السلم الأهلي غاية أساسية لدى المجتمعات الذكية، فهي تفهم أهمية هذا الشرط في تحقيق الوئام والانسجام بين مكونات المجتمع، ومن ثم التفرغ للابداع والتطور، علما أن السلم الأهلي يؤثر في جميع المجالات الاخرى، فاذا تحقق هذا الاشتراط الهام، اصبح بالامكان تحقيق كافة اشكال الامن في جميع المجالات الاخرى لحياة المجتمع، لهذا يعد السلم الأهلي بمثابة الدعامة الحقيقية للمجتمع ومتانة نسيجه وتناغمه وانسجامه، وهذا يقود الى تحقيق ميزة مهمة من مزايا المجتمعات المتطورة، ونعني بها عدم الانشغال بالفتن والصراعات الجانبية الفارغة، بل الانشغال بما هو أهم وأرقى ونعني به صناعة سبل التطور والتقدم الى أمام دائما.
لذلك ركّزت القيم الاسلامية على أساسيات مهمة من اجل الحفاظ على تماسك المجتمع، منها على سبيل المثال التأكيد على تعميق العلاقات بالجوار وصنع اواصر انسانية قائمة على التكافؤ والتعاون، وقد أعطى الاسلام أهمية قصوى لهذا النوع من انواع الامن، كونه يتعلق بصورة مباشرة بحياة الناس، وأن أي خلل او اهمال يتعرض له الامن الاجتماعي من لدن الحكام والجهات المعنية، يؤدي الى كوارث حقيقية تصيب المجتمع، وتجعل حياته مشوهة ومشلولة، بحيث يصبح مجتمعا مشلولا وخاليا من ادنى القدرات، والمواهب والطاقات التي يمكن ان تجعله مجتمعا قويا متوازنا، وهذا يستعصي على التحقق ما لم تبذل الجهود الجماعية في تحقيق السلم الأهلي، فالكل تقع عليه مسؤولية الانشغال بهذا الهدف الجوهري
ومن بين الخطوات التي تسهم في تدعيم السلم الأهلي وتثبيت أركانه في ارض الواقع، اهتمام القادة والحكام وحكوماتهم بمبدأ العدالة والمساواة وتطبيق ذلك بين جميع المكونات بغض النظر عن اختلافها او تشابهها مع الحاكم من حيث الانتماء بأنواعه كافة حيث تؤكد الدلائل الملموسة أن الدولة الاسلامية في عهد الرسول (ص)، استطاعت أن تحقق أعظم نظام لتقارب مكونات المجتمع وتماسكها.
حيث تحول المجتمع في الجزيرة العربية من جماعة يسودها الاضطراب واهتزاز القيم وسيطرة القوي على الضعيف الى مجتمع تحكمه العدالة والقيم الانسانية الراقية، وهذا ساعد على نحو كبير في ترسيخ السلم بين المكونات المجتمعية ما جعلها تندمج في مكون واحد له ثقافة واحدة تساعده على التعامل بحنكة مع النظرة الى الحاضر والمستقبل والعمل على ترسيخ القيم الاجتماعية المتحضّرة ومن بين القيم الجديدة في المجتمع آنذاك ما ذكره سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله) في كتابه القيّم، الموسوم بـ (السياسة من واقع الاسلام)، عندما ذكر قولا لقائد الأمة الاسلامية في هذا المجال: (فمن ترك مالاً فلورثته ومن ترك ديناً فعليَّ).
قيم جديدة بعد الاسلام
مثل هذه القيم فاجأت الناس بسبب وقوفها الى جانب الفقراء والضعفاء، وهذا هو المطلوب في مجتمعاتنا اليوم، بعد أن تراجعت القيم وبات القوي يعتدي على حقوق الفقراء بلا رادع ذاتي او خارجي، اما في عهد الرسالة ودولة المسلمين الأولى، فكانت الحكومة الاسلامية في حينها، هي التي تقوم بسداد ديون المواطنين بعد موتهم اذا كان أهلهم غير قادرين على سدادها، ومن يموت ويترك وراءه اموالا، فإن الدولة لا تقرب منها، والحكومة لا تأخذ منها شيئا، إنما تترك تلك الاموال لورثة الميت، هذه الخطوة الحكومية آنذاك ساعدت على تماسك المجتمع مع بعضه من جهة ومع الحكومة من جهة اخرى، فتحققت تلك الانتصارات الكبرى وتسارع بناء الدولة والمجتمع بصورة قصوى.
وقد أكد سماحة المرجع الشيرازي على اهمية هذه الركيزة الأساسية واعطى الأولوية لتدعيم الأمن السلمي من خلال تحقيق الضمان الاجتماعي، حيث يقول سماحته: إن (الضمان الاجتماعي في الإسلام صبابة الإنسانية في قمّتها، ولذا فإنّ الإسلام حيث ينطلق من زاوية الإنسانية، يصب هذا الضمان بما يتوافق مع الإنسانية في أعمق أبعادها الفضيلة)، ويضيف سماحته المرجع: (إنّ كل من يموت وعليه ديون، فعلى إمام المسلمين أداء ديونه، وكل من يموت وله مال، فالمال كلّه لورثته، ليس لإمام المسلمين منه شيء).
هذا ما يحتاجه المسلمون اليوم، فعلى الرغم من قلّة الموارد في الماضي قياسا قياسا الى موارد الدول الاسلامية اليوم، لكن الحكومة كانت تتبنى مثل هذه القرارات الداعمة للأمن السلمي وتماسك المجتمع، وحتى يضمن الاسلام هذه الاهداف الاجتماعية الكبرى قام بسن التشريعات اللازمة لهذا الامر، فقد وردت نصوص كثيرة في الشريعة الاسلامية تعالج هذا الجانب، وتحث على اعطائه الاهمية القصوى، كي يعيش المسلمون حياتهم بكرامة وأمن وتوادّ وانسجام.
من هنا يبيّن سماحة المرجع الشيرازي لنا بعض النقاط التي تؤكد اهتمام الحكومة بتماسك مكونات المجتمع، يقول سماحته: (في نصوص الشريعة الإسلامية زخم كبير يدلّ على مدى اهتمام الإسلام بالتأكيد على هذا الجانب الاجتماعي المهم، حيث تكرر نقل ذلك عن نبي الإسلام صلی الله عليه و آله والأئمة من العترة الطاهرة عليهم السلام).
سبل التقدم والنجاح والاستقرار
وعن أمير المؤمنين علي (ع) يذكر سماحة المرجع الشيرازي: (ما كان رسول الله صلی الله عليه وآله ينزل من منبره، إلا قال - من ترك مالاً فلورثته، ومن ترك ديناً أو ضياعاً، فعليّ). وعن الإمام الصادق (ع) أنّه قال: من مات وترك ديناً، فعلينا دينه، وإلينا عياله، ومن مات وترك مالاً، فلورثته). والحقيقة أن مثل هذه التشريعات تفتقر لها جميع الدول المعاصرة وليس المسلمين فقط، ما يعني أن نموذج دولة الرسول (ص) تعد من أعظم نماذج الحكم وتدعيم السلم الاهلي وتمتين النسيج الاجتماعي وتماسكه.
بهذه السياسة العادلة والذكية، تمكن الرسول (ص) ومن بعده الامام علي (ع) من بناء دولة عظمى شهد لها اعداؤها قبل حلفائها، كما أن بناء المجتمع المتناغم والمنسجم والمتعاون كان من أهم ما سعت إليه الحكومة الاسلامية آنذاك ونجحت بالفعل في تحقيق الاهداف الاجتماعية المهمة، خاصة تلك التي تتعلق بالحفاظ على السلم الاهلي والمساواة من خلال تكافؤ الفرص بين الجميع، بعيدا عن تفضيل الذات مهما كانت دواعي ذلك.
بهذه الطريقة وهذا الاسلوب المتمدن كانت الحكومة تزرع قيم التآخي والعدالة بين مكونات المجتمع الاسلامي من اجل الحفاظ على كرامة الانسان، وعدم احتياجه للاخرين، علما اننا لو أجرينا مقارنة مع اكثر الدول تقدما واهتماما بالتعامل الانساني مع مواطنيها، فإننا لا يمكن ان نجد نظاما حكوميا يتعامل وفق هذه النظرة الانسانية التي كانت تعتمدها الدولة الاسلامية آنذاك، بسبب ايمانها بقيم العدالة والمساواة والتي ترى فيه سبيلا الى الحياة الحرة التي تصنع حالة التوازن المهمة بين الشرائح والطبقات المختلفة للمجتمع فضلا عن المكونات المتباينة من حيث الانتماء العرقي او الديني او المناطقي وما شابه.
هكذا نجحت حكومة الرسول (ص) في التعامل مع القيم الايجابية، ومنها تدعيم السلم الاهلي، وزرع الثقة بين مكونات المجتمع بعضها مع بعض من جهة، وبينها وبين الحكومة من جهة أخرى، وقد نجحت في ذلك، الامر الذي شكّل نموذجا رائعا للتعامل مع الحكم وممارسة السلطة، وهذا درس لا ينبغي أن يهمله قادة المسلمين في الحاضر، فالحقيقة التي لا تحتاج الى اثبات، ان من يضمن ثبات السلم الاهلي سوف يضمن سبيله نحو التقدم والنجاح والاستقرار.
اضف تعليق