في مدوَّنات العلماء والفلاسفة وفي خزائن الفكر النفيسة، تحضر الأخلاق بقوة، ويسطعُ دورها موجّهاً مسيرة الحاكم والمحكوم قُدُماً، ودافعا لها نحو الارتقاء على نحو مستدام، فالأخلاق ترتفع بالعقول وتسمو بالنفوس، فيصير الفرد عنصرا فاعلا ومؤثرا في بناء وتشكيل وتطوير البيئة الاجتماعية أفضل للإنسان.
وعندما تتصدر مسيرة الإنسان أخلاقه الرفيعة فهذا يعني أنك أمام شخص صادق في القول والفعل والنوايا، وأنه يتحلى بدرجة عالية ومتفردة من الصبر في التعاطي مع شؤون الحياة كافة حتى لو كانت على درجة كبيرة من التعقيد والصعوبة، ومع هذا كله سوف نلاحظ أن صاحب الخلق الرفيع سمح الوجه، مستبشرا ترتاح له الروح وتُسَرّ به العين، ويطمئن له القلب.
يقول سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، في كتابه القيّم الموسوم بـ (العلم النافع) حول هذا الموضوع: إن (حسن الخلق هو أن تكون صادقاً في الكلام، صابراً عند المكاره، تلقى الناس دائماً ببشر الوجه وطلاقته).
وليس في قولنا أي شيء جديد، عندما نركّز على دور الأخلاق في صناعة الفرد والمجتمع المتميز، لكن الجديد، أو ما ينبغي الإشارة له، هو ذلك الإهمال الغريب في العصر الراهن لدور الأخلاق الريادي في تقويم العقل وتوجيهه صوب السبل السليمة لصياغة الحياة والتعاطي معها، فمنذ أن بدأت البشرية مشوارها الشاق في طريق الحياة الطويل، كانت الحاجة الى تهذيب النفوس ملحّة ومطلوبة سواءً على مستوى الأفراد أو الجماعات، ولعل الأخلاق هي الطريق الأقرب لتحقيق هذا الهدف، وقد أثبتت التجربة صحة هذا الرأي، فعندما يتحلى الفرد بأخلاق رفيعة، هذا يعني أننا نقف إزاء طاقة نظيفة بإمكانها أن تدفع الحياة خطوة الى أمام
ولطالما ركّز ديننا الإسلامي على هذا العامل الحيوي في تطوير الأمم، ونعني به الأخلاق، لذلك ليس غريبا أن يقول الرسول الأعظم (ص) في حديث شريف (إنما بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق) وليس مستغربا أن يضع الرسول (ص) هذه القيمة الكبرى للأخلاق، خاصة أنها تدفع باتجاه الخير وتعارض الشر، لهذا لابد من أن يتدرب الناس على ترويض النفس من خلال أخلاقهم التي ينبغي أن تتصدر أقوالهم وأعمالهم وتتحكم بنواياهم حتى يبقى الفرد عنصرا حيويا فيما يتحلى به من خصال.
يقول سماحة المرجع الشيرازي في هذا المجال: (إذا كان المرء حسن الخلق فإنّ دافع الخير عنده يغلب دافع الشرّ وسيكون نصيبه خير الدنيا والآخرة، بخلاف سيّئ الخلق فهو لا دنيا له ولا آخرة).
محبة الناس لحامل الأخلاق
من خلال حالة الاحتكاك بالناس لابد أننا اكتشفنا أنواعا لا تحصى منهم من حيث السلوك والتفكير، وهذا التباين والاختلاف بين الناس يعود الى طبيعة أخلاقهم وتربيتهم وشخصياتهم، ولكن نستطيع أن نجزم بأن الإنسان الذي يتحلى بقدر كبير من الأخلاق سوف يكون محبوبا من المجتمع.
وقد لوحظ أن الفرد الذي يتميز بأخلاق عالية، سوف يعود عليه ذلك بمزايا كبيرة، وفوائد لا تحصى، ولا شك أن الأخلاق السامية تمنح الإنسان قدرة كبيرة على التسامح ومعاملة الآخر وفقا لقيمته العالية وكرامته التي ينبغي على الجميع أن يحافظ عليها، لهذا حين يتحلى الفرد بالأخلاق الأصيلة القادرة على صيانة أفعاله ونواياه، فإنه سيتميز بالصفات العظيمة التي تجعله أشد إيمانا بحق الآخرين بالحياة الحرة الكريمة الآمنة، لذلك نجد أن حالة التعقّل والشهامة التي يتحلى بها صاحب الأخلاق تدفعه الى العفو عمّن يخطئ بحقه.
ويتميز الإنسان الذي يتحلى بأخلاق جيدة، بالقدرة على التعامل الفطري العفوي وعدم إن رد الإساءة بمثلها، بل التسامح والعفو والتعاون هي السمات المتميزة التي يتحلى بها أصحاب العقول الأخلاقية، كذلك هناك ميزة تمنحها الأخلاق لحاملها، فهي تجعله قادرا على تحقيق أهدافه التي يخطط لها بجدية.
لذا يرى سماحة المرجع الشيرازي: إن (طالب العلم إذا عزم على أن يكون حسن الخلق فسيصبح عالماً، والكاسب إذا عزم على ذلك سيصبح تاجراً، والزوج سيكون محبوباً عند زوجته، وهكذا الزوجة. بعبارة أخرى: إنّ حسن الخلق يكون محبوباً عند الله تعالى وعند الناس كافّة).
وحتما أننا لاحظنا من خلال نشاطنا الاجتماعي، أن التوفيق والنجاح يكمن في التحلي بالأخلاق الرفيعة، وتجنب التصادم بأشكاله كافة، وإبداء المرونة في التعامل مع الناس، حتى الذين يخطئون في حقنا ينبغي أن نتسامح معهم، ومن المستحسن أن لا نرد الإساءة بالإساءة، بل بالإحسان.
كما يؤكد ذلك سماحة المرجع الشيرازي في قوله: (إنّ من يريد التوفيق وخير الدنيا و خير الآخرة والمحبّة عند الله عزّ وجلّ وعند الناس ينبغي له أن يردّ السيئة بالإحسان والحلم).
العلاقة بين النجاح والأخلاق
ثمة ترابط لا يحتاج الى إثبات بين تحقيق الأفراد والمجتمع للنجاح، وبين التحلي بالأخلاق، فالملاحظ على مستوى الأفراد أن من يفتقر منهم الأخلاق، فإنه لا يمكن أن يحقق النجاح في حياته، وهذا ينعكس بطبيعة الحال على المجتمع عموما، لذلك ينبغي أن تسعى الجهات ذات العلاقة الى الاهتمام بهذا الشرط الحيوي من أجل دفع المجتمع خطوات الى أمام في مجال البناء السليم للنسيج المجتمعي.
لذلك يقول سماحة المرجع الشيرازي حول الدور الكبير للأخلاق في نجاح الإنسان بحياته، في كتابه المذكور نفسه: (لقد رأيت الكثير ممن اتّصف بالخلق الحسن من العلماء وغيرهم من سائر الناس كانوا موفّقين في حياتهم وكانوا محبوبين عند الناس ولم يلقوا صعوبة في حياتهم)، وحتما أن تحليهم بالأخلاق الرفيعة هو الذي منحهم هذه المكانة وهذا النجاح المضمون مسبقا.
من هنا يحث سماحة المرجع الشيرازي جميع المسلمين على التحلي بالأخلاق، لأنها بمثابة تأشيرة الدخول لعالم النجاح، وربما هناك من يذهب الى الخداع والزيف والتحايل والإساءة والعنف لتحقيق مآربه، لكنه في آخر المطاف سوف يصل الى طريق مسدود، وسوف يكتشف بعد فوات الأوان أنه يسير في الاتجاه الخاطئ، وكان إليه أن يتخذ من الأخلاق الفاضلة سبيلا له لتحقيق أهدافه.
لا ينطبق هذا فقط على الفرد الواحد، بل يشمل الآباء والأمهات أيضا، فثمة دور كبير للجانب الأخلاقي في المحيط العائلي، بمعنى أن الإنسان ينبغي أن يكون ذا طبائع وسلوكيات ونوايا متطابقة من حيث المظهر والجوهر، فحين يكون لسانه حلوا لابد أن تدعم هذا الكلام الجميل بالأخلاق الجميلة المكتملة، وحتما سوف تصب النتائج دائما في صالح الفرد ذاته ومن ثم العائلة بجميع أفرادها ومن ثم المجتمع عموما، يخاطب سماحة المرجع الشيرازي أصحاب الشأن قائلا حول هذا الموضوع:
(ينبغي لكم أن تعزموا على التحلّي بالأخلاق الحسنة، لتنالوا خير الدنيا وخير الآخرة). نعم هذا التركيز على العنصر الأخلاقي لا يأتي اعتباطا، بل هو نتيجة لتجارب ملموسة تمكنت من الاتقاء بالأفراد والمجتمعات الى درجة عالية من النجاح والتطور والاستقرار.
لذا ينبغي على الجهات ذات الشأن، ونعني بها (العائلة) وهي الحاضنة الأولى التي تمنح أفرادها الأخلاق، ومن ثم رياض الأطفال والمدارس، فهذه المؤسسات التربوية لها دورها الذي لا يستهان به في تزويد طلبتها بالأخلاق التي تقودهم نحو السبل الصحيحة والتي تنتهي بهم الى النجاح المضمون.
اضف تعليق