بالتربية السليمة تتفوق الأمم على سواها، ويعلو شأن الأفراد بها، أما الجماعات فإنها تكون أفضل من سواها كلما التزمت بالتربية الإنسانية التي تحفظ مقامات الناس، من هذا المنطلق كانت مدرسة الرسول الكريم محمد (ص)، تنطلق من مبدأ الحفاظ على مكانة وكرامة الناس في أدق التفاصيل، كطبيعة الجلوس والبدء بالكلام، وتوصيل الحديث الى المستمع، ومراعاة فن الإصغاء للآخر، وإشعار المقابل بالاحترام وسوى ذلك من القيم الراقية.
واستنادا الى أهمية الجانب التربوي في حياة الإنسان والأمة، حرص النبي الكريم (ص) على الجانب التربوي، ونظرا لأهمية ذلك، فقد أخذ هذه المهمة على عاتقه، وشرع بتعليم الناس آداب المحادثة وأصول الحوار، حيث الاحترام يسود الطرفين ويغمرهما باللطف والفهم والتراضي، وبالتالي تقوية أواصر العلاقات الإنسانية القائمة على الاحترام.
يقول سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، في كتابه القيم، الموسوم بـ (السياسة من واقع الإسلام)، حول هذا الجانب: (كان النبي صلی الله عليه وآله يتولّى تربية أفراد الأمّة بنفسه غالباً، وكلما سنحت الفرص، يندمج معهم في الحديث، ويخوض حيثما خاضوا، ويصحح ما أخطأوا إمعاناً في جلب قلوبهم إلى الله ورسوله، وتعميقاً في هدايتهم إلى سبيل الله والرشاد.. وقد ورد ذلك في القرآن الحكيم في العديد من الآيات، مثل قوله سبحانه: لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ ويُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِين/ سورة آل عمران: الآية 164).
إن هذه التفاصيل الدقيقة في الحديث والمحاورة، ومجاراة الآخر في الكلام، وإظهار الاحترام، يأتي كدليل على التواضع، وتقديم رسائل التوافق والتراضي للآخر، فيكون الاندماج بالكلام معه مؤشرا نحو إظهار التواضع والعطف، لاسيما إذا كان أحد الطرفين هو المربي والمعلم للآخر، حيث يأخذ عنه طريقة الكلام، من حيث المحتوى، وحتى النبرة، حيث تؤثر صعودا أو خفضا في نبرة الكلام، والهدف دائما الصعود بنفسية الإنسان ومستواه الثقافي.
حيث يقول سماحة المرجع الشيرازي عن هذا الجانب: (كان في حديثه صلی الله عليه وآله مع المسلمين يندمج معهم كاملاً، اندماج المعلّم العطوف المربي الذي يحب أن يصعد بنفسيتهم وثقافتهم وتربيتهم).
التواضع من أهم خصال المعلم
المعلم، أو المربّي هو النموذج للمتعلمين بين يديه، عنه يأخذون الحركة والفكرة والكلمة وطريقة السلوك والتعامل والحوار، وتوصيل الفكرة أو الرأي، بل حتى في طريقة الجلوس مع الناس، المتعلمين أو سواهم، فلا ينبغي أن يميز المربي نفسه عن الآخرين، تواضعا منه، ولا يصح أن يترفع عليهم من حيث مكان الجلوس أو الملبس وما شابه.
لذلك كان الزائر للنبي محمد (ص) لا يعرف شخصه اذا كان يجلس مع آخرين، فهو (ص) يتشابه معهم في كل شيء حتى في الجلوس أو الملبس وما شابه.
كما نفهم ذلك من قول سماحة المرجع الشيرازي: (عن أبي ذر أنّه قال: كان رسول الله صلی الله عليه وآله يجلس بين ظهراني أصحابه فيجيء الغريب فلا يدري أيّهم هو حتى يسأل).
ليس في مضمار الكلام، أو دائرة الجلوس، أو الشكل الخارجي، بل هناك طريقة في القول والسلوك تنمّ عن التواضع الأصيل وليس المصطنع، أي أن الإنسان يتحرك، يتكلم، ويتفاعل مع الآخرين، وفق ما تكتنزه شخصيته من قيم وتربية وأخلاق عالية، تجعله على سبيل المثال يبادر الآخرين بالتحية ولا ينتظر ذلك منهم كما يتوهم كثيرون بأنه إذا بادر الآخر بالسلام فربما يعطي ذلك انطباعا بالضعف، لم يكن رسولنا الكريم (ص) يفكر بهذه الطريقة، بل كان الأول بإلقاء السلام على كل من يصادفه في طريق.
يقول سماحة المرجع الشيرازي حول هذا الجانب بكتابه المذكور نفسه: (كان رسول الله صلی الله عليه وآله إذا مرّ على جماعة بدأهم بالسلام، حتى قال بعض أصحابه: إنّه كلما أراد أن يبدأ النبي صلی الله عليه وآله بالسلام ـ إذا التقى به ـ فإذا بالنبي صلی الله عليه وآله يسبقه ويسلّم عليه).
لهذا كان النبي (ص) حريصا على كرامة من يجالسهم أو يجالسونه، فكان الجلوس على شكل دائرة، حتى يتساوى فيه الجميع بالموقع، فلا يكون أحد بالصدارة وآخر في النهاية، فقد ثبت أن الإنسان يمتلك من الحساسية العالية، بحيث يدقق في هذه الأمور التي قد تبدوا عادية أو بسيطة، لكنها في حقيقة الأمر تنعكس بصورة سيئة على الإنسان، وتصنع لديه وضعا نفسيا يشعره بالغبن، وربما يشعر بالاحتقار والاستصغار من الآخر، لذا ينبغي الأخذ بعين الاعتبار طريقة الكلام ونبرته، وشكل الجلوس وموقع الإنسان منه.
الحفاظ على كرامة الإنسان
وقد جعل رسولنا الكريم (ص) شكل الجلوس دائريا، حتى لا يكون هناك بداية أو نهاية للمجلس، فالكل يكونون في الموقع الأول والوسط والأخير في وقت واحد.
نقرأ ذلك في قول سماحة المرجع الشيرازي حول هذا الموضوع: (هذا الخلق الرفيع الذي لا يدع المجلس صدراً وذيلاً، ولا تهان كرامة أحد في المجلس لا عند الناس، ولا عند نفسه، فكل جالس في مثل هذا المجلس الدائري هو المبتدأ به، وهو الأخير، وهو الوسط.. هو الذي اتخذه الرسول صلی الله عليه وآله لسياسة جلساته مع المسلمين).
وقد تنبّه العالم المتمدّن الى هذه القضية، وأخذ عن رسولنا الكريم (ص)، وعن مدرسته في القيم والأخلاق والتربية والسلوك في أدق التفاصيل، لكي تكون هنالك مراعاة لمشاعر الناس وكرامتهم، فأخذت دول كثيرة من العالم هذه الدروس العظيمة عن مدرسة الرسول (ص)، خاصة في شكل مجالس البرلمان والوزراء والساسة على نحو عام.
كما نلاحظ ذلك في قول سماحة المرجع الشيرازي: (لقد تعلّم العالم هذا الخلق عن النبي الأكرم صلی الله عليه وآله بعد ما سار التمدّن فيه أكثر من عشرة قرون. ولذلك تجد مجالس البرلمان، ومجالس الوزراء، ومجالس الساسة ـ في كثير من بلدان العالم اليوم ـ دائرية).
هذه هي بعض ملامح مدرسة نبينا الأكرم (ص)، في التواضع، والتربية، والقيم، والسلوك في أدق تفاصيله، ولهذا ينبغي أن يأخذ ذلك قادة اليوم ويتبعون هذه المدرسة، لاسيما من ينتسب الى الإسلام قولا وفعلا، فقد كان القائد الأعلى للمسلمين نموذجا لهم، ليس فقط في إدارة شؤون الدولة والأمة، وإنما هو نموذج لهم، في التصرّف بتواضع، وفي طريقة الكلام، وفي الجلوس، ونوع اللباس وسوى ذلك مما جعل منه مثالا مكتملا للآخرين.
حتى أن قادة العالم في الجهات الأربع، شرقا وغربا، شمالا وجنوبا، دخلوا مدرسة النبوّة العظيمة، وأخذوا عنها أدق التفاصيل ووظفوها لصالحهم، ومن باب أولى أن يسعى قادة المسلمين جميعا الى الاستفادة عمليا من هذه المدرسة التربوية الأخلاقية الفكرية السلوكية الإنسانية العظيمة.
حيث يؤكد سماحة المرجع الشيرازي في هذا الإطار، على أهمية أن يأخذ قادة اليوم من المسلمين هذه الدروس كي يضعوها في خدمة المسلمين تقدماً وتطورا مستداما، حيث يقول سماحته في هذا المجال: (نكتفي بهذه النماذج لكي يتبعه القادة الإسلاميون في عصورنا فيعكسوا هذه الصورة الجميلة عن الإسلام وعن الرسول صلی الله عليه وآله فيجلبوا الناس إلى سعادة الدنيا والآخرة في ظل الإسلام الجميل.. الجميل..).
اضف تعليق