من الأمور المحسومة بشأن قضية التأثير في الآخرين، أن الفعل أكثر تأثيرا من القول على الانسان، فالطفل على سبيل المثال، يتعلم الأمور الجيدة والسيئة من أبيه من خلال ما تراه عيناه من أفعال تصدر عن أبيه، أما الأقوال فإنها أقل تأثيرا من الأفعال بنسبة عالية، هذا ما أثبتته التجارب، لذلك عندما يريد أحدنا أن يؤثر في الآخرين، ويضمن درجة عالية وسريعة من هذا التأثير عليه أن يحقق ذلك من خلال الفعل المتطابق مع القول.
نعم لا أحد يمكنه نكران ما يمكن أن تفعله الأقوال في الآخرين، باعتبارها ناقلة للأفكار، ولكن يبقى تأثيرا الأفعال في المقدمة دائما من حيث سرعة التأثير والانتقال الى الأشخاص الآخرين، لذلك تمثل سيرة الشخص منهلا للآخر، يأخذ منها ويتعلم بصورة سريعة، بغض النظر عن انتماء هذه السيرة الى الخير أو الشر، فالطفل يمكن أن يتعلم من أبويه الجيد والسيّئ تبعا لأفكارهما وسلوكهما، اذا كانت سيرة الأبوين جيدة سوف يكون التأثير جيدا ويصح العكس.
مثل هذا الأمر يمكن أن نلاحظه في قول سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله) الذي يرد في كتابه القيّم الموسوم بـ (العلم النافع) حيث يقول سماحته حول هذا الموضوع: (إنّ الناس لا يكونون كما تقولون، بقدر ما يكونون كما تكونون، إنّهم يأخذون من سيرتكم أكثر ممّا يأخذون من أقوالكم).
إذاً فتأثير الفعل يكون أسرع وأقوى من الكلام، وعندما تكون أقوال الناس مؤثرة في الآخرين، هذا لأنها تتطابق مع أفعالهم، وعندما تتطابق الأفعال والأقوال لشخص ما، فإن درجة تأثيره في الآخرين تكون عالية، ولو أننا حاولنا أن ندقق في هذا الأمر، سنجد أننا تأثرنا أكثر بمن تتطابق أقوالهم مع أفعالهم وليس العكس.
هذا المعنى نجده في قول سماحة المرجع الشيرازي: (إنّ الأشخاص الذين نراهم طيّبين ـ أو كنّا نراهم كذلك وانتقلوا إلى الدار الآخرة ـ إنّما تأثّرنا بسيرتهم أكثر ممّا تأثّرنا بكلماتهم، وما تأثُّرنا بكلماتهم إلاّ لأنّها طابقت أفعالهم. وبعبارة: إنّ كلماتهم التي نعتقد أنّها تتطابق مع سيرتهم هي التي أثّرت فينا وربّما غيّرتنا).
قارن بين ما تقول وما تفعل
حتما أننا جميعا نرغب بأن يكون كلامنا مؤثرا في الآخرين، خصوصا أطفالنا أو الناس المقربين منا والذين يهمنا أمرهم أكثر من غيرهم، فالمعلم مثلا يتمنى أن يكون طلابه متأثرين به، ولكن متى يمكن أن يحدث مثل هذا التأثير؟، لا شكل أن تطابق الأفعال مع ما يقوله ويعلنه الإنسان هو الطريق الأسرع للتأثير في الآخرين، فليس من المعقول أن نتأثر بإنسان ما يقول شيئا ويطبق شيئا آخر، بمعنى مهما كان كلامه جميلا وينطوي على مزايا جيدة، إذا لم ينطبق على أفعاله فلن يكون مؤثرا في الآخر.
لذلك على الإنسان أن يتدرب على تطبيق ما يقوله للناس قبل الشروع بإعلان قوله، وعندما يفشل في هذه المحاولات عليه أن يكررها مرارا وتكرارا وصولا الى القدرة على تحقيق التطابق بين ما يقول وما يفعل، فالمهم في هذا الجانب، أن نطبق ما نقوله في حياتنا، لا أن نقوله للناس ثم نناقضه في أفعالنا وتصرفاتنا.
كما يؤكد ذلك سماحة المرجع الشيرازي في قوله: (إذا أردت أن يكون كلامك مؤثّراً فانظر إن كنت قد عملت به، وإن لم تكن قد عملت به بعدُ فحاول أن تعمل به قبل أن تتفوّه به، وكرّر المحاولات ولا تيأس، لأنّ الأمر ممكن وإن كان لا يخلو من صعوبة).
من الغريب حقا أن لا ينتبه الإنسان الى الفرق الكبير بين ما يقول وما يفعل، ولو أن البشر حاول أن يقارن بين ما يقوله وما يفعله، سوف يكتشف أن الكثير من أقواله تناقض أفعاله او العكس، وعندما يغيب هذا التطابق بين الأقوال والأفعال، فإن مساوئ ذلك ستكون كبيرة ومتعددة، أولها هو ضعف أو غياب تأثير الشخص في الآخرين مهما كانت مكانته عندهم.
حتى الأب الذي يمثل نموذجا لأولاده، عندما ينصحهم بالامتناع عن شيء ما وهو نفسه لا يمتنع عنه، سوف ينظر إليه أولاده بمنظار آخر، ولن يطبقوا ما يقوله لهم، لأنه هو نفسه لم يطبق ما يقول، لذلك ينبغي على الإنسان أن يتنبّه الى هذا الجانب بقوة.
يقول سماحة المرجع الشيرازي حول هذا الجانب تحديدا: (لو راجع كلّ منّا نفسه بعد كلّ قول يقوله ونظَر إن كان قد عمل به أم لا، لتعجّب من كثرة ما يصدر عنه من أقوال مغايرة لأفعاله! وسيشعر حينها بمسؤولية الكلمة ومدى خطورتها، محاولاً لأن يقترن كلامه مع عمله).
وجوب القول الحق
بطبيعة الحال هذا لا ينفي تأثير القول الحق على الآخرين، فالكلام لاسيما ما يتعلق بأداء الواجبات ونبذ المحرمات، لا يمكن الاستغناء عنه، ولكن من الأفضل والمطلوب أيضا أن نطبق ما نقوله على سلوكنا وأنفسنا أولا، وعندما يرانا الآخرون ننفذ ما نقول سوف يحترمون أقوالنا وأفكارنا الجيدة، وهذه من المزايا المهمة للتطابق بين قول الشخص وفعله.
ولعل المقصود بالقول الحق، هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما يعبر عن ذلك الشرع، وهذا يؤكد أهمية الكلام والدعوة الى المعروف ومحاربة المنكر بالأقوال، لكن تبقى قضية التطبيق مهمة وينبغي أن تبدأ بالذات أول.
يقول سماحة المرجع الشيرازي حول هذا الجانب في كتابه المذكور نفسه: (إنّ القول الحقّ بحدّ ذاته واجب سواء في الواجبات أو المحرّمات، وهو ما يعبّر عنه الشرع بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر).
ومن المهم أن لا نستهين بالتأثير الذي يحدثه الكلام في الآخرين، خاصة اذا كان يصب في صالحهم، فسوف يترتب على مثل هذا التأثير هداية للآخرين، وهذا يجلب للإنسان ثوابا مضاعفا، وحسنات قد لا تخطر على بال صاحب الأقوال الحسنة والمؤثرة ايجابيا بالآخرين، وكلما كان التأثير مستمرا ومتواصلا، كلما كان الثواب مستداما ومضاعفا.
وعندما يهتدي إنسان من خلال ما تقوله من كلام أو توجيهات، فإن هذا الهداية ستقوده الى فعل الخير حتما، وهذا بالنتيجة يصب في صالحك أنت، لأنك كنت سببا في هدايته، لذلك أي عمل صالح يقول به هذا الفرد الذي اهتدى على يديك، ستحصل منه على حصتك من الثواب من دون أن يؤثر ذلك على ثواب وجزاء الفاعل الذي اهتدى من خلال كلامك لفعل الخير.
(لا ينبغي الاستهانة بالتأثير لأنّ كلامنا إذا أثّر في إنسان وعمل خيراً، فهذا يعني امتداد الثواب لنا مادام أثره باقياً. فلو أنّ شخصاً اهتدى بكلماتك وتربّى بسببها، فهذا يعني حصولك على الثواب كلّما عمل بها عملاً صالحاً دون أن ينقص من ثوابه شيء).
وهكذا نجد أن مزايا الكلام والفعل كثيرة، وكلاهما له تأثيره على انفراد، من جهة أخرى كلما كان كلام الإنسان الجيد متطابقا مع أفعاله سيكون تأثيره كبيرا في الآخرين، وهذه هي أهم المزايا نتيجة لهذا التطابق بين الاثنين، القول والفعل.
اضف تعليق