحاد قد انطلت على الشعب البريطاني في زمن يسهل فيه تزوير الوقائع، وأن قارب الاتحاد الأوربي لم يغرق لكي تقفز منه بريطانيا طالبة النجاة.
اضف تعليق